ليس القصد من هذا العنوان الإثارة الصحافية التي ترافق أخبار الرئيس الأميركي بيل كلينتون مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي وتحقيق المحقق الخاص كينيث ستار، إنما القصد هو استعارة فحوى القضيتين، وهو "الفضيحة". إن فضيحة مونيكا وما أحدثته من تجريد لأقنعة الرئيس الأميركي وتجريد لمركز الرئاسة من هالتها وقدسيتها لدى الأميركيين، وما أحدثته من ترددات عنيفة وعميقة داخل المجتمع الأميركي، ليس أقل عنفاً من فضيحة أوسلو وما أحدثته، ولا تزال تحدثه من ترددات داخل الوسط الفلسطيني سواء من يعيش منهم في الشتات أو في داخل الأراضي المحتلة بكل تصنيفاتها "أ" و"ب" و"ج"، وقريباً "د"، عدا الانعكاسات السلبية التي لا تزال تتردد على الساحة العربية. كما ان القصد - وهو الأهم - هو المقارنة بين عمل أجهزة النظام الأميركي وعمل أجهزة النظام الفلسطيني مع حفظ الفوارق في تعامل كل منها مع "فضيحته". لقد عملت أجهزة النظام الأميركي مثل "بلدوزر": الكونغرس، الصحافة، التلفزيون، أجهزة قياس الرأي العام، المحقق الخاص، وزارة العدل، مكتب التحقيقات الفيديرالي، جميعها عملت من دون محاباة أو مواربة، وذلك للكشف عما إذا خالف الرئيس الأميركي أياَ من القوانين الأميركية، باعتبار أنه المؤتمن الأول على احترام وتنفيذ القوانين. إن منصب الرئاسة ليس فوق القانون - هذا ما أرادت أن تؤكده أجهزة النظام الأميركي. بالمقارنة، وبعد افتضاح الكثير من خلفيات اتفاقات أوسلو وما كتبه الباحثون والمشاركون فيها عن الاتصالات والاتفاقات اللاحقة، لم تظهر "المدحلة" الفلسطينية نشاطاً متناسباً مع تلك "الفضيحة". فالغالبية ظلت ساكتة، ومن تحرك اضطر إلى السكوت ترهيباً أو ترغيباً. وقلة قليلة هي التي لا تزال تؤمن بدورها التاريخي في محاربة هذه "الفضيحة". سيقول قائل إن المقارنة بين النظام الأميركي والنظام الفلسطيني مقارنة متعسفة، وعلى رغم أن في هذا القول بعض الصحة، يجب أن لا يغفل أن المقارنة تجد تبريرها في أن النظامين وجدا نفسيهما يدافعان عن قضية وجود مركزية للنظام. في أميركا. القضية المركزية هي سيادة القانون، وذلك مبدأ يتمسك به الأميركيون منذ عهد الاستقلال لضمان وجودهم كدولة كبرى وقوية. وفي الساحة الفلسطينية، فإنه لا قضية أقدس من القضية الوطنية لأنها تشكل المبرر الاخلاقي والقانوني لوجود واستمرار الشعب الفلسطيني كشعب ذي حقوق تاريخية ثابتة. لا جدوى من الدخول في متاهات مسلسل اتفاقات أوسلو وتعرجاتها التي هي أشبه ما تكون بالدهاليز التي يأباها الضوء. وأظن أن البعض ربما ضل الطريق إلى نقطة البداية أو نقاط البداية مع المفاوض الإسرائيلي الذي أغرقنا في تفصيل التفصيلات المتعلقة - على سبيل المثال - بالملحق الأول للمرفق الخامس من الاتفاقية الفرعية الثالثة والخاصة بالبند السادس من الملحق الخامس... الخ! ولو اختار المراقب الذي ينأى بنفسه عن متاهة التفصيلات أن يسجل أهم الأعراض التي ظهرت على الجسد الفلسطيني مع "وباء أوسلو"، لاختار الحقائق الثلاث الآتية: الحقيقة الأولى تتلخص في أن الشخص الوحيد الذي استوعب أوسلو، أو روح أوسلو، هو الرئيس ياسر عرفات. ولا يمكن القول إن أبا عمار قد فهم أوسلو من قراءته وتحليله للنصوص، لأنه ليس في إمكان فرد، مهما أوتي من علم، أن يلّم بذلك. الأرجح أنه استوعبها من لقاءاته مع مهندسي أوسلو الرئيسيين: شمعون بيريز واسحق رابين. وقد انعكس استيعابه روح أوسلو في سياساته التي يمارسها منذ وصوله إلى غزة عام 1994. وأوضح هذه السياسات أنه جمع مراكز القرار في يديه، فأصبح القرار الفلسطيني محشوراً في بؤرة واحدة، وفي الوقت الذي يتشنج فيه المجلس التشريعي ويحتج على أن الرئيس عرفات يهمل كل القرارات التي يتخذها المجلس، وان الرئيس قد أهمل حتى إصدار القانون الأساسي الذي أقره المجلس، يبدو واضحاً ان الرئيس يود أن يؤكد أن لا سلطة تشريعية في إمكانها اتخاذ أي قرار - حتى القرار بإصدار قانون أساسي أو التوصية بإصدار تراخيص تجارية - بمعزل عنه أو بتجاوزه. ولا بد أن المجلس التشريعي يعلم علم اليقين أنه صدر حتى الآن ما ينوف عن ستة عشر قراراً رئاسياً بتشكيل مؤسسات ألحقت بالرئاسة مباشرة. ومن المفهوم ان يلحق بالرئاسة - مثلاً - هيئة الأمن القومي، إلا أنه من غير المفهوم أن يلحق بالرئاسة - أي رئاسة - ديوان الموظفين والمجلس الصحي الأعلى وسلطة المياه وسلطة الكهرباء ومركز الاحصاء المركزي ومجلس التعليم العالي، كما هي الحال في مناطق الحكم الذاتي. وتشديداً على مسألة تركيز القرار في يد الرئيس عرفات، فإن الجهاز القضائي أصبح معطلاً أو ملحقاً، إلا في المسائل الثانوية. لقد صدرت قرارات رئاسية متتابعة بتعيين أو عزل أعضاء محكمة العدل العليا، وتعيين وعزل قاضي القضاة، وتعيين وعزل النائب العام بالاضافة الى القضاة الشرعيين، إن في هذه القرارات تعطيلاً لدور مجلس القضاء الأعلى، وشلّاً للسلطة القضائية وتقويضاً لصلاحياتها. لذا فهي محرومة من اتخاذ قرارات تتجاوز فيها صلاحيات الرئيس، ولا أدل على ذلك، مثلاً، من أن القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا في آب اغسطس 1996 بالافراج عن طلبة بيرزيت قد عطل بأمر من الرئيس الذي عزل رئيس المحكمة الذي أصدر قرار الافراج، وظل الطلاب في الاعتقال بعد ذلك فترة ليست قصيرة، وحين تم الافراج عنهم، تم ذلك بقرارات افرادية من الرئيس عرفات نفسه. من المؤكد أن عرفات قد مارس هذا التركيز الشديد في اتخاذ القرار وهو في الشتات، وربما كانت له مبرراته، وكان البعض يجد له أيضاً مسوغات تبررها ضرورة الشتات والمهاجر وحالات الحصار. أما الآن، فإن الحديث عن تأسيس دولة لا يتناغم مع هذا السلوك. فالدولة بحاجة إلى مؤسسات تشارك في إعداد القرار وصياغته وصنعه وترجمته. ومن يطالب بدولة، لا شك أنه يدرك أهمية المبادرة في انشاء هذه المؤسسات وإعدادها لمهمات الدولة. لذلك فإن التبرير الأقرب منطقاً هو ان مركزة القرار أصبحت من متطلبات أوسلو وربما وجد عرفات والإسرائيليون - وكل له أسبابه - ان هذا الاسلوب هو الأمثل للتعايش مع أوسلو وافرازات أوسلو. أما الحقيقة الثانية فهي أن الفساد الذي يستشري وينمو في جهاز السلطة ليس صدفة. فما نقرأه ونسمعه ونعرفه ان هذا الفساد المتفشي ليس استثناءاً في مسار صحيح، بل هو المسار الأعم والاصيل. ولا تدعو الحاجة لأن نذهب إلى تقارير لجان محلية أو أجنبية لكي نتعلم عن حوادث الفساد في السلطة، بل أن التقرير الرسمي للسلطة الفلسطينية هو المرجع الذي فيه ما يكفي من مؤونة للحديث عن الفساد. ويؤكد التقرير الرسمي ان الفساد ليس مقتصراً على الرشوة والعمولات وتبديد المال العام، بل هو أشمل وأعمّ ويتجلى في إساءة استخدام النفوذ والتدخل غير المبرر في أجهزة المجتمع المدني، والمحسوبية والاحتكارات والامتيازات وتقاسم المغانم والابتزاز وجر المكاسب والمنافع الشخصية والعائلية. وتأكيداً لمقولة ان الفساد الذي يشوّه السلطة الفلسطينية ليس صدفة، لا بد من الاشارة إلى الأزمة الأخيرة التي وقعت ما بين المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية. إذ أصرّ المجلس على استقالة الوزراء الواردة اسماؤهم في التقرير الرسمي، وطلب المجلس من الرئيس إعادة تشكيل حكومته لينال الثقة على أساسها. وبعد مداولات وتأخيرات عديدة قدم الرئيس عرفات قائمة باسماء أعضاء حكومته الجديدة، فإذا بها تضم - بالاضافة إلى الوزراء الذين حامت حولهم شبهات الفساد - وزراء آخرين ليسوا جميعاً "أكثر بياضاً" من سابقيهم، وإن كان منهم من له أياد بيضاء لا يأتيها الشك من قريب أو بعيد. إن الرئيس عرفات يدرك تمام الادراك لماذا أقدم على هذه الخطوة، وهو أمهر لاعب في الساحة الفلسطينية. ومن المحتمل أن يكون قد اراد توجيه رسالة إلى المجلس التشريعي، إلا أن إصرار عرفات على الاحتفاظ بالوزراء المتهمين، وإضافة آخرين إليهم، يكاد يؤكد أن الفساد "مطلب أوسلوي"، إذ لا يمكن الاستمرار في لعبة أوسلو التي تبدو لا نهاية لها، إلا بطاقم غير مهتم في غالبيته بالقضية الوطنية قدر اهتمامه بالمكاسب الشخصية وإحراز المزيد من المواقع والامتيازات الشخصية. وتجدر الاشارة الى ان عرفات نفسه يعيش حياة بسيطة متقشفة ولم يعرف عنه أنه تلوث بالمكاسب الشخصية والمنافع الذاتية، إلا أنه قادر قدرة فائقة على اجتذاب عناصر لا تتماشى مع نمط حياته وسلوكه، بل تأباه بشدة. أما الحقيقة الثالثة التي تظهر على السطح من "غنيمة" أوسلو فهي "الارهاب". إن انتشار أربعة عشر جهازاً للمخابرات وبتسميات مختلفة، ليس أقلها طرافة جهاز "أمن البحرية" ومقره نابلس، قد أحدث رعباً هائلاً في أوساط الناس. والناس في الأراضي المحتلة، بعد حياة دامت حوالي ثلاثة عقود في ظل احتلال عنصري شرس، قد "أدمنت" الارهاب. إلا أن ارهاب الأجهزة الفلسطينية فريد في نوعه، من حيث أن المتهم لا يستطيع ان يعلم الجهة التي اعتقلته أو بموجب أي تهمة تم اعتقاله. والبحث عن المعتقل من جانب أهله وذويه مسألة أصبحت في غاية المشقة، لأن الأهل لا يعلمون إلى أي جهة يلجأون وأحياناً يتم تسجيل المتهم باسم غير اسمه الحقيقي لاخفائه عن أهله. وما يزيد الارهاب ارهاباً، ان التنسيق بين الأجهزة الأمنية مفقود، وان عدم خضوع هذه الأجهزة إلى جهاز مركزي يتصف بالضبط والربط يجعل الوضع في غاية التشاؤم والقتامة وكثرت حوادث القتل تحت التعذيب. إن التأثير المباشر الذي نتج عن هذا السلوك ليس إحداث جو سوداوي في مناطق الحكم الذاتي فحسب، بل أدى كذلك إلى حال عدم تماسك في المجتمع الفلسطيني. ولو قارنّا بين وضع المجتمع الفلسطيني في ظل الانتفاضة لا سيما في مراحلها الأولى ووضع المجتمع الفلسطيني الحالي، نجد ان اللحمة في الحال الأولى كانت متميزة. بينما في الحال الثانية أصبح المثل القائل "انج سعد فقد هلك سعيد" سيد الموقف. في ظل الانتفاضة كان الناس يمتثلون لأوامر قيادة مغيبة مجهولة غير معروفة الاسماء ومن دون اللجوء لأجهزة شرطة أو مخابرات سرية. اما في ظل السلطة، فإن القيادة معروفة والمسؤولين معروفون، ولكن الشعور العام شعور نفور وتوتر. إن انتشار أجهزة المخابرات وتكاثرها وعدم انضباطها أدت إلى تقويض التلاحم الاجتماعي. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل: هل حقاً وجود أربعة عشر جهازاً للمخابرات لمناطق الحكم الذاتي ضرورة اجتماعية أم "متطلب أوسلوي"؟ إذا كان المجتمع الفلسطيني قد نهض بمهماته الوطنية من دون وجود أي جهاز قمعي قبيل وصول أوسلو ورجالها، فما الحاجة إلى هذا الكم الهائل من الأجهزة إن لم يكن من افرازات أوسلو ومتطلباتها؟! من جماع هذه الحقائق يظهر جلياً ان افرازات أوسلو أصبحت أشد خطراً على القضية الوطنية من اعلان بلفور، والانتداب وقرار التقسيم والاحتلالات الإسرائيلية المتواصلة. لقد ولدّت أوسلو سلسلة من المخابث الضارة أولها تمركز السلطة وما استتبع ذلك من خلق مراكز قوى يصعب مراقبتها، وثاني المخابث انتشار الفساد بحيث أصبح السماسرة أقرب إلى مركز القرار من الفعاليات الحقيقية، وثالث المخابث هذا الارهاب الأعمى الذي يشلّ قدرات المجتمع المدني على التطور والنماء، ولا يزال يستشري بدون رادع. وإذا احتاجت بقعة واحدة على فستان مونيكا لمختبر مكتب التحقيقات الفيديرالي لتحليلها. فكم من المختبرات يحتاج الفلسطينيون لتحليل "البقع" التي تلطخ اتفاقات أوسلو؟! إن هذا يستدعي تنشيط أجهزة النظام الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية ومراكز البحث والفعاليات الفلسطينية لمناقشة العواقب الوخيمة التي جاءت بها اتفاقات أوسلو ورد آثارها السلبية قبل استفحالها. إن هذه مهمة وطنية فلسطينية ملحة، كما هي مهمة قومية عربية. * محام فلسطيني مقيم في عمّان، الأردن.