أول ما أرتني دليلة المريخ، من صور كوكبها، صورة الجوالة وهي تتأهب للنزول الى سطح المريخ على السكة التي مدتها الحاضنة خلفها وأمامها. كانت الحجارة جالسة في موقع الهبوط تنتظر قرار الدليلة - نساء داكنات جلسن القرفصاء منتظرات على الابواب بين بيت الذكرى وشارع النسيان. كانت العربة حمراء، والسماء رمادية، والارض الزرقاء فوق الأفق لا تُرى من وضح النهار، وكان أفق المريخ في هذا الموضع يرسمه تلاّن متدانيان. رأيت هذه الصورة الاولى بعيني الحاضنة. وكانتا ترتفعان على سارية، من جذع وعنق، قامتها خمسة اقدام. وكان الى جانب السارية الناظرة، غصن معدني، وقرص كوجه دوّار الشمس، هما هوائيا الاتصال مع الارض، تراها دليلة المريخ كما نرى المريخ - نجمة حائرة في ليال من صفاء السماء. وكان الى الخلف واليمين من سارية العينين ساق طويلة عليها حاسّات تقيس سرعة الريح وحرارةالهواء. وكذلك كان للجوالة عينان، وقد أرتني بهما بين ما أرتني من مشهد المريخ، بُعيد نزولها على سكة الحاضنة، صورة الحاضنة، بتلاتها مفتوحة للشمس كوجه اليقظان، و نسيج الكرات الابيض مبسوط، تحتها وحولها، غطاء على سريرها في وادي الطوفان، وآثار أولى من عجلات الجوالة على تراب المريخ، تمتد حبل سرة واصلًا، ما زال، بين البتلات والسداة - آثار عجلات هي اول توقيع خطه المهندسون على المريخ بجسد الاشياء. ثم تواترت الصور بعدهما، منها ما يرينا بسيطة المريخ وسماءه بعيني الحاضنة، وهي أغلبها، ومنها ما يريناهما بعيني الجوالة. أما هذه فكانت تنتقل مسافة قدمين كل دقيقة، من حجر الى حجر، تبحث، وتنقب، وتقيس، وتبث الى الحاصنة ما ترى وتجد، وهذه تبث الى الارض ما تريان وتجدان. ليست الصور بجالية لكل الاسرار. وصور مناظر المريخ، على روعتها وسحرها، لم تخرج عن هذا الناموس في الطبيعة والانسان. إذ لم يكن في صور المريخ التي رأيناها، ببصر الدليلة، الثابت منه والجوال، ان هواء المريخ غير هواء، وان تراب المريخ غير تراب. وان لبعض الحجارة عليه، من حجارة الارض بعض قربى ليست للغبار، وان قوة الجاذبية على المريخ ثلثها على الارض، وان ضغط الهواء هنالك عُشُرهُ عندنا، وان الريح تعصف في فلواته وعلى قممه فلا يشعر بها رمل ولا حجر، لخفّة هوائها، وضعف الضغط فيه، وان الحرارة عليه تتفاضل درجات عديدة بين السطح وما لا يزيد ارتفاعاً عن خمسة اقدام. هذا ولم يكن في صور المريخ شيء عن حاضر الماء أو ماضيه، اللهم الا زرقة في حمرة رأيتها في صورة السماء عند الفجر قبل طلوع الشمس فوق الأفق - زرقة هي انتثار الضوء على جزئيات من جليد الماء، تعلّق بالغبار المؤكسد الذي يهب المريخ حمرة الآجر في التراب والسماء. لا ولم يكن في صور المريخ ان يومه كيوم على الارض، وان عامه كعامين، وان فيه اربعة فصول، وان جليد القطبين ماء في قطب الشمال وثاني أكسيد الفحم في قطب الجنوب. لا، ولم تكن الموجودات المشهودة في صور البقعة المصطفاة للهبوط على المريخ الا موجودات محضة لم تجر عليها التسمية قطّ. أعني انها كانت اشياء بلا اسماء. * * * إيماءة من أبي الفتح عثمان بن جنّي: في فصل جميل، من كتابه "الخصائص"، عن أصل اللغة: أتوقيف هي أم اصطلاح؟ كتب ابن جنّي في معرضه لحجج من قال بالمواضعة والاصطلاح ان "على هذا ]أي على المواضعة[ ما نشاهده من اختراع الصنّاع لآلات صنائعهم من الاسماء، كالنجّار والصائغ والحائك والبنّاء، وكذلك الملاّح. قال: ولكن لا بدّ لأولها من ان يكون متواضعاً بالمشاهدة والإيماء. * * * يستعين المهندس بالمجاز لإبداع التصميم، ثم يذهب بالمجاز الى أقصاه، فيثبته في الكيان، ويكتبه بجسد الاشياء. ان ينجح في هذه الكتابة هو، اولاً، ان يضيف الى عالم الاشياء ما لم يكن فيه من ذي قبل. وهو، ثانياً، ان يوسّع عالم المعاني إذ يوسّع عالم الآلات. وهو، ثالثاً، ان يبني، عن حق مأخوذ، لهذه المعاني والآلات بيوتاً جديدة يسكنها فيها، هي بيوت الاسماء. الكتابة بجسد الاشياء هي أصعب الكتابات. لانها تلك الكتابة التي تريد، في مجاز وردة المريخ مثلاً، ان تكون زاوية الدليلة، وهي تلج سماء المريخ، اربع عشرة درجة لا غير، اذا زادت شعرة ردّت السماء الدليلة الى تيه الفضاء، واذا نقصت شعرة احترقت الدليلة قبل ان تصل الى غايتها من رحلة الصيف والشتاء. وهي الكتابة التي ترينا صوراً تبث من ثلاثمائة مليوم ميل كأنها تبث من غرفة في الدار. وهي الكتابة التي تغزل لقاء الاجرام وهي تسبح في أفلاكها، هذا جرم الدليلة يفلت من جاذبية الارض، وذاك جرم المريخ تتلقف جاذبيته الدليلة بعد رحلة سبعة اشهر وثلاثمائة مليون ميل. انها الكتابة التي تجعل من الجوالة مصوّرة، منقبة، وباحثة. تفاوض الحجر على السبيل، أو تمتحن صفاته لتعرف من اي العناصر هي. تقوم بكل هذا وهي في جوّ غريب غير جوّ الارض، كل قدرتها من الشمس، ولكن تكاد ان تكون كل حركتها من ذاتها، أعني من درسها لمحيطها بالحاسات، وتخطيطها للوجهة، والسرعة، ومواضع العجلات. على كل هذه الآلات تواضع المهندسون من ملاحي المريخ في اختراع الاسماء. حتى الجوالة اختاروا لها اسم علم هو Sojourner Truth تيمنا بمن كانت في القرن الماضي داعية الى المساواة العرقية في أمريكا، سائحةً بين ولاياتها تنذر وتبشّر. أقول: وأول ما تواضع عليه المهندسون من الاسماء لما أخذوا ينظرون بعيني الدليلة الى بيداء المريخ هو اسم "روض الصخور"، أطلقوه على موضع كثرت فيه الحجارة قرب الحاضنة. فتأمل كيف ان مجاز الوردة أعانهم على التصميم، ثم توسّع لهم فأعانهم على التعليم. ثم انعكف المهندسون على تسمية الحجارة المحيطة بالدليلة حجراً حجراً. يسمونها باسماء ألفوها مما علق بذاكرتهم من أعلام وجماد. ولا عجب، فان تسمية الغريب باسماء المألوف اول حسن الصلة واول الشعور براحة الوصول. على انهم لم يخرجوا، وهم في عرس الكلمات، عن ان يكونوا في براءة اطفال يسمون ألعاباً حصلوا عليها لتوّهم، وإن تكن بعيدة عنهم ملايين الاميال. هذا، وقد كان لهم، في كل يوم، واحد منهم، يدعونه "شيخ المسمّين" يأخذ ما رفعوا، الى الاشياء المشهودة في صورها، من جديد الاسماء، فيعرضها على شروط اتفقوا عليها، فيسقط من الاسماء الجديدة ما لا يفي بالشروط، ويقرّ ما تبقى اسماء جديدة على سبيل المواضعة والاصطلاح. أقول: ولو ان أبا الفتح أراد مثالاً كيف تكون المواضعة في اللغة بالمشاهدة والايماء، لما وجد خيراً من هذا المثال. وأذكر انّي انكببت الصيف الماضي على بعض صور المريخ هذه، وكانت مبذولة على الإنترنت لكل مهتم. فرحت على شاكلة إخواني المهندسين اسمّي الصخور باسماء من عندي آلفها. وكنت أومىء وأشير الى الحجارة، وأقول هذه هي الضحوك، وهذه الصماء، وهذه العذبة، وهذه المستورة، وهذه جبهة حائط، وهذه البلاطة، وهذه الشعرة، وهذه بنت الرحى، وهذه الرشيدة، وهذه أم الحصى. وقد شهدوا في صورة رملاً مركوماً، فسمّوه كثيب الحورية، وسمّيته "أوراك الحسان". اما التلاّن التوأمان اللذان رسما أفق المريخ في احدى الصور، فدعوتهما "النيربين". وقد كنت احدّث نفسي بشجرة، تظهر فجأة على نهدة من الغلاة، في صورة تبثّها الجوالة من المريخ وهي تنتقل غير مكترثة بما ترى، فأسمّي الموضع "الربوة"، وأسمّي الشجرة "ياسمين". غير اني قبضت على عينيّ الهاربتين بين الصور، ونظرت بهما الى ما فيها من مناظر بيداء قاحلة حمراء، وألفيت نفسي أقول: "هذه بيداء لم تعرفك يا أبا الطيّب". * * * اذن في الابداع الهندسي، المبدع هو المسمّي، اما في الابداع الشعري، فالمبدع ساكن في الكون المسمّى. ليس همّ الانسان الصانع ان يبدع الاشياء فحسب، بل همّه كذلك ان يدخلها في بيوت الاسماء. وليس همّ الانسان الشاعر ان يبتكر المجاز تلو المجاز فحسب، بل همّه كذلك ان يلتصق بالاشياء التصاق الصانع بها، لما كانت محض مشروع في المادة، عارية من لباس الألفاظ. أعني ان من شوق الشاعر ان يخرج الاشياء من الأسماء، ويقف معها في البرزخ حيث لا مسمّى، بل شيء ومشيئة فحسب - شيء الصانع ومشيئة الشاعر. في موقف البرزخ هذا عودة الى البراءة مع الاشياء، وإياب الى حالنا مع صور الجوّالة نرى فيها اشياء لا أسماء لها لاول مرة في تاريخ الانسان. وفي موقف البرزخ هذا، يصبح الشعر ممكناً تاماً، وتنفتح امام الشاعر ابواب المجاز. أقتفي خطا ابن جنّي فأضيء ظليل ما أقول بثنائيته حول القول والكلام انظر اوّل كتاب الخصائص: باب القول على الفصل بين الكلام والقول: الإنسان الصانع، اذ يُدخل الاشياء في اسمائها، يدخلها في القول فحسب. اما الشاعر فيريد ما هو أتمّ من القول - هو يريد الكلام. أو قل، مع الكاتب الاميركي هنري ميلر، إن ما يعني الشاعر هو اللغة، وليس الكلمات. في قصيدة لأدونيس عنوانها "البرزخ" لازمة شعرية مهمة: "تخرجُ الاشياءُ من اسمائها، لا اسمّيها، ولكن...". هي النواة المجازية التي تنمو حولها القصيدة طبقة من المعنى فوق طبقة. موقف البرزخ هو، اولاً، ان تعود الاشياء الى إبانها والصانع معها قبل ان يسميها. وهو، ثانياً، ان يستدرك الشاعر ولكن بعد تعليق التسمية، فيطلق المجاز حتى تحلّ اللغة محل الكلمات ميلر، ويأخذ الكلام مكان القول ابن جنّي. ثم ألم يعلّق ابو الفتح الحُكم على اصل اللغة: أمواضعة هي أم إلهام؟ ونزلة منزلة بين المنزلتين؟ فكأنه ترك للإنسان الصانع حرية إدخال الاشياء في بيوت الاسماء، وترك للانسان الشاعر حرية نزعها منها حين يشاء. والشاعر، إذ ينزع هذه الاسماء، يضع نفسه في منزلة آدم الفردوس والاسماء لما تعرّض عليه. وهو، إذ يعلّق التسمية، يجعل كلّ اللغات ممكنات في القلب واللسان، وكلّ اشياء العالم واجبات الحضور في الزمان والمكان. وهو، إذ لا يسمّي، يبقى في عالم من خالص رؤية وسماع وعلم وفهم وكشف - عالم الصورة التي وصلت لتوّها، بثّتها سداة ذات عجلات من على سطح المريخ. على ان موقف البرزخ هو موقف كل مبدع وهو يتهيأ امام بشارة المجاز. أولم يَقِفْهُ ذلك المهندس الفلكيّ، وهو ينتظر إشارة البشارة بسلام وصول دليلة المريخ الى المريخ؟ أما وقد تحدثت في هذا المقال عن مجاز الوردة التي تفتحت على سطح المريخ، وعن الاشياء التي أدخلها المهندسون الفلكيون في بيوت الاسماء، فما أنسب أن أختم هذا القدر منه بهذا المقطع من أول قصيدة البرزخ: "يخرُجُ الشيءُ على اسمائِهِ لا اُسمّيه، ولكن قلّد الوردُ يَدَ الشاعِرِ واستسلَمَ للماءِ الذي قلَّدَ نهرَ الرغباتْ فقُلِ الآنَ لِلَيلِ الكلماتْ: أنتَ نورٌ آخرٌ يقْتَحِمُ الفجرَ عليهْ سأُحيّي وردةً يحمِلُها الشعرُ اليه -". * عضو الهيئة الباحثة في مختبرات آي. بي. إم نيويورك - الولاياتالمتحدة.