تنتمي هدى بركات الى الجيل الروائي اللبناني الجديد الذي تمكّن خلال السنوات العشر الأخيرة ان يرسّخ معالم جديدة للرواية اللبنانية تختلف عن المعالم الاولى التي رسّخها الروّاد والذين أعقبوهم. عالمها الروائي رحب وعميق على الرغم من نهوضه على خرائب الحرب اللبنانية، ولغتها حيّة ونابضة عمادها وقع الحياة اليومية. أما شخصياتها فتعيش مأساتها الخاصة بين الواقع والحلم، بين الشك والوعي. روايتها الثالثة صدرت حديثاً عن "دار النهار" في بيروت وعنوانها "حارث المياه". وكانت صدرت قبل اسابيع في القاهرة طبعتان مصريتان لروايتيها السابقتين "حجر الضحك" و"أهل الهوى" في سلسلة "آفاق الكتابة" الهيئة العامة لقصور الثقافة. وخلال اسابيع تصدرالترجمة الفرنسية لروايتها "أهل الهوى" عن دار "أكت سود" في باريس. هنا حوار معها: بدأت في تجربة القصة القصيرة وأوّل كتاب صدر لك عام 1984 تحت عنوان "زائرات" كان مجموعة من القصص. لماذا توقّفت عن كتابة القصّة؟ - كانت فعلاً قصة قصيرة طويلة، وكنت أكتبها منذ زمن طويل. وجدت عندي نصوص كثيرة ولكنني كنت أخاف من النشر. وفي يوم وأنا في عمر معيّن، ربما في الثانية والثلاثين، قرّرت أن أراجع كل النصوص كي أقوم بنوع من التقييم وأن أتخلّى عن الكتابات السيئة، فجمّعت النصوص التي شعرت بأنها قريبة من بعضها وقسّمتها الى ثلاثة فصول كبرى وكانت مقاطع من حياة نساء ووضعهن مباشرة قبل القصف خلال الحرب في لبنان. كان ذلك لي، نوعاً من التمرين على الكتابة ومن التمرين على النشر من دون أن تكون لديّ القناعة بأنني سأستمر في كتابة القصة القصيرة. كنت أخاف من الانطلاق في الرواية، ولغاية اليوم، لا أزال أشعر بأن الرواية عمل صعب جداً وبناؤها معقد وتشكّل مغامرة كبرى، كما كنت أرى بأن ليس من حاجة لإضافة شيء الى أطنان الورق العربي الذي كانت تقذفه المطابع كل سنة. مع كتاب "زائرات"، قمت بنوع من التجربة المتواضعة اعتبرتها ك"جسّ نبض" لأسلوبي الخاص وسررت فعلاً عندما قرأه الناس برغبة وكُتبت عنه مقالات جميلة. بدأت، إذاً، بالكتابة مع الحرب في لبنان؟ - بدأت قبل الحرب بكثير ولكنني كنت أكتب كالذين يسمّونهم "موهوبين" في المدرسة. كنت أكتب النصوص القصيرة والشعرية ولكنني كنت أعرف أن تلك الكتابات الأولى لم تكن صالحة للنشر. وفي الحقيقة، لم أكن أحبّ كلمة "الكاتبة" في ثقافتنا وفي بلدنا. كنت أشعر بأنني أكثر خجلاً اجتماعياً من أن أُعرّف نفسي كأديبة، ولا أعرف لماذا كان عندي حذر كبير من أن أحمل لقباً من هذا النوع. لماذا؟ هل لأنك كنت تعتبرين بأن الأدبيات والكاتبات عندنا حاضرات في شكل اجتماعي أكثر من سواهنّ؟ - صحيح، هذا كان السبب. كنت أشعر بأن الكتابة توصل الى الشهرة وتفتح أبواباً اجتماعية وتخلق حضوراً أنثوياً معيناً. ولم أكن أحسّ أبداً أنني أشابه هذا السلوك الاجتماعي فأنا بطبيعتي منعزلة وأصدقائي قليلون. وبعد "زائرات"، جاءت رواية "حجر الضحك" وكنت لا تزالين تعيشين في بيروت! - كنت أكتب وأربّي ولديّ الاثنين اللذين كانا، في تلك المرحلة، صغيرين. ونظراً الى مشاغلي كأمّ والى الحرب ووظيفتي في المدرسة، تطلّبت كتابة الرواية الأولى أربع سنوات وربما أكثر. وبالطبع، كان الخوف بأنني، في النهاية، لن أرضى عن هذه المغامرة التي تألّفت من 250 صفحة كي تُضاف على الرواية العربية وقد أتخلّى عنها. وكنت أفكّر دائماً بضرورة تأجيل النشر كي يُسمح لي أن أُعيد العمل على النصّ. بعد نشر القصص القصيرة، أحسست بأنك أصحبت قادرة على الدخول الى الرواية وكأنك كسرت محظوراً؟ - لم تكن عندي تلك الثقة الفعلية بأنني دخلت الى ميدان الرواية العربية، ومن دون أن يكون عندي الادعاء الكبير بأنها ستكون رواية عظيمة، شعرت بأن في إمكانها أن تكون بين الروايات الجيدة التي ستصدر. عملت كثيراً على بنيتها، والأمر الذي أفرحني فيما بعد هو توقّف النقاد عند هذه النقطة فأشاروا الى أن بنية الرواية مدروسة وشبه هندسية. وفي هذه الرواية، كما في رواياتي الأخرى، لا أروي ما عشته فهي ليست سيرة بل عمل تأليفي كامل. وبالتالي، تصبح السيطرة الذهنية على الرواية، في تركيبها، ضرورية جداً، الشخصية المخترعة وكل ما يُخبر يتبع هذا البناء الذهني الذي يأخذ وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً لترتيبه كي لا يشعر القارىء بالجهد الذي وُضع. ولم تتوقعّي التجاوب الذي حصل والاهتمام بهذه الرواية التي لقيت نجاحاً كبيراً وترجمت لاحقاً الى لغات عدّة؟ - عندما نشرت "حجر الضحك"، كنت انتقلت للعيش في باريس ولم تصلني ردود الفعل الحقيقية لأنني كنت بعيدة. وتدريجاً، رحت أتلقى المقالات النقدية عبر أصدقاء ولكنني أخذت وقتاً طويلاً قبل أن أعرف، شخصياً، تأثير هذه الرواية على القراء. ولغاية الآن، لا أزال أتعجّب عندما أسمع بأن القراء في مناطق عربية بعيدة بدأوا بمتابعتي منذ تلك الرواية كما أنني لا أزال أُفاجأ بالتلقّي الجميل لها عندما تُترجم الى لغة ما. ربما لأنها أصبحت بعيدة عني في الزمن، وأصبح همّي الكتابيّ في مكان آخر ان في الموضوع أو في تقنية الكتابة الروائية. في روايتك الثانية، "أهل الهوى"، يشعر المرء أنك دخلت في نمط آخر من الكتابة وكان النص بكامله خرج دفعة واحدة. يبدو لي كأنك، في كل رواية، تعملين بطريقة مختلفة ذلك ان الثالثة التي ستصدر قريباً تحمل أيضاً نمطاً آخر؟ - بالضبط، في كل رواية أشعر أنني أقوم بقفزة تجاه نفسي وليس بالضرورة أن تكون قفزة الى الأمام: أغيّر الموضوع وأغيّر طريقة معالجته وأغيّر تركيبته. وجميل جداً أن تقولي أن "أهل الهوى" تبدو وكأنها خرجت دفعة واحدة، ولكنها أخذت أربع سنوات أيضاً. قد يعني ذلك أنها ربما ناجحة، عندما يشعر القارىء بأنها مكتوبة بنفس واحد. طريقتي في الكتابة هي أنني أترك الرواية عندما تنتهي أو عندما أعرف انها انتهت لبضعة أشهر، ثم أعود اليها وأعيد كتابتها كلها من أجل الحفاظ على الإحساس ب"النضارة" والإحساس بالقراءة دفعة واحدة. وعلى كل حال، تقنية "أهل الهوى" تختلف عن "حجر الضحك" وشخصياتها كذلك. والأسلوب يختلف أيضاً؟ - طبعاً، لأنني أعتقد بأن الكل يجب أن يلحق بعضه. الكاتب ذاته موجود ولكن، في كل مرّة، يُظهر وجهاً من وجوهه. وبما أنني، في كل عمل، أخلق عالماً جديداً. بشخصيات جديدة وبأحداث جديدة، فالتكوين الكامل يجب أن يكون متناسقاً. هل هذا هو السبب في أخذك الوقت الكافي بين كل رواية وأخرى؟ - آخذ الوقت كي أنضج بعد العمل الذي أكون كتبته، اضافة الى المشاكل العملية والحياتية في باريس التي لا تسمح بالتفرّغ. وعلى كل حال، يحمل هذا الوضع حسناته لأنني لا أستطيع أن أكون متفرّغة وأن أكتب تحت وطأة عقد مع دار نشر كي أصدر كتاباً كل سنة أو كل سنتين. لا اعتقد بأن هناك أي ضرورة كي يزيد المرء عدد كتبه وهو لا يحقّق شيئاً جديداً، ولا يشتغل على نفسه ولا يراكم ما يكفي من التجارب. طبعاً، بعد مرور عمر معيّن، يكتب المرء تجربة تصل معه الى عتبة ما، فيصبح بإمكانه الكتابة أكثر من دون الانتظار أربع أو خمس سنوات. ولكن، في مرحلة الكتابة الأولى، بين الثلاثين والأربعين، الغزارة في الكتابة تبدو لي صعبة. أعتقد بأن الرواية تحتاج الى نضج معيّن وهذا النضج له علاقة بالعمر. هناك روايات عظيمة صدرت عن كتّاب شباب ولكنها كانت غالباً روايتهم الأولى ولم يتمكّنوا، في الثانية، أن يحقّقوا عملاً جديداً ومختلفاً. الروايات الكبرى التي نحبّها وُضعت في عمر معيّن، الأكثرية الساحقة على الأقلّ. في كل مرّة أروي عن شخصية جديدة، أكتشف أموراً في داخلي لا أعرفها. وعندما أقول أنني لا أروي أبداً سيرة ذاتية، أعود وأتساءل الى أي مدى يمكن الفصل بين رواية عن سيرة ذاتية أو عن حدث معيش بشكل ذاتي أو عن شخصية مختلفة مئة في المئة. لا نعرف أين هي الحدود، والأمر مثير للغاية أن يكتشف الكاتب، في كل مرّة، موقعه من شخصياته: لماذا اختار تلك الشخصية، لماذا اختار تلك الكتابة التي تحتوي على درجة كبرى من العنف أو من المرارة؟... كتبت "أهل الهوى" في باريس وأعتقد أن إقامتي البعيدة من بيروت سمحت لي أن أكتب بطريقة أفضل عن بيروت. شعرت بحرية أكبر كي أعمّق الأمر الذي تربيت عليه وتعلّمته في لبنان وأصبح بإمكاني أن أفهم التجربة وأن أتحكّم بها. في روايتك الثالثة، يحسّ القارىء أنك دخلت في الموضوع بطريقة أعمق وذهبت الى مدى أبعد بكثير. ولكن، لماذا الروايات الثلاث، كل واحدة بطريقة مختلفة تماماً عن الأخرى، لا تتكلم إلا عن مرحلة معيّنة هي الحرب اللبنانية؟ هل كانت هذه التجربة فظيعة الى درجة لا يمكنك إلا خوضها؟ - حتى اليوم، لا أعتقد بأنني أعرف ما الذي فعلته بي الحرب. ولكن الموضوع الحقيقي هو أنني تكوّنت في الحرب. لم أكن كائناً مكتملاً وصل الى سنّ البلوغ وكانت له تجربته في الحياة فلم تدخل الحرب الى عمق نفسيّته وتجربته الإنسانية، الى عمق معرفته أو وعيه بالعالم. بدأت الحرب وكنت ما لبثت أن أنهيت دراساتي الجامعية، حتى أن تربيتي كانت لا تزال صوريّة ومبدئية ونظرية. كنت أنظر الى ما يحصل وبالكاد أستطيع استيعابه، وربّما الكتابة هي شكل من أشكال استيعاب ما حصل. أعتقد بأن تجربة الحرب اللبنانية فريدة ليس لأنها حصلت في بيروت أو في لبنان أو في الشرق أو بالنسبة لتاريخنا الحديث، بل في المدى الذي وصلت اليه بتعريفنا على شرط انساني جديد. ووعي الكتّاب من وعي الشعوب يختلّ كثيراً عندما تحصل حالات قصوى مثل الحروب، ويظهر دائماً أدب ما بعد الحرب وأدب ما بين الحربين... لأنّ في كل مرّة يأتي حدث بهذه القوة أو وعي بهذه القوة، تختلّ القناعات السابقة وتختلف القيم نفسها فأسلوب التعامل وأسلوب الكتابة أيضاً يختلفان. أعتقد أن الحرب اللبنانية هي من التجارب التي لم نستوعبها بعد وبالتالي لا نستطيع الكتابة عنها بعد كما يُفترض أن يكتب عنها. ورواياتي لا تعالج موضوع الحرب مباشرة، بل حالات الإنسان وما يمكنه أن يقوم به وفظاعة الطبيعة البشرية وكيف يمكنها أن تصل الى أبعاد غير محسوبة. وأريد أن أضيف بأن كتابة الروائيين اللبنانيين الجدد لن تكون أحداثها بالضرورة من الحرب، ولكن الأمر الأكيد هو ان اختلافاً حقيقياً حصل بين الرواية اللبنانية ما قبل الحرب والرواية اللبنانية ما بعد الحرب لأن هذه الحرب وقعت. هل تشعرين أن في استطاعتك الاستمرار في الكتابة عن هذه التجربة؟ - ربما لن استمر في الكتابة عن هذه التجربة، وإنما سأستمر من دون شك في كتابة ما علمتني اياه هذه التجربة، أي كيف صرت أرى الإنسان وأرى العلاقات البشرية، وماذا أصبح يعني لي المكان؟... كل ما سأخترعه سيأتي من الرؤية الأساسية التي زوّدتني بها الحرب في لبنان. في عودة للمكان، يشعر القارىء أن المكان في روايتك الجديدة، "حارث المياه"، أصبح مركّزاً في حين كان متحرّكاً في الروايتين السابقتين وكأنك قمت بالغوص الفعليّ. هل هذا صحيح؟ - صحيح. دخلت بنواة المركز، في الأسواق التجارية في بيروت، وقمت بمزيد من الغوص في هذا المكان خصوصاً وأنه لم يعد موجوداً. أسلوب الرواية يجمع بين الخرافي وبين واقعية جديدة من دون التمادي بأي اتجاه في الاثنين. منذ صغري، كانت منطقة وسط بيروت والأسواق متخيّلة لأنني لم أعرفها فعلياً، وعندما التحقت بالجامعة كنت أزورها دائماً لأنني كنت أجد فيها كمية من العناصر المختلفة وكأنها كانت قلباً كبيراً يأتي اليه الدم من كل الجوانب كي يعيد ضخّه. وكانت كثرة الناس والضجة والصخب في الوسط مغرية للغاية بالنسبة لي، وعندما اندلعت الحرب وبدأت في الأسواق وتكسّر المكان، تحوّلت الضجة في رأسي فوراً الى صمت وفراغ كبيرين. وبقي هذا المكان يحمل نوعاً من الخرافة في قرارتي وكنت دائماً أتساءل، والحرب تستمرّ وتمتد، ما الذي حصل، كيف تغيّر بعيداً عنا، بعيداً عن الناس؟ وكنت أفكر، ومن هنا بدأت فكرة الرواية، أن عين الاعصار هو أكثر الأمكنة هدوءاً وفي وسطه يمكن مشاهدة السماء الزرقاء والشمس النقية والتمتع بالنسيم العليل. وبعدما انتقلت خطوط التماس الى المناطق المحيطة بوسط المدينة وأصبحت الحرب تتنقل من مكان الى آخر، كنت أفكّر بأن تلك الغابة - لأن الوسط تحوّل الى غابة في رأسي - ذاك المكان بالذات هو أكثر الأمكنة سكوناً في المدينة يحمل صمتاً خرافياً، غامضاً وسرياً، والذي كان غائباً عن البلد بكامله. الأمر اللافت، في رواياتك الثلاث، ان البطل رجل، وتتكلمين دائماً بالمذكر وبلسان رجل. هل تعتبرين بأن الفاصل بين كتابة نسائية وكتابة ذكورية غير موجود؟ - ربما موجود، وهناك كتابة نسائية عندما يكون الموضوع هو موضوع معاناة المرأة، تدافع فيه عن شيء خاص بالمرأة كي تقول مغزى معيّناً. ولكن خارج إطار الدفاع عن فكرة معينة أو عن وضع اجتماعي جنسي معيّن، لم تعد هذه الرواية نسائية حتى وان كتبتها امرأة. لماذا أعود دائماً الى المذكّر؟ في الحقيقة، لا أعرف. أوّل شخصية تركب في رأسي هي دائماً شخصية رجل ولكنه رجل خاص يحمل ملامح لا يمكن لكاتب رجل أن يخترعها كما أن لغته ملتبسة: هو ليس رجلاً فقط، بل هو رجل تكتبه امرأة، وهذه اللغة تغويني كثيراً وكذلك يغويني، من خلال الكتابة، اكتشاف كيف يمكن لرجل أن يفكّر بي أو يفكّر عن امرأة أخرى أو يحبّ أو يشتهي امرأة أخرى... أعرف كيف تخرج منّي هذه الأفعال ولكنني أجهل كيف تأتي إليّ، ما هي نظرة الرجل تجاهي، كيف اشتهاؤه، رغبته، كيف خياله؟ أقوم بنوع من الاكتشاف عندما أكتب، وفي ذلك تكمن متعة الكتابة. وفي بعض الحالات، العقدة لا تتركّب في أن تكون الشخصية الرئيسية امرأة. ولكن الشخصيات النسائية، في رواياتي، تبدو هامشية ولكن وجودها طاغ وهي تترك نوعاً من الأمثولة وتترك عند الشخصية المذكرة وعند القارىء قوة غيابها، وغالباً ما يسجّل الغياب قوّة أكبر من الشخص الحاضر، فتظهر الشخصية الرئيسية وكأنها هي الثانوية عند الانتهاء من القراءة