الروائي الياس خوري هو اللبناني الثاني الذي يفوز بإحدى جوائز فلسطين بعد السيدة فيروز التي فازت العام الماضي بجائزة القدس. وإن كان الوحيد غير الفلسطيني هذه السنة بين الفائزين، فأن روايته "باب الشمس" عمل فلسطيني بامتياز، في معنى أنها تحفر في عمق الذاكرة الفلسطينية لتعيد صوغها في صنيع روائي مميّز. هنا يتحدث الياس خوري عن الجائزة وفلسطين: ماذا يعني أن تفوز ككاتب لبناني، بجائزة فلسطين للرواية؟ - الحقيقة ان الفائز ليس أنا، بل رواية "باب الشمس". وهذا التمييز ليس شكلياً، لأن العلاقة بين الكاتب والنص ملتبسة ومعقدة. من يكتب من؟ هل يكتب الكاتب نصه، أم أن النص هو الذي يكتب كاتبه؟ هل نكتب أم ننكتب؟ ومع ذلك، فأنا الذي كتب، والرواية نالت جائزة، والواقع أن الجائزة الحقيقية نالتها "باب الشمس" من القراء والنقاد أولاً. فلقد أدهشتني ردود الفعل المختلفة على الرواية. ربما لأنها حكت ما لم يحك وروت ما لم يروَ حتى الآن، أو ربما لأنها كانت تجربة انسانية عميقة نبعت من الحياة التي يعيشها الناس في المخيمات والقرى المحتلة. أما حكاية لبنانيتي، فواقع لا مفرّ منه. لقد كادت الآثار السيئة للحرب الأهلية في لبنان، وللانحطاط العربي الشامل أن تنسينا أننا أدباء عرب. فاللبناني يكتب العربية وينتمي بذلك الى مدى ثقافي واسع يتجاوز الحدود بين الأوطان. هذا لا يعني أن الهوية الوطنية لا معنى لها بالنسبة لي، بل على العكس، فهي نقطة المنطلق، فأنا لولا بيروت وتجربتها لما كنت شيئاً. وحين ننغرس فعلاً في تجربتنا المعيشة، نكتشف أن الحدود التي تفصل بين اللبنانيوالفلسطيني هي مجرد حدود وهمية. تجربة بيروت كانت تجربة لبنانيةوفلسطينية، وحين حاولت كتابتها، اكتشفت أن الكتابة تستطيع الوصول الى عمق الكلام المسكوت عنه أو الذي لا يكتب. فكانت "باب الشمس" رحلة شخصية قمت بها الى تجربتي الفلسطينية. وفي التجربة تعرفت الى يونس ونهيلة وخليل ومشمس، ومئات الشخصيات التي ملأت أوراقي واحتلت مساحات روحي. لكني أجد في سؤالك تعبيراً عن واقع عشناه ونعيشه اليوم في لبنان، حيث أصبح الموضوع الفلسطيني شبه ممنوع. المخيمات التي تعاني ما تعاني صارت مفصولة عن حياتنا وإعلامنا، والقضية المهددة اليوم بالاستيطان والاستسلام والخنوع غائبة عن اهتمامنا. لذلك، ربما، مرت الجائزة في الصحافة اللبنانية، وكأنها لم تكن، وجرى تهميشها، كأن لا أحد يريد الكلام عن فلسطين. مع أن الجائزة نفسها منحت في العام الماضي للسيدة فيروز. ماذا تمثل الجائزة بالنسبة لك، انطلاقاً من كونها تمنح في الداخل؟ - "باب الشمس" هي حكاية حب. انها محاولة لاستعادة ذاكرة رجل دخل في الغيبوبة. فلسطين تستفيق من غيبوبتها، كما كتب ادوارد سعيد في كتابه "مسألة فلسطين". هذه الاستفاقة هي يقظة حب أو يقظة من أجل الحب. يونس النائم على سريره في المستشفى داخل مخيم شاتيلا في بيروت، يأخذنا الى عشقه الجليلي عبر رحلاته الى قرية دير الأسد. وخليل الذي يستنطقه ذاكرته ويعيد حكايتها يذهب هو أيضاً الى حبه الذي تمزق أشلاء عبر موت شمس. والحب لا حدود له، لأنه يفتح الكلام ويفتتحه. بهذا المعنى لا تعود الحدود المرسومة بين الداخل والخارج ذات معنى. فالتجربة تعيش في دواخل الناس، والقرى التي تهدمت أو امحت، ما تزال حية في عيون الأحياء والموتى. بهذا المعنى فالداخل لا يعطي صك براءة أو بطولة لأحد. هل نستطيع تخيّل الانتفاضة لولا صمود بيروت، وهل نستطيع أن نفهم نفسية الأطفال الذين يرمون الحجارة لولا صبرا وشاتيلا. الجائزة بالنسبة لي، هي الإسم. هذه الرواية استحقت اسمها الفلسطيني وعليها أن تحمله الى الأبد. وحين أعلن محمود درويش منحي الجائزة شعرت أن العصافير التي كانت تموت في الجليل، وجدت أعشاشها في مغارة باب الشمس، وشعرت أن الحصان الذي ترك وحيداً هناك، وجد طريقه الى الحب والحياة، وأحسست أن أبطال حبيبي وكنفاني يدخلون رواية "باب الشمس" ويعيدون كتابتها من جديد. ترجع علاقتك بالقضية الفلسطينية، في الرواية، الى جذور القضية، وتعيد قراءتها تاريخياً، هل أضحى التعامل مع القضية الفلسطينية برأيك ملائماً أو متاحاً من الناحية التاريخية؟ - "باب الشمس" ليست رواية تاريخية، صحيح أنني استندت كثيراً الى الوثائق التاريخية كي أجمع شتات الذاكرات المتنوعة وأربطها بالحقيقة، لكني لم أؤرخ لفلسطين. ففلسطين تملك أفضل المؤرخين في العالم العربي. لكني فتحت ذاكرة النكبة. حاولت، انطلاقاً من تجربة ملموسة في قرى الجليل قضاء عكا، أن افتح الكلام على "الذاكرة الخصبة"، بحسب تعبير ميشال خليفة في فيلمه الرائع الذي يحمل هذا العنوان. لا أدري لماذا لم تُكتب هذه الذاكرة حتى الآن. اميل حبيبي لامسها في "المتشائل"، وكنفاني اقترب منها في "عائد الى حيفا" و"العاشق"، لكنها بقيت معلقة بين الشفهي والمكتوب. ربما لأن الإيديولوجية التي هيمنت على الفلسطينيين بعد النكبة هي ايديولوجية اللاجىء. اللجوء انتظار مؤقت، ولا يستدعي المس بالذاكرة. فالكتابة كما نفهم لا تنقل الكلام أو تجسده فقط، بل تقوم بتحويله. اللاجىء ترك الكلام معلقاً في الانتظار. أما اليوم، فإن فكرة اللاجىء تنزاح لتحل مكانها فكرة المنفى، خصوصاً بعد الخيبات الكبرى والهزائم والاتفاقات والانحدار. المنفى عكس اللجوء يدعو الى الكتابة. فمن دون الذاكرة المكتوبة يصبح المنفى فارغاً من المعنى. في الحقيقة، لقد اكتشفت انفجار الذاكرة في المخيمات التي عملت فيها، خلال المرحلة التحضيرية للرواية. هناك في شاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة، رأيت كيف انفجرت الذاكرة الفلسطينية أمامي، كنت ألتقط الحكايات وأستمع اليها وأرى العيون التي تحكي. العيون هي مرايا الذاكرة. وحين كتبت هذا النثار الحكائي، كنت أشعر وكأننا نروي الحكاية الفلسطينية للمرة الأولى. المنتصر يكتب التاريخ، أما المهزوم فعليه على الأقل أن يكتب الحكاية، كي يبدأ منها عملية استعادة تاريخه