المعمرون في العالم بدأوا يدقون أبواب المستقبل ليحتلوا فيه مساحة أوسع باعتبار ما طرأ على أعدادهم من زيادة في السنوات المتتالية بسبب التقدم المذهل في رعاية الانسان والعناية به، خصوصاً في مجال الصحة العامة والصحة الشخصية على مستوى العالم كله. فالموت الذي لا ينهزم ضاقت حدوده بعد تضييق الخناق على سلطانه، فلم يعد يحصد من الرقاب بالنسب نفسها التي كان يمارس بها اختصاصاته في الماضي، فأصبح الناس أطول عمراً وترتب على ذلك ان العالم اصبح يتوقع ان يبلغ عدد المعمرين بعد سن الستين في العام 2025 ستة أمثال ما كان عليه عدد نظرائهم في العام 1950 حين لم تكن اعدادهم تتجاوز مئتي مليون نسمة، بينما عدد الذين يتجاوزون الثمانين من العمر سوف يتضاعف عشر مرات. والامر على ما فيه من بشرى للأقارب، الا انه لا يخلو من تحذيرات وتخوفات كثيرة أهمها ان العالم سيصبح أكثر شيخوخة عما كان بسبب زيادة عدد المسنين فيه. فبينما لم تكن نسبة المسنين تتجاوز ثمانية في المئة في عام 1950 فإن هذه النسبة ستصل الى 14 في المئة في عام 2025. وشاعت ظاهرة المعمرين في الدول المتقدمة يصاحبها انخفاض في معدلات المواليد وتحسن في مستويات المعيشة. ولعلنا نستطيع بشيء من القياس ان نتخيل ان هذا الوضع سوف يبدأ في الظهور في الدول المتخلفة بسبب انخفاض معدلات الوفيات في معظم الدول الاسيوية ودول اميركا اللاتينية. اما في ما يتعلق بأفريقيا - حيث معدلات وفيات المواليد لا تزال عالية نوعاً - فإنه من المنتظر ألا تظهر للمعمرين مشكلة قبل بداية العقد الثاني من القرن المقبل. ويذكر أن عدد المسنين في العالم في العام 1950 كان نصفه من نصيب المجتمعات المتقدمة ونصفه الآخر من نصيب المجتمعات المتخلفة، وظل الحال كذلك حتى العام 1975. ولكن المتوقع مستقبلاً ان يكون نصيب الدول المتخلفة بحدود العام 2000 قريباً من 62 في المئة من كل سكان العالم ثم 72 في المئة مع اقتراب حلول العام 2025 من اجمالي عدد المسنين في العالم 4،1 بليون نسمة. ولعل من أبرز آثار زيادة أعداد المعمرين على مر السنين اضطرار العاملين من السكان الى تخصيص اجزاء اكبر من دخولهم لإعالة هؤلاء المعمرين من ذوي القربى، ما قد يترتب عليه نوع من التوتر الاجتماعي داخل العائلات ذاتها. ومن هنا تبدو أهمية ما يجب ان يطرأ على نظم التأمينات الاجتماعية من تغيرات. ومن ثم فإن الأمل معقود على تقهقر اعداد ذوي الاعمار الصغيرة المستحقين للإعالة شأنهم في ذلك شأن كبار السن، وبالتالي يمكن أن يحدث نوع من التوازن بين نقص اعداد من هم دون الخامسة عشرة من العمر وزيادة أعداد من هم فوق الستين، وبذلك يعوض أحدهما الآخر. و من المتوقع أن متوسط عدد العاملين لكل متقاعد سوف يهبط في الدول المتقدمة من خمسة أشخاص الى ثلاثة. إلا ان نسبة المسنين الى جملة السكان ليست الا عاملاً واحداً في تكييف وتهيئة برامج التأمينات الاجتماعية وإنجاحها. فمن بين العوامل الاخرى بخلاف ذلك يمكننا أن نذكر: أ - حجم المعاشات. ب - العمر الذي يحل التقاعد عنده ويستحق المعاش. ج - معدلات المساهمة في سوق العمل. د - مستويات الأجور. ه - معدلات البطالة. و - معدلات التضخم. ز - معدلات النمو الكلي للاقتصاد القومي. أي ان مستويات المعيشة للمسنين لا تتحدد بالعوامل الديموغرافية وحدها وإنما هناك عوامل اخرى. ومن ثم فليس المعمرون ولا زيادة أعداد المعمرين عذراً كافياً للتقتير في المعاشات. والمسألة عموماً لا يمكن تجاهلها لا اليوم ولا غداً ليس بسبب أعداد المسنين فقط ولا بسبب احجام المعاشات فقط وانما ايضا بسبب الانخفاض الملحوظ في نسبة مساهمة المسنين في سوق العمل. وساعد الكساد العام على تفعيل هذا الانخفاض ومضاعفته. وفي ضوء هذه الظروف لم تعد فكرة اعتزال الخدمة مبكراً فكرة حكيمة، وثبت ذلك بعد ان لوحظ انخفاض عمر الاحالة الى التقاعد عند المسنين في بعض الدول الاوروبية فنلندا - المانيا - هولندا ست سنوات كاملة دون السن المقرر للتقاعد قانوناً، وانخفض معدل المساهمة في سوق العمل بين المسنين من 81 في المئة الى 23 في المئة في هولندا بين 1960 و1990. وكانت هذه الظاهرة مكلفة من زاويتين لأن المسنين لم تنخفض فقط مساهمتهم الاقتصادية، بل أصبح يتعين أيضاً أن يحصلوا على معاشات مبكرة. كما وان تقرير منظمة العمل الدولية عن العام 1995 يشير الى ان هذا الاعتزال المبكر أثار شكوكاً كثيرة حول ما كان يقال تقليدياً وتلقائياً من ان كبار السن أقل انتاجية وأكثر كلفة من صغارهم وذلك بافتراض ان تقدمهم في السن يساهم في تقادم مهاراتهم وانخفاض انتاجيتهم بينما هم يتقاضون اجوراً عالية تتناسب مع مكانتهم ومقاماتهم. وثبت أن هذا ليس بالضرورة صحيحاً، لأنه وان كانت أجورهم عالية فهذه الأجور لا تواصل ارتفاعها الى نهاية حياتهم العملية. اما موضوع انخفاض انتاجيتهم فهو أمر ليس مقطوعاً به بالضرورة في كل الاحوال. ويستمر القلق حول موضوع المعمرين، فالناس يعيشون سنوات اطول، اذ زادت توقعات الحياة بين 1950 و1990 من 46 عاماً الى 63 عاماً، وانخفضت معدلات الخصوبة بين هذين العامين من 38 في الالف الى 27 واعالة العاملين لغير العاملين من السكان نسبة الاعالة آخذة في الانخفاض. اذ يتوقع لهذه النسبة ان تصل بحلول العام 2025 الى 5،1 شخص من السكان لكل عامل في غرب اوروبا والى 4،2 شخص في شرق آسيا. ويعتبر الوضع جديرا بالاهتمام في الدول الصناعية الاقدم وان كانت الدول غير الصناعية ليست في وضع افضل. يبقى أن نتذكر أن مجتمعات الرفاهة انما تنشأ عموماً تحت مظلة التأمينات الاجتماعية، فقد احرزت اليابان أعلى معدل للبقاء على قيد الحياة في العالم كله إذ بلغ فيها هذا المتوسط 5،82 سنة للاناث و2،76 سنة للذكور. وتشهد اليابان انخفاضاً سريعاً في معدلات المواليد. ومن المتوقع أن تنتقل الدول الصناعية من وضع كانت فيه نسبة المسنين 65 عاماً من العمر واحداً لكل احد عشر شخصاً من جملة السكان في العام 1990 الى واحد لكل اربعة بحلول العام 2025. اما في الدول المتخلفة فإن نظام التأمين على كبار السن عادة ما يقتصر على من يعملون في القطاع الرسمي بأجر، وعلى الباقين السلام. هذه هي بعض المعالم السريعة لحزمة المشاكل التي تواجه الدول المتقدمة وغير المتقدمة من جراء زيادة عدد المعمرين في ما يمكن ان يسمى في الأدبيات ذات العلاقة: "اقتصاديات المعمرين". * أستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.