على الرغم من أنني من غير المتعاطفين مع النظام السوداني الحالي، على نقيض بعض إسلاميينا العرب، لأسباب عدة، ليس أهمها ذلك الافتعال المستمر لمعارك وهمية باسم "الإسلام" سواء مع أبناء الوطن أو مع الجيران، لم أملك إلا أن أتعاطف وبشدة مع "الشعب السوداني"، عندما تعرض للضربة الجوية الاميركية بحجة الرد على الإرهاب تارة، وبحجة إنتاجه، من خلال المصنع الذي ضُرب مصنع دار الشفاء للأدوية، لأسلحة كيماوية، وأظن أن أي إنسان سوي، ناهيك عن كونه عربياً أو مسلماً ويمتلك عقلاً طبيعياً يميز به الحق من الباطل، لا يملك إلا أن يقف الموقف نفسه. الآن، وبعد أن هدأت الأمور قليلاً، لا يزال متخلفاً عن غبار هذه الواقعة بعض الآثار التي تتداولها الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، وتحديداً الاميركية، ومع الأسف يتماشى معها "الإعلام العربي" في أغلبه. حارفاً القضية عن أصولها، والخلل عن أساسه: والذي نقصده بذلك هو انسياق وسائل الإعلام العربية والعديد من مسؤولينا وديبلوماسيينا، بل المسؤولين السودانيين أنفسهم، خلف هذا "الفخ السياسي الأميركي" الذي رُسم بدقة. إذ أثارت الولاياتالمتحدة، وبتنسيق كامل مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، قضية أن هذا المصنع الذي ضُرب في الخرطوم، كان ينتج أسلحة كيماوية، وأنه لذلك استحق أن يُضرب. والذي يستوقف المراقب المحايد، والانسان الطبيعي، هنا، سؤال أساسي: وما المشكلة في كون السودان ينتج أو لا ينتج أسلحة كيماوية أو حتى نووية ما دام لا يوظفها في الاعتداء على الدول الأخرى؟ أليس إنتاج واستخدام السلاح داخل حدود الدولة، هو من حقوق السيادة البديهية التي تنص عليها المواثيق والأعراف الدولية كافة؟. ثم، في المقابل، وبالمنطق المعوج نفسه، هل يحق للنظام السوداني أن يتهم "إسرائيل" أو "الولاياتالمتحدة" ذاتها بأنها دولة إرهابية تستحق ارسال صواريخ "كروز" وتدمير مصانعها لأنها تنتج أسلحة كيماوية؟ وهل إذا فعل النظام السوداني ذلك سيستطيع أحد أن يمنع سادة البيت الأبيض، والمراقبين جميعاً من أن يضحكوا سخرية واستهزاء من ذلك النظام الساذج الذي سمح لنفسه بمجرد أن يفكر في طرح السؤال أو تصوره؟!. إذن... لماذا تنساق نخبتنا المثقفة والمُسيّسة، وأنظمتنا غير الديموقراطية - ومن بينها النظام السوداني - الى هذا الفخ الأميركي، الذي يصرفها وبقوة عن أصل القضية، الذي يقول ببساطة إن ثمة إرهاب دولة وبلطجة دولية مُورست بعنف ضد الشعبين السوداني والأفغاني من دون مُسوغ قانوني ومن دون امتلاك أدلة دامغة. أصل القضية هو أن هناك "إرهاب دولة" مُورس على الضعفاء ومن الواجب دولياً ردعه، أو لا يلومن إلا نفسه إذا ما مارس هؤلاء الضعفاء عليه مستقبلا إرهاباً مضاداً أو متفرقاً يمتد من "السفارات" الى "المجمعات التجارية"، فالخلل هو أصل الفعل هنا على أية حال. ومن أصل القضية الى فرعها: من حق السودان، وغير السودان أن ينتج اسلحة كيماوية، وتقليدية ونووية ما دام لا يؤذي بها أحداً، وما دام أحد لم يفوض الولاياتالمتحدة أن تقوم بدور "البلطجي" أو الحكم بين دول العالم واسلحته وقيمه ومصالحه! الحديث الدائم عن الإرهاب الدولي، واستمرار إلصاقه بجماعات التشدد الإسلامي، لا ينم عن عقل سليم، أو ضمير يقظ، وبخاصة في الغرب الذي طالما عايرنا بامتلاكه لهذين المقومين، وبفقداننا عربياً أو شرقياً لهما: العقل والضمير. إذ من غير المعقول أو المقبول أن يتم توصيف كل دفاع عن النفس مثلاً بأنه "إرهاب" أو كل مقاومة وطنية - نموذج حزب الله والجهاد الفلسطيني وحماس - بأنها إرهاب، في حين لا يتم الصاق التهمة ذاتها بدولة كاملة توظف كل طاقتها في مجال الإرهاب والعدوان، ولأكثر من خمسين عاماً متواصلة إسرائيل!. هذه الازدواجية في "العقل" و"الضمير" الغربي، هي التي تنتج لنا ذلك الانحراف المتعمد في مناقشة القضايا، وذلك التفاني الغربي في صرف الأنظار عن أصل الأمور، الى فروعها التي لا قيمة لها ولا معنى؟ * كاتب مصري.