أسرة حسام الدين تحتفي بعقد قران أحمد ويوسف    انهيار مبنى إثر حريق ضخم في الأرجنتين    الأمين العام لمجلس التعاون يهنئ خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد بمناسبة ذكرى يوم التأسيس    رباعي هجوم الاتحاد .. الأقوى    صقورنا في مهمة عبور (سور) الصين    جابر ل«عكاظ»: الأخطاء الدفاعية ستحسم «الكلاسيكو»    القيادة الإماراتية تهنئ خادم الحرمين وولي العهد بمناسبة ذكرى يوم التأسيس    "السعودية في العصر الرقمي: من جذور التأسيس إلى ريادة المستقبل"    وزارة الداخلية تحصل على جائزة المنتدى السعودي للإعلام (2025) في مسار الأنشطة الاتصالية الإعلامية عن حملة "لا حج بلا تصريح"    العز والعزوة.. فخر وانتماء    يوم التأسيس السعودي: ملحمة تاريخية تجسد هوية الوطن    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق تداولاتها على تراجع    بدعوة كريمة من ولي العهد.. انعقاد اللقاء الأخوي التشاوري في مدينة الرياض    كأس السعودية للخيل| "سكوتلاند يارد" يتألق بلقب كأس طويق    الملاكمون يواجهون الميزان في الرياض قبل ليلة الحسم لنزال "The Last Crescendo" اليوم السبت    اكتشاف النفط.. قصة إرادة التنمية السعودية    السعودية.. أعظم وحدة في العصر الحديث    إخماد حريق للغابات بمقاطعة "جانجوون" في كوريا الجنوبية    "يوم التأسيس".. ذكرى راسخة لتاريخ عريق.. الشعب يحتفي.. ويفتخر    الدرعية.. ابتدينا واعتلينا    انخفاض درجات الحرارة في عدد من مناطق المملكة    يوم التأسيس: امتداد لحضارةٍ مستدامة وعريقة    «الأسواق الناشئة».. السعودية تعالج تحديات اقتصاد العالم    فهد العجلان: يوم التأسيس يجسد مسيرة الكفاح وبناء دولة عصرية    تأسيس الحوكمة.. السعودية تحلق في فضاءات «الرقمنة»    «أنوار المباني» شاهد عيان على التنمية المستدامة    يوم التأسيس.. جذور التاريخ ورؤية المستقبل    لائحة الأحوال الشخصية تنظم «العضل» و«المهور» ونفقة «المحضون» وغياب الولي    الدولة الأولى ورعاية الحرمين    غبار المكابح أخطر من عادم السيارات    السعودية منارة الأمل والتميز الطبي    وزير الاتصالات يجتمع بقادة كبرى الشركات العالمية    من التأسيس إلى تنمية الإنسان.. جذورٌ راسخةٌ وقيمٌ شامخة    ذكرى التأسيس.. بناءٌ وتكريس    سفير جيبوتي: التأسيس نقطة انطلاق نحو نهضة حضارية وسياسية عظيمة    السعودية.. «حجر الزاوية» في النظام الإقليمي    مدرب الاتفاق ينتقد رونالدو ودوران    الفتح أول المتأهلين لممتاز كبار اليد    يوم بدينا    السعودية من التأسيس إلى معجزة القرن ال 21    الماضي ومسؤولية المستقبل    من الدرعية إلى الأفق.. يوم التأسيس ورحلة المجد السعودي    الخطة أن نبقى أحياء بين المؤسسين عبدالرحمن الداخل ومحمد بن سعود    في يوم التأسيس نستذكر تاريخ هذه الدولة العريق وأمجادها الشامخة    ضبط شخصين في الرياض لترويجهما مواد مخدرة    مدير عام فرع هيئة الهلال الأحمر بمنطقة القصيم يلتقي بمكتبه مدير الدفاع المدني    شرطة الرياض: القبض على يمنيين لمخالفتهما نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    وزارة الشؤون الإسلامية تنظم ندوة علميّة تزامناً مع ذكرى يوم التأسيس    قادة الخليج والأردن ومصر يتوافدون لعاصمة القرار العربي    زيارة "فريق الوعي الصحي التطوعي" التابع لجمعية واعي جازان لمؤسسة دار رعاية الفتيات    قرارات ترمب المتطرفة تفاقم العزلة الدولية وتشعل التهديدات الداخلية    كبار علماء الأمة يثمنون رعاية خادم الحرمين لمؤتمر بناء الجسور بين المذاهب    احتمالية الإصابة بالسرطان قد تتحدد قبل الولادة    عم إبراهيم علوي في ذمة الله    الهرمونات البديلة علاج توقف تبويض للإناث    الصداع العنقودي أشد إيلاما    قطر تؤكد أن استقرار المنطقة والعالم مرتبط بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التائه . . .
نشر في الحياة يوم 18 - 09 - 1998

لم أطق الانتظار لحظة واحدة في مواجهة جثة سعيد التائه مسجاة فوق بلاط المخزن بعد أن أحاطها عمال المدبغة بالثلج، ووضعوا أمامها مروحتين كهربائيتين، واحدة فوق رأسه، والثانية أسفل قدميه، فقط نظرت إلى ما أتمه العمال، لأتحقق من أن ما نصحني به موظف مكتب الصحة قد تم على أكمل وجه.
كنت قلت له وأنا أتعجل حضور الطبيب للكشف على الميت ومنحي إذن دفن وشهادة وفاة إن الحرارة الشديدة في هذا الصيف الفظيع، ستجعل الجثة تتعفن، وأن الرائحة سوف تنتشر في كل مكان، وربما لن يتمكن الطبيب نفسه من إتمام الكشف إذا انتظرت الجثة للصباح. كانت الساعة حوالي العاشرة مساءً، وهذا الموظف بالذات ذهبت إليه في منزله، وهو الذي أطلعني على عنوان منزل الطبيب، فذهبت إليه على الفور.
كان التائه في كل تصرفاته منذ أن وعيت على الدنيا، وكما تبلور المعنى أمامي الآن فقط، ينتظر موتاً قريباً بشكل ما مع الطريقة التي ترقد بها جثته الآن، تحت أربعة ألواح من الثلج تم تكسيرها ونثرها فوقه، وهواء مروحتين كهربائيتين لا تتوقفان، ولا أحد يبدي أي قدر من الحزن، بل أن البهجة كادت تعم المدبغة والمخزن وسائر المدابغ المجاورة. لقد هتف العامل الذي كلفته بالسهر عليه وهو يقفز مهرولاً باتجاه مكتبي في مدخل المدبغة ناقلاً الخبر: "مات التائه، مات التائه"، وكأنه يزف بشرى وليد. ولم تخرج ردود الأفعال من أي أحد، حتى مني أنا شخصياً عن جملة "لقد أستراح".
من المؤكد أن التائه لم يكن ينتظر أكثر من هذا، فلم يرتب لشيء، وساعة احتضاره لم يكن في سترته سوى نصف علبة سجائر وبضعة جنيهات. لقد قال لي أبي مؤسس هذه المدبغة، كما أنني قد لاحظت منذ وطأتها أقدامي "لو أن التائه أدخر أقل من نصف ما وصله من نقود لأصبح الآن من الأغنياء".
كان شديد الحرص على إنفاق النقود بنفس درجة حرصه على انتزاعها والتحايل في الحصول عليها. ولكن التائه الذي كان يجد متعته في منح إكراميات لمن يخدمونه في المقهى أو لمتسول بائس، لم يعرف متعاً كبيرة، فهو لم يخرج أبداً عن دائرة قطرها كيلو متر واحد مركزها المدبغة. سألته إن كان له أهل في أي مكان، فأجابني بأن له أهلاً في محافظة المنيا وله عائلة كبيرة. وألح عليه: أين هم؟ ولماذا لا يسأل أحد عنك؟ وإذا مت سنبلغ من؟ فيجيب: لا أسأل عنهم ولا يسألون عني، لقد قاطعتهم، فقلوبهم سوداء. حاولت خاصة في فترة مرضه الأخير أن أنقب عن أحد من بلدته وسألت كثيرين ينحدرون من المنيا ولا يفيدني أحد".
أما"التائه" فلم يكن اسمه، وانما اطلقه عليه عمال المدابغ في المنطقة بعد أن اكتشفوا أن سعيد لا يحمل بطاقة شخصية أو شهادة ميلاد أو أية أوراق رسمية، لقد رفض أبي طرده من المدبغة بعد أن فشلت كل محاولات استخراج بطاقة شخصية له، كان التائه يتولى تنظيف المخزن وترتيبه نهاراً، ويمضي أمسياته في مقاهي المنطقة أو التسكع على قدميه بين شوارعها وأزقتها، ثم يعود ليقضي ليله بين النوم واليقظة في كل السنوات الماضية، في المكان نفسه الذي توجد به جثته الآن، وفوقها قطع الثلج والمروحتان الكهربائيتان. لقد ألفت التائه واعتبرته أحد دروس الحياة، وبشكل ما مثَّل لي مدى قدرة ماكينة الإهمال على العمل، كما حط في عيني من قدر الإنسان الذي هو في النهاية لن يحصل على شيء، وأن كل ألوان الحياة يمكنها أن تتحقق في الدائرة التي قطرها كيلو متر واحد والتي يعيش فيها التائه، وبما لا يقل عن تحققها لأي شخص آخر يكون في مقدوره أن يضع قدمه في قارات الدنيا الخمس.
لم يكن التائه قديساً، بل عرفت له إنحرافات صغيرة لم تكن بأي حال ستؤدي الى كارثة، فسكت عنها كما سكت عنها أبي من قبل، وعندما أمسك السل بصدره لم يتوقف عن التدخين، كما لم يطلب الذهاب الى طبيب. ولما أصبح سعاله مصدر إزعاج للجميع أرسلته الى مستشفى قصر العيني الذي اكتشف أطباؤه أن التائه في مرحلة متأخرة من المرض. وبعد عناية فائقة تم تركيب جهاز تنفس صناعي في جانب رئته اليمنى، ورغم تنبيههم له بعدم نزع هذا الجهاز إلا أنه نزعه وتوجه الى صيدلية ضمدوا له الفتحة في جانب صدره الأيمن بعد أن أوهمهم بأنه أصطدم في بوابة محطة الاتوبيس النهري.
وفي المدابغ أبلغ الجميع بأنه شفي تماماً ولم يعد بحاجة إلى الجهاز، ولم تمض أيام حتى صارحني بالحقيقة، وتوسل إليّ لكي يموت هنا وليس في المستشفى حتى لا يشرحوا جثته ليتدرب عليها طلبة الطب ولا يدفنوه أبداً. وإذا ما دفن بعد شهور طويلة، كما قال لي بمنطقه الخاص، لن يدفن بالكامل، حيث سيكون الطحال في درج طالب والقلب في دولاب طالب آخر والكبد في يد طالبة والأمعاء واللسان للممرضات، و . . حتى صرخت فيه وأنا لا أتمكن من التوقف عن الضحك "سأتقيأ، أخرج من هنا"، وبدأت أعود الى شراء الأدوية التي كان يتعاطاها في المستشفى. ولكن حالته ازدادت سوءاً، فقد تلوث الجرح الناجم عن نزع جهاز التنفس الصناعي. أنا لم أر الجرح، ولكن العمال الذين رأوه أقسموا أن به ديداناً صغيرة. أنتاب عمال المدبغة حالة استثنائية من الحرص على النظافة الشخصية. فأنا وإن كنت رفضت مصافحة أحد دخل يوماً المخزن الذي يرقد فيه التائه مريضاً، فإن كل عامل في المدبغة لم يعد يتحرك خطوة واحدة من دون صابونة يحملها في جيبه، وهم دائماً هناك لدى حنفيات المياه وبشكل منتظم. ومنذ أيام وبدافع من الفضول ومن فتحة صغيرة لباب المخزن لاحظت أن التائه ربما يكون في حالة احتضار، فاتصلت هاتفياً بالاسعاف المركزي، وحضرت سيارة إسعاف حملته الى مستشفى قصر العيني، وسرت خلفها بسيارتي، وركب معي بعض العمال، رفض مستشفى قصر العيني استلام التائه ونصح أطباء الطوارىء فيه بالذهاب الى مستشفى الصدر التي رفض اطباؤها بدورهم إستلامه كذلك. فقررنا العودة إلى مستشفى قصر العيني، وفي الطريق تعطلت سيارة الاسعاف، فنزل من بها وساعدهم عمال المدبغة لدفع السيارة المعطلة. ولم أعرف من أين انشق الشارع عن مصور صحفي ظل يلتقط الصور، ولما اقتربت منه وجدته بدأ حديثاً مع سائق سيارة الأسعاف بعد أن صوره، شكا له السائق من أن كل سيارات الاسعاف قديمة وبحاجة إلى قطع غيار، كما أن السائقين لا يحصلون على حوافز ومكافآت مالية من أي نوع. أمرت العمال بأن ينقلوا التائه قبل أن يسلم الروح داخل سيارة الاسعاف الى سيارة تاكسي ويذهبون به الى مستشفى قصر العيني ويتركونه هناك أمام باب الطواريء ويختفون وسوف يضطر المستشفى للتصرف. وعدت الى المدابغ حزيناً لأنني فعلت هذا بالتائه في ساعاته الأخيرة في الحياة، ثم رجع العمال بعد أن أتموا مهمتهم. وبعد أقل من ساعة واحدة وجدنا التاكسي الذي أقل التائه يقف أمام المدبغة وهو بداخله ينظر إلينا بضعف شديد، مثل حيوان أليف لا يمكنك نفيه الى أي أرض لأنه سيعود. وتحامل التائه على نفسه وهو يخرج صوته ببلاهة ووهن: أين ذهبتم وتركتموني وأنا ليس معي نقود لأدفع لسائق التاكسي؟ لم يكن الموقف يتحمل ولكنني انفجرت ضاحكاً أنا وكل من تجمع من عمال المدابغ، إنه مُصر على الموت هنا. حمله العمال الى المخزن كما طلب ورفض الطعام لأيام ثلاثة ثم جاء موته ليس كالصاعقة ولكنه سبب لي الكثير من القلق بسبب عدم وجود بطاقة شخصية له.
رويت للطبيب وأنا أقود سيارتي في طريقنا من منزله الى المدابغ قصة التائه كاملة وأطلعته على كل أوراق الملف الطبي له فلم أقصر في شيء.
هدّأ الطبيب من روعي، وبعد دقائق من إنحناءة سريعة ومدربة فوق الجثة الممدة على البلاط تحت الثلج المجروش وهواء المروحتين، منحنا الطبيب الإذن بدفن الجثة وشهادة الوفاة. كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، والجدل العقيم حول المكان الذي سندفن فيه التائه مستمراً، ولكنني رفضت بحسم الانتظار حتى الصباح. وقال عدد من أصحاب المدابغ، فليدفن في مقابر الصدقة في عزبة الهجانة أول طريق السويس، وتطوع آخر بدفنه في مقبرتهم في الإمام الشافعي، ولكنني حزمت أمري وقررت دفنه في مقابرنا في البساتين.
أيقظنا بائع أقمشة الكفن في مجرى العيون من النوم واشترينا منه كفناً شرعياً، وقام أحد العمال بغسل الجثة شرعاً، وانطلقنا إلى البساتين، وفي الطريق فتحنا مسجداً بصعوبة بعد أن كدنا نتشاجر مع خادمه وصلينا على التائه. وبدأنا في فتح المقبرة مستخدمين كل ما أتيح لنا من إضاءة من سكان قريبين من المدافن وأنوار السيارات وبعض الكشافات الكهربائية والكيروسينية، وبمرور الوقت لم تعد الاضاءة تحتمل، لقد خرجت من كل مكان. وهبت نسمات صيف باردة جعلت كل شيء يتراقص أمام عيني، ولما امتلأت بالمغزى من سنوات التائه التي تشارف الستين ومواراته التراب الآن وإلى الأبد، بكيت بشدة وكنت في حاجة حقيقية لمن يساعدني على الوصول إلى السيارة وسط كل هذه الإضاءة الباهرة.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.