في معرض إجراءات أمنية وسياسية احترازية، أوصى مجلس النواب الأميركي بحظر بث قناة «المنار» الحزب اللهية، بواسطة الأقمار الاصطناعية، ونقل مواد الفضائية الى الجمهور الأميركي. وغداة محاولة النيجيري القاعدي عمر عبدالمطلب تفجير نفسه في الطائرة الأميركية القاصدة ديترويت، عشية عيد الميلاد، أدرجت وزارتا الأمن الوطني والخارجية الأميركيتان المسافرين اللبنانيين الى الولاياتالمتحدة في قائمة البلدان التي يحسن بأجهزة المراقبة في المطارات الأميركية فحص المسافرين منها بواسطة المسح الضوئي المشدد و «الفاضح». وأثار الأمران، مشروع القرار الإعلامي والقرار الأمني، ردوداً لبنانية، أي في لبنان، تولاها المعنيون الأوائل، أي الحزب الشيعي وأنصار الحكم السوري المحليون. ويريد هؤلاء حمل الحكم اللبناني، وهيئاته الرسمية، على الانخراط في الحملة الإعلامية السياسية التي يقودونها على السياسة الأميركية، أو «الأميركية – الإسرائيلية» («الصهيونية») على قولهم. وهم يسعون في تولي هيئات الحكم اللبناني الرئاسية والديبلوماسية حملة الرد على الإجراءين، والتنديد بهما تنديداً اتهامياً وتحريضياً، وإدراجهما في باب إهانة كرامة «اللبنانيين» وإذلالهم على حواجز «التفتيش الإلكتروني». ويخلصون من الإجراء الإعلامي، وهو تقصد به محطة دون غيرها – أصاب لبنانيين كثيرين من تحريضها وعنفها وتحاملها وازدرائها فوق ما أصاب غيرهم – إلى ان «الإعلام اللبناني الحر» («والمقاوم») يقصد بالإجراء. وعلى الإعلام هذا، وهم ينسبونه الى العمالة، التضامن مع «المنار»، ومع حزب «المنار»، والإغضاء عن ان حزب «المنار» أحرق بالنار والرصاص مكاتب محطة تلفزيونية، وصحيفة يومية، وأوقف الأولى عن البث والثانية عن الصدور بضعة أيام، وتعقب صحافيين وأرهبهم واعتدى على بعضهم بالضرب، وحمل آخرين على ترك الكتابة... وعلى اللبنانيين جميعاً، وأنصار «المنار» نسبوهم الى مواطأة العدو على العدوان والقتل والتدمير، القيام على الإجراء الأمني الأميركي ثأراً لكرامة لبنانية عامة يمثلون هم وحدهم عليها. وعلى دولة «كل اللبنانيين»، وأجهزتها الرسمية المقصية عن المراقبة، تسخير علاقاتها الدولية بالعدو الأميركي حماية لمن قد تظن فيهم أجهزة مكافحة الإرهاب ضلوعاً في خطط تنتهك سلامة البلد المضيف والمهدد، ومواطنيه. وترمي الحملة الى تحقيق وحدة «المقاومة والجيش والشعب (اللبناني)»، أي الى تحميل «الجيش والشعب»، أو الدولة واللبنانيين عموماً، أوزار «المقاومة» الخاصة و «المهنية»، أوالوظيفية الإقليمية. ويؤدي منطق الحملة الى اضطلاع الدولة، المعرَّفة والمستقوية بمواصفات حقوقية وقانونية تشترك فيها مع المجتمع الدولي وهيئاته، بالمسؤولية العامة عن انتهاكات جماعة (أو جماعات) أهلية وخاصة، المواصفات الدولية المشتركة هذه. وفي حقل الإعلام، يريد أنصار «المنار»، وغيرها من منابر التحريض والتشبيه، ان ينسى اللبنانيون بعض وقائع أداة التعبئة الدعوية هذه. فخلاف «المنار» مع هيئات إعلام دولية ترعى معايير الموازنة والاعتدال، والفصل بين الرأي والخبر واجتناب الإثارة والدعوة الى القتل والكراهية – يعود الى ملاحظات الهيئة الفرنسية العليا على مسلسل «الشتات» السوري، وبثه على «المنار» الدولية في 2003 و2004. و «الشتات» هو صيغة شعبية وجماهيرية مقذعة عن حكايا وأخبار عنصرية وغريزية تقسم البشرية عالمين ضدين ومتحاربين. ويقود «اليهود» عالم الظلمة والحقد والجشع والسفاح والقتل على عالم النور والمودة، إلخ. والإنتاج السوري هذا لم «يرض» التلفزيون السوري الرسمي بثه. فتصدى إعلام «المقاومة الإسلامية» والعروبية، وهو ميدان احتياط الثقافة السورية، البث والنشر. وحمل جرأته وتهوره على تقديس لبنان حرية الإعلام، وعلى دستورية الحريات فيه. وكان انتهاك حزب «المنار» المعايير الإعلامية وجهاً من سياسة تعبوية وحربية ونفسية لا تميز العلاقات الاجتماعية والسياسية العادية، بين الأفراد وداخل الجماعات أو بين الجماعات السياسية الوطنية، من علاقات الحرب و «الصراع» المنفجر والدامي، على قول بعضهم. والإعلام، والتلفزيوني منه على وجه الخصوص، «سلاح»، على ما لا ينفك إعلاميو الأحزاب والتيارات القومية والدينية العصبية يقولون. وهم يحوطون سلاحهم برعاية فاعلة. فينظمونه على مثال فهمهم وممارستهم الحرب الانتحارية، انضباطاً واستماتة وصدوعاً بالأوامر المركزية واستخباراً ومراوغة وتقنعاً واستهدافاً للعدو وازدراء بما يقيد الحرب بميدان ودائرة. وتنقلب أجهزة الصور والخطابة في المناسبات السياسية الكثيرة، وهي على عدد الأدعية وكثرتها، الى مخزن تهويل وترهيب يقصد به «تكييف» المشاهدين، وهم جماعة وكتلة، مع ساحة الحرب. وساحات الحروب لا تنقطع. فمن الاستعراضات العسكرية و «الرياضية» البهلوانية والخطابية التي تجدد قيام المعقل الأهلي والعصبي وحماه بمعزل من الأراضي الوطنية، إلى التظاهر الحاشد التعبوي في ساحات تحولت الى معسكرات، والإضرابات المفروضة بالجرافات والشاحنات، فالاحتلالات المديدة وحصار مقرات الدولة والحكومة، فالحوادث المنظمة على حدود ومناطق السكن الطائفية... لا تحصى الكتل المشهدية الداعية الى الانبهار والقتال والاستماتة المحمومة. وهي جزء من «مجتمع الحرب» الذي حضن انفصال «شعب المقاومة» العصبي والأهلي من الشعب السياسي والوطني. وخطب المناسبات هذه تخاطب جماهير «الشوارع» العربية والإسلامية من وراء ظهر الشعوب السياسية والوطنية، وليس من وراء ظهر الحكام والأنظمة، على ما يقال ويزعم. والإخراج الإعلامي المشهدي، والخطابة النارية والاتهامية، يدمجان الخبر «الحي»، على الهواء والخط، بحاضر مباشر وماثل، ويدعوان الى الدخول في الحاضر، والذوبان فيه. وهذه الأمور لا تخفى مصممي الإعلام المباشر. وهم يتعمدونها، ويقصدون بها غاية صريحة هي دمج جمهور (جماهير) «الجاليات» في الوطن والمهاجر في كتلة واحدة أو جسم واحد. وهذا دعوة صريحة، على شاكلة دعوة «القاعدة» وأشرطتها، الى الخروج على الأجسام السياسية الجزئية التي ينتسب إليها «المهاجرون» وجالياتهم. وهي دعوة الى فض الاختلاف الناجم عن كثرة الهويات والمنابت الأولى في بلد مثل الولاياتالمتحدة، على شاكلة نضال مالك حسن، الميجور الأميركي الذي قتل 12 جندياً ومدنياً في قاعدة فورت هود، أي بواسطة أعمال قتل إرهابية. وما يرتب على الدولة اللبنانية، وعلى سواد اللبنانيين، تبعات قانونية ومعنوية جزائية جسيمة هو استثناء محطة «المنار» فعلاً من شروط إنشاء المحطات التلفزيونية الخاصة في لبنان، بذريعة وظيفتها «المقاومة». فلا تعدد مصادر التمويل وكثرة المساهمين في رأس المال، ولا تعدد مصادر الصحافيين وطوائفهم ونسب مصادر العاملين الطائفية، ولا استقلال العاملين عن المساهمين المفترضين، ولا إعلان نتائج الاستثمار – مرعية أو معتبرة. فهذه كلها إما طي الكتمان والصمت وإما صورية وملفقة، وليس من رقابة عليها لا للجمهور ولا لهيئات المراقبة. ولعل ذروة التلفيق والشكلية المسرحية هي تولية مجلس وطني للإعلام هيئة المراقبة. فمعظمه مستعار أو منتدب من أجهزة تحريض الأحزاب والتيارات ودعاوتها. ويخلط المندوبون هؤلاء معايير الإشراف والتنظيم المزعومة بأهوائهم. وهم، على الدوام، جنود شرسون في معارك «الإعلام» الإيراني الطائفي والمحارب، على وجهي الجندية: فينخرطون في الدفاع عن محطة «العالم» الإيرانية بالعربية، ويسكتون سكوت الشيطان الأخرس عن انتهاكات الحكم الحرسي المحلي حقوق الإيرانيين وحرياتهم. وانتقال دعوى السياسة الإعلامية الحربية، منذ خطواتها الأولى في العهدين الفلسطيني والسوري، الى معظم الجسم الصحافي اللبناني، يحيل «التنوع» سرطاناً ينخر جسم الدولة الوطني والسياسي، وقناعاً تتقنع به السياسات الأهلية، والولايات الإقليمية المسلحة. والمسألة لا تقل جلاء ووضوحاً على الصعيد الأمني. فبعد ان ضمت اجهزة الأمن والاتصالات والديبلوماسية الى الكتل الأهلية جهاراً نهاراً، وطلب الى قادتها وقادة مرافقها ووحداتها الميدانية (المطار، المرافئ، معابر الحدود البرية...) استشارة سلاطينهم ودهاقنتهم والامتثال لأمرهم بحسب التقليد السوري العريق، على ما لاحظ المحقق الإيرلندي فيتزجيرالد في اغتيال رفيق الحريري، لم يبق ما يقوم بأود أمن وطني. فلا تأمن دولة من دول المقصد، إذا هي تصدت للسياسات الإيرانية أو السورية، وأرادت حماية أراضيها ورعاياها من حملات هذه السياسات أو ثاراتها أو عملياتها الانتقامية – وهذه لازمت على الدوام خطط هذه السياسات وتعرجاتها – لا تأمن إعمال المسرح الاحتياطي والفرعي اللبناني في بلوغ غاياتها. وأقنعة هذا االمسرح كثيرة وفاعلة في خداعها وتشبيهها. فلا قيد يعوق تجنيد المدنيين المسافرين والمهاجرين، من فلسطينيين وبلديين، من الطوائف كلها، منذ بعض الوقت، في عمليات مركبة ومعقدة يملك مفتاح تركيبها، وجمع قطعها المتناثرة، «مسلّط»، على قول أبي نواس، مستتر. والسيد الآمر هذا يقبع وراء حجب أولها في بلدة جنوبية أو بقاعية أو كسروانية أو متنية أو طرابلسية، أو في مخيم لا رقابة على وافديه ومنقلبيه، وآخرها في مبنى بطهران أو دمشق. وبين الحجاب الأول والأخير احجبة وسيطة في قبرص وتركيا وبلغاريا ومدريد، وغيرها. والحلقات هذه تنتج أوراقاً ثبوتية رسمية وحقيقية، ومزورة، على شاكلة أوراق «المقاوم الإسلامي» اللبناني الذي سافر الى مصر، وصنع ما صنع. ومثله كثر في البلدان الكثيرة التي ينوي الرئيس «العالمي» والإصلاحي محمود أحمدي نجاد، وأجهزته الكثيرة، تقويم سياساتها وإصلاحها، ويوافقه خطيب «حزب الله» الرأي فيها. والغلالة «اليهودية» على جسد الأخطبوط النهم لا تستر فضيلة ولا عزيمة. * كاتب لبناني.