لقد حطّت الطائرة في مطار بيروت وافدة من باريس وخرجنا الى مرآب السيارات حيث تتنادى الأبواق في استرسال محموم وتولولُ الهواتف الخليوية، حضرني ما كتبه رولان بارث في موضوع ملذاته الأولى وهو مراهق: أول مغامرة جنسية، أول سيجارة الخ... لبيروت لأول مرة شذى متشذّر. كيمياء من السعادة والأسى. جغرافية المدينة، وهذا إحساس لازمني حتى بعد مغادرتنا، تشكيل يمتزج فيه البهاء بالبشاعة. كان ذلك في عزّ المونديال ورايات الفرق المشاركة وبخاصة البرازيل خفّاقة على واجهات الشرفات ونوافذ السيارات. كنت برفقة مجموعة صحفيين فرنسيين لتغطية الموسم الثقافي اللبناني المزمع عقده في تشرين الأول أوكتوبر بمعهد العالم العربي. لم تكن لديّ فكرة واضحة عن زاوية التحقيق الذي سأعده فيما بعد. إعمار بيروت؟ أُشبعَ دبكات ايديولوجية بما فيه الكفاية. جبران خليل جبران؟ ربما. بيد أن "الزّلمي" حتى وإن جرت بذكره الرُّكبان، فإنه يجب أن تُنزع عنه القداسة. في أحد الصباحات، نزلت "أشمّ" المدينة من تخومها، حيث البوحُ كما في المدن الشاطئية، خاماً في الموانىء أو بالأمكنة السفلية. لا الغبار، لا الشرارة ولا أبواق السيارات نالت من همّة العدائين الذين ينزلون باكراً الى الكورنيش لفرط السمنة أو فتل الجسم. في طقس الهرولة على شفير البحر استعارة استرداد العافية. وهذه حال كل البلد، أليس كذلك؟! كانت تركض، بل الأحرى ترقى بخطوات متناسقة. قوامُ رشيق وجاذب.. فجأة، توقفت لتُخرج من الجيب الداخلي للجاكيت هاتف خليوي كان يترنّم بنشيد المارسيّاز، النشيد الوطني الفرنسي. لم أتمالك من الضحك جهراً. لما أنهت المكالمة وكانت مزيجاً من الفرنسي - اللبناني يرقّ لها الفؤاد، بِراءات متدحرجة وصوت عذب لاهث، خاطبتني: "فوزيت فترانسي؟" أنت فرنسي؟ "لا، صحفي مغربي يقيم في باريس؟!". من سؤال الى جواب قادتنا الخُطى الى مقهى "الموفنبيك" الذي سمعت عنه الكثير ويعد اليوم أقرب الى مطعم "ماكدونالد". "هل تعرف الرغيف المطعّم بزعتر بعلبك؟ ذُق. هل شربت عصير الموز... واحد كبير يا أحمد.." ولهذا، من عصير الى قهوة، الى شطائر مكسوّة بعسل "بْشَرِّي"، استدرجنا الحكي الى فكرة السهر مساء في إحدى العُلب، قالت عنها انها أحلى عُلب بيروت. "إسمي المعطي"، وفسّرت لها في اقتضاب شديد بأن والدتي أعطتني الى خالتي التي أصبحت أمي... وأنني أخربش في هذا العطاء المسموم رواية لا أعرف متى سأنتهي منها. "أنا جُمانة.." وحضرني للتوّ طعم تين البراري! مساءً، لما ينطفىء القرصُ في المغيب، تتلألأ بيروت في تبجّح لازوردي. أُنسُ الليل فيها أقرب الى الهمس منه الى الحكي. لما أوقفتْ سيارة "بي.إم.دبليو" أمام الفندق وأطلّت من النافذة، لم أتمالك من الترديد جهراً مقطع أم كلثوم "تعال، تعال، تعال...". أحمر شفاه رقم 3 "كوكوشانيل"، عبيق "أوبيوم" إيف سان لوران، "ميني جيب" أنياس بي، نهدان ناتئان في قميص قطني قصير كشف عن صُرّة غُرزت بخواتم فضيّة. "أنتِ ساحرة يا جُمانة" "ميرسي عيني...". وعلى صوت سيلين ديون، مغنية شريط "تيتانيك"، دفعت بالسيارة في اتجاه الشمال. وصلنا علبة الليل في حدود الحادية عشرة، بعدما قُمنا بلفّات حول بعض "المعالم" التي أصبحت الآن في عداد الماضي... تقدّم منا الحارس، وهو أقرب الى مصارعي السومو اليابانيين ولما تعرّف الى جمانة "العفو... تكرم عينك.. بونسوار موسيوه...". صُمّم الداخل بلون رمادي، كراسي حديدية، ضوء خافت - بغاية "تسطيل" العقول وإفراغها من هواجس الحياة الدنيا. أغلب الزبناء تبدو عليهم علامات العافية المادية: شعر ملوّن، أنوف، آذان، صُرّات مقروصة بأخراس، سلاسل عنق ذهبية، مؤخرات معصورة في بنطلونات متلئلئة، وشمٌ يعلو الكثف الخ... وتضفي الموسيقى الفولاذية على المكان مسحة قُوطية.. مجتمع سفلي يحيا في الليل وينام في النهار. عيّنات لا تشتغل لكنها لا تعرف معنى الضائقة المادية. كنّا قد أردفنا كؤوساً على اخرى وشربنا من رحيق عشب خالص تنبلج تحت مفعوله الرؤيا على سراديب وأقبية حالكة، لما انبعثت صادحة أغنية رشيد طه "بالرّايح...". التصق الصدر بالصدر، وأنا أغقق عليها قُبلاً متلاحقة كنت أترجم لها عربية الجزائر الغليظة لكن المثخنة بالهوى.. غادرنا العلبة في حدود الخامسة صباحاً قاصدين عاليه حي البطركية حيث تقيم جُمانة في فيلا سريالية مع عائلتها التي سافرت الى جنيف هرباً من الحر. لجسد جُمانة نكهة الصحراء. فيه يتزاوج التيه باللّهيب رغبتها بلا تكلّف. لم تحاول تبيان انها فتاة في العصر. قالت في بساطة: "خذني بلا تقشف". وهكذا، وبعد الانكسارات المتلاحقة التي مُنيت بها اخيراً، قمت الى جنْبها. والى الخامسة بعد الزوال باعادة إعمار عاطفي. اما التحقيق. فبعد الخمرِ أمر! * كاتب مغربي مقيم في باريس