} احتفل الحزب الشيوعي السوداني في ذكرى مرور 50 سنة على تأسيسه. وقامت سكرتارية اللجنة المركزية في العام 1996 باصدار وثيقة تنظيمية قيمّت فيها تاريخ الحزب ونضاله وتوقفت عند الانقسامات التي وقعت في صفوفه في العام 1970 وهددت وحدته السياسية والايديولوجية، كذلك توقفت عند ملابسات انقلاب 1971 وتأييد قيادة الحزب له ودور "الاتحاد الثلاثي" في احباطه وهو أمر أدى الى تداعي الحزب وانهياره منذ ذاك التاريخ بعد ان كان الحزب السوداني هو الأكبر في المنطقة العربية. تنشر "الحياة" الفصل الأخير على ثلاث حلقات من دراسة طويلة عن الحزب أعدها الكاتب السوداني محمد سعيد القدال بعنوان "معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني في نصف قرن 1946 - 1996" تناول فيها المحطات الرئيسية من تاريخه مستخدماً العديد من الوثائق والتقارير والمقالات التي صدرت عن هيئاته وقادته. وهنا الحلقة الأولى. حسم المؤتمر التداولي الصراع على استراتيجية الحزب وتكتيكاته، وكان لا بد أن يؤدي إلى ردود فعل، ليس من الجماعة التي انهزمت افكارها في المؤتمر الرابع فحسب، بل أيضاً من عناصر السلطة التي كانت تتابع المؤتمر وتترقب نتائجه. فتعاونا سوياً على تصعيد الصراع إلى ذورة أخرى ودفعه إلى المواجهة. فبعد انتهاء المؤتمر مباشرة، بدأت مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية في اجراء اتصالات جانبية في الخرطوم والاقاليم. وكان مركز الحزب يرصدها على رغم التكتم الذي احيطت به. إلا أن تحركات كبج عضو الجنة المركزية في عطبرة كانت سافرة، حين وصلت عدة بلاغات عن نشاطه، فأرسل المكتب السياسي أحد أعضائه للتحقيق في تلك الاتهامات، واعترف بأنه يقوم باتصالات، وأنه اجتمع مع 11 عضواً من أعضاء اللجنة المركزية، واتخذوا قراراً بتشكيل مركز قائد للحزب بغرض بعث الحزب من جديد، وأنهم يحضرون للمؤتمر الخامس، وسوف يصدرون بياناً لجماهير الحزب. وفي 21 أيلول سبتمبر صدر البيان الذي وقع عليه 12 عضواً من أعضاء اللجنة المركزية، وبدأ توزيعه في الخرطوم في اليوم التالي. كما تواصل نشاطهم في الأقاليم. وصدر بيان آخر موقع عليه من حوالى 50 كادراً من الحزب. فكان ذلك انقساماً واضح المعالم. اجتمعت اللجنة المركزية في 15 أيلول وأصدرت بياناً مفصلاً ناقشت فيه ما جاء في بيان الانقسامين. فقالت إن الصراع في الحزب الشيوعي الذي حسمته إرادة الغالبية الساحقة من كادره، لم يعد أمراً نظرياً فحسب، بل تعداه إلى ميدان العمل والتطبيق. فالعناصر التي كانت تطبق الخط اليميني، استطاعت الاحاطة بعناصر من النظام التقدمي الراهن. كما طبق ذلك الخط في مواقع مختلفة من العمل الجماهيري. وكانت نتائجه ضارة بموقف الشيوعيين وبسمعتهم الأدبية. كما ألحق أضراراً بالنظام بأسره. وصور الاتجاه اليميني موقف الحزب المبدئي من التحالف على أسس مستقلة ونقده للسلبيات باخلاص من أجل تلافيها، بأنه معارضة للنظام. وكان محصول ذلك تفشي روح السلبية عند اقسام من الجماهير المتقدمة المتمرسة في النضال. ولم يكن الاتجاه اليميني يحترم مفهوم الجبهة الوطنية إلا من الناحية الشكلية، لكنه ينسف ذلك المفهوم في التطبيق العملي حسب تصوراته الذاتية. وسقطت بعض العناصر اليمنية إلى الدرك السحيق حينما عملت بكل ما تملك لادخال اجزاء من السلطة طرفاً في الصراع الداخلي في الحزب. كما تركوا العمل المثمر بين الجماهير ونشر الوعي بينها وهو العمل الحاسم، وركزوا جهدهم على ما يسمى ب "تكتيك الاتصالات الرسمية"، فعزلهم عن الجماهير ودفعهم إلى سلوك أضعف من رصيد الشيوعيين. ويقول البيان إن الانقساميين صوروا النزاع وكأنه بين من يؤيد النظام ومن يعارضه. بينما هو في الواقع صراع بين طريقتين في التأييد: تأييد أجوف وتأييد يستهدف انجاز مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية. وكان على المؤتمر أن يحسم الخلاف بين وجهتي النظر. وكان طرح الوحدة في مشروع عمر مصطفى يهدف إلى تخطي الحسم ليستمر النزاع بلا تحديد ومن دون أفق، حتى تدبر العناصر اليمينية أمرها وتتآمر للسيطرة على الحزب. والعبرة ليست بالألفاظ، فالذي يستهدف وحدة الحزب هو الاتجاه اليميني الذي مارس الانقسام بالفعل. وتناول البيان اتهامين وردا في بيان الانقسامين. الأول يتعلق بعدم اقتناعهم بالاجراءات التي اتخذت لعقد المؤتمر التداولي. لكن اللجنة المركزية كانت سلمت كل عضو فيها تقريراً عن الاجراءات قبل اجتماعها في آذار مارس 1970. وأقر ذلك الاجتماع تلك الاجراءات بالتصويت عليها بنداً بنداً، بما في ذلك البند الذي يقول إن انتخاب المندوبين للمؤتمر التداولي تم بحرية. وحضر ذلك الاجتماع تسعة من أعضاء اللجنة المركزية الذين وقعوا على خطاب الانقسام الآن. أما الاعتراض الثاني حول قرار المؤتمر التداولي الخاص بعقد المؤتمر الخامس، فإن توصيات ذلك المؤتمر أقرتها اللجنة المركزية وأصبحت ملكاً لعضوية الحزب ولا يمكن الرجوع عنها. كما أنها اجراءات تتمشى مع لائحة الحزب. وأقرت اللجنة المركزية فصل كبج من عضوية الحزب، وايقاف محمد عبدالقيوم والتحقيق معه. كما وجهت رسالة إلى اعضائها الذين وقعوا خطاب الانقسام تدعوهم للانسحاب قبل التورط في أعمال مضرة بالعمل الثوري. فعلى رغم ما قام به الانقساميون أمر خطير في وقت يعتمد فيه الكثير من قضايا الثورة الديموقراطية على الوحدة، إلا أن اللجنة المركزية تمهلهم ثلاثة أيام لمراجعة موقفهم. لكن عناصر الانقسام واصلت نشاطها. فعقدوا اجتماعاً موسعاً في يومي 30/9 و1/10 حضره 58 عضواً في اعتبارهم يشكلون الحزب الشيوعي. ودعوا للتحضير للمؤتمر الخامس. وكان ذلك تكريساً للانقسام الذي وصل نقطة اللاعودة. فاجتمعت اللجنة المركزية في 8 تشرين الأول اكتوبر. واتضح لها اصرار العناصر المنقسمة، الذي تجلى في عقدهم سلسلة من الاجتماعات، كما استولوا على بعض ممتلكات الحزب التي كانت تحت مسؤوليتهم. وأشهروا سلاح الارهاب في وجه الشيوعيين، فاستغلوا عضويتهم في مجلس مديرية النيل الأزرق لنقل الشيوعيين من مواقع عملهم. وتحت بطاقة الأمن القومي التي يحملها الكثير منهم، ذهبوا يجوبون البلاد يهددون كادر الحزب للانضمام اليهم. وكانوا يحملون أيضاً وسائل الترغيب والافساد. قررت اللجنة المركزية فصل قادة الانقسام من أعضاء اللجنة المركزية من عضوية الحزب، كذلك العناصر التي اشتركت معهم بتوقيعها على خطابات التأييد. كما حلت لجنة منطقة الجزيرة - المناقل، وحملت المجموعة الانقسامية المسؤولية كلها. وجاء أول رد فعل يدين الانقسام من داخل الحزب الشيوعي من اثنين من القياديين كانا خارج البلاد، وهما عضو المكتب السياسي محمد ابراهيم نقد وعضو اللجنة المركزية ابراهيم زكريا ونائب السكرتير العام لاتحاد نقابات عمال العالم. فبعثا برسالتين أدانا الانقسام. واجتمعت اللجنة المركزية بعد الانقسام في تشرين الأول وقالت: "يجب أن لا ندفن رؤوسنا في الرمال بل علينا أن ندرك ان هناك دوائر عدة محلية وأجنبية ترغب في إحداث انقسام في الحزب الشيوعي مهما كان وزنه. ونحن نواجه الآن انقساماً منظماً مدبراً بين صفوف الحزب... ويجب أن تؤمن تنظيمات حزبنا نفسها، ففي مثل هذه الظروف تلجأ العناصر المنقسمة للاستفزاز ولاستعداء جزء من السلطة ضد الحزب وكادره، كما هو ظاهر في الخطاب الذي أعلن به الانقسام رسمياً... وكما يدل على ذلك نشاط بعض موظفي الأمن القومي تأييداً للانقسام". تقييم اللجنة المركزية ووجه اجتماع اللجنة المركزية اهتمامه لوضع خطة عمل بناء على مقررات المؤتمر التداولي، بهدف دعم النظام ودفع الثورة. وحددت أربعة مجالات هي: 1- الميدان الاقتصادي، وهو الجبهة الرئيسية للصراع الطبقي حاليلا. منها قضيتان رئيسيتان. الأولى الخطة الخمسية ووجوب طرحها ومناقشتها جماهيرياً، واختيار قيادات مخلصة وذات كفاءة لإدارة مؤسسات القطاع العام، وتنفيذ اصلاح زراعي واداري في مناطق القطاع التقليدي وتحرير المزارعين من قبضة تجار الشيل ونفوذ شبه الاقطاع الطائفي والقبلي. والثانية المصاعب التي تعاني منها الجماهير الكادحة بسبب ارتفاع نفقات المعيشة والحلول التي قدمت حتى الآن مكررة ومعادة. ان ثورة التغيير الاجتماعي يجب أن ترتبط في أذهان الجماهير الكادحة بتحسين في مستوى معيشتها، وهذا أمر منطقي يتمشى مع أفضلية طريق التطور غير الرأسمالي على الطريق الرأسمالي. ولا شك في أن القوى الثورية قادرة بالتشاور بينها على الاسهام الجدي لحل هذه المشكلة. وعليها أن تعقد مؤتمرات جماهيرية لدراسة الحال الاقتصادية وتقديم حلول لمشاكلها. 2- الميدان الفكري والدعاوي يهدف الى تصفية نفوذ التكوينات السياسية الرجعية، وتحرير الجماهير من ذلك النفوذ، خصوصاً الاخوان المسلمين والصادق المهدي. مع اعطاء اهتمام خاص للعمل وسط الطلاب، والعمل على ازالة السلبيات التي تحول دون التطبيق الواسع للديموقراطية. 3- العمل التنظيمي وسط الجماهير، ويشمل تنشيط تنظيمات الجبهة الوطنية الديموقراطية، وتنظيم الجبهات الديموقراطية الطلابية في اتحاد ديموقراطي، ودعم حركة الشباب الديموقراطية، وتحسين أوضاع النقابات العمالية، وإعادة النظر في تنظيم حركة النساء الديموقراطية وتنشيطها. 4- تقوية الحزب ودعم وحدته بشن حملة لتصفية الأفكار اليمينية التصوفية، واتخاذ الاجراءات لتأمين تنظيمات الحزب. وعلقت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1996 على البرنامج قائلة انه: "في جوهره ومقصده، تصعيداً للصراع الفكري والسياسي والعملي ضد توجهات السلطة لفرض وصايتها على الحركة الجماهيرية وسلبها استقلالها. كما كان دعماً سياسياً وشعبياً للصراع الذي يخوضه العسكريون الديموقراطيون داخل القوات المسلحة، والتفافهم حول مجموعة هاشم وبابكر وفاروق في مجلس الثورة". وفي 13 تشرين الأول 1970 أصدرت اللجنة المركزية بياناً حول "الاتحاد الثلاثي" الذي وقعه رؤساء مصر وليبيا والسودان السادات، القذافي، نميري. وكان صدور البيان تعبيراً عن موقف الحزب الشيوعي المستقل. قال البيان ان وحدة الشعوب بمحتواها التقدمي من أجل النضال ضد الاستعمار القديم والحديث ومن أجل الاشتراكية، تعبير عن حاجة موضوعية لها جذورها. والوحدة لا تفرض فرضاً، بل يمكن تحقيقها إذا اكتسبت الوضوح في أهدافها، وإذا اعتمدت على الجماهير. وتنجح الوحدة إذا تحررت البلدان العربية من كافة أشكال السيرة الاستعمارية، وإذا نضجت عواملها الذاتية، وفي مقدمتها اتحاد القوى الثورية في داخل كل بلد عربي. ان خير ما يقدمه السودان للثورة العربية هو سودان موحد متحرر من النفوذ الاستعماري. ويمكن أن يلعب دوراً خاصاً في ايجاد صيغة إنسانية وثورية للتحالف بين حركة التحرر العربي وحركة التحرر الافريقية. ويمضي البيان قائلاً ان الاتحاد الذي أعلن عنه في القاهرة لا يكفل لهذه الأهداف ان تتحقق، بل يحتوي على عناصر تضر بقضية الوحدة العربية. كما أن القرار اتخذ من دون استشارة أي من تلك الشعوب ناهيك عن موافقتها. وكان عبدالناصر نبه في استاد الخرطوم مساء 28/5/1970 قائلاً: "يجب علينا قبل أن نتخذ أي خطوة، أن نعرضها على الشعب بتنظيماته السياسية. وهذا هو الدرس الذي أخذناه بعد انفصال الوحدة الرائدة عام 1958. يجب أن تكون الشعوب على وعي كامل بكل خطوة تتخذها". اتخذ قرار الوحدة قبل نضج العوامل اللازمة لنجاحه، كما ان هناك تفاوتاً كبيراً وملحوظاً في مستويات تطور الحركة الثورية وانجازاتها في كل من البلدان الثلاثة. ويضيف البيان ان "الاتحاد الثلاثي" الذي وقع في القاهرة بما قدم من منطلقات فكرية، يعبر عن اقامة محور له آفاقه وخطة عمله المميزة. أما في ما يخص بانشاء مجلس للأمن القومي، فإن التنسيق بين الأجهزة العسكرية ضروري، لكن لا بد من التحذير من الطبيعة غير الديموقراطية لجهاز الدولة في مصر. كما ان التنسيق مع جهاز الدولة المصرية مضر بحركة الثورة في السودان. ان الشكل الأمثل للعلاقة بين البلدان الثلاثة هو التنسيق والتحالف بينها في المجالات المختلفة. ومن الأفضل ان يطرح الاتحاد للاستفتاء الشعبي. وجاء في تقرير سكرتارية اللجنة المركزية في عام 1996 ان ما طرحته اللجنة المركزية بعد الانقسام من حيث التوجه العام ومسار الصراع السياسي، كان سليما وفيه كثير من المرونة لتوحيد أوسع جبهة سياسية خلف الشعارات الوطنية الديموقراطية. لكن اللجنة المركزية لم تضع في اعتبارها ان السلطة تعادي كل توجه مستقل للحركة الجماهيرية، وتعادي الحزب الشيوعي وترفض استقلاله وتواصل تنفيذ عدائها بخطوات محددة ومحسوبة تتوجت توجهاتها بالانقسام. اضافة الى ذلك ان اللجنة المركزية لم تسارع بعد الانقسام الى مخاطبة الجماهير وفق تقاليد الحزب وعلاقته بالحركة الجماهيرية كما حدث في انقسامي 1952 و1964. وكان أثر الانقسام على الحزب الشيوعي كبيراً. لخصته السكرتارية المركزية في تقريرها عام 1996 قائلة: "خرج الحزب مرهقاً من معركة الانقسام، ومواقعه وكوادره مكشوفة أمام السلطة بعد أن سلمها المنقسمون كل أسراره، فكان أحوج ما يكون، مع الحركة الجماهيرية، لفترة من التوقف تطول أو تقصر لإعادة تنظيم صفوفه وإعادة تأمين كادره ومواقعه" وقالت "ان الانقسام أدى دوره المرسوم سلفاً في اضعاف الحزب وتبديد طاقته، وتشتيت جهده، وشل حركته وسط الجماهير بالصراعات والنزاعات الداخلية. لكنه فشل فشلاً ماحقاً في تصفية الحزب وتسليم مقوده كماً سائباً للسلطة. وأدى ذلك الضعف مع اصرار الحزب على الاحتفاظ باستقلاله الى قيام السلطة بتوجيهه ضربة الى الحزب في 16 تشرين الثاني نوفمبر. * كاتب سوداني.