سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أحمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . بدأت حركة الإصلاح بالتعليم وإنشاء المدارس الحرة البعيدة من هيمنة الادارة الاستعمارية 13
بعد حفظي للقرآن الكريم اقتنى لي والدي مجموع المتون فقد كان التسلسل التعليمي المتبع هو انه بعد استظهار القرآن الكريم عن ظهر قلب واتقان رسمه ينتقل التلميذ إلى مرحلة استظهار واستيعاب عدد من الكتب والمتون المتصلة بصفة خاصة بعلوم اللغة والفقه والنحو إلى غير ذلك، وهذا يؤهله في مرحلة لاحقة إلى الانتظام في التعليم العالي، أي جامعة القرويين، وكان التركيز يتمحور أساسا على حفظ أكبر قدر من المتون المنظومة كالأجرومية والألفية، إضافة الى استظهار أكبر قدر ممكن من المحفوظات اللغوية الشعرية والنثرية. وهكذا يتزود الطالب وقبل أن يصل إلى سن العشرين من عمره بمخزون هائل من المعارف والقواعد وحصيلة غنية ثرية من المفردات، ولا يشعر المرء بأهمية هذه الثروة العلمية المحفوظة إلا حينما تضعف تلك القدرة الطبيعية على الحفظ والتخزين، فيجد نفسه حاملا علمه كما يمكن أن يقال، إن هذه الطريقة التي آلت رويدا رويدا إلى الانحسار بفعل المناهج الحديثة، لم يعوض فائدتها البديل التربوي التعليمي الجديد، فمثقف اليوم قد يكون فعالا في مجال تخصصه، وهو في الحقيقة متعلم أكثر من كونه مثقفا بالمفهوم الشامل للكلمة. أخذت أقضي كل وقتي خارج الكتاب بالبيت، أعكف على حفظ المتون، وبين العشاءين كان والدي يخصص لي وقتا ليشرح لي الأجرومية، وأخيرا قرر عمي عبدالهادي إعطائي درسا بالأجرومية بمسجد الأترنجة ومعي ابن خالي سيدي الوافي العراقي. كان من عادتنا عندما يحل فصل الربيع أن نقضي بضعة أيام في ضيعتنا الصغيرة الواقعة في المكان المسمى غنضارة على بعد سبعة عشر كيلومترا شمال فاس في الطريق الذاهب إلى الحياينة، كانت غنضارة هذه ملتقى بني سودة في فصول الربيع الزاهية، تلتم عوائلنا برجالها، ونسائها وأطفالها في جو من انضباط اجتماعي ونمط مستقر في السلوك والعادات، بحياة منطلقة يرفرف عليها الانشراح. وكان موضوع حفظى للقرآن الكريم حدثا عائليا أسبغ على نزهتنا الربيعية في تلك السنة جو احتفال خاص، فالعائلة السودية على مختلف اجيالها المتعاقبة كانت تعتبر أن العلم ثروتها ورأس مالها الذي يجب أن ينميه ويحافظ عليه كل جيل، ومثلما كانت عائلات أخرى تتوارث المهن أو الصنائع فيكون ابن النجار نجارا وابن الحداد حدادا وهكذا، فان مهنة العائلة السودية كانت هي مهنة التعليم يتوارثونها أبا عن جد وابنا عن أب. كان معنا في نزهتنا العلامة الصوفي الجليل الحسن التاودي، وكان شيخا وقورا تجله العائلة وتستشيره وتخطب نصحه وتوجيهه، سأل الوالد عني فأخبره بأني "جمعت السلكة" فانفجرت أساريره عن الرضى، ثم سأل عمي الحسن والدي متى سأبدأ دراسة العلوم، فأجابه والدي: إن أحمد مازال صغير السن، وإن الوقت امامه لتحصيل المزيد من الفقهي والأدبي واللغوي، فعقب عمي الحسن: إنني سألقنه الأجرومية، وتوجه إليّ مخاطبا: عليك أن تحفظ قول ابن أجروم "الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع وأقسامه ثلاثة"، ثم شرح لي أول درس وقال لي: غدا سأمتحنك في هذا الموضوع فإن أجبت جوابا شافيا سآمر والدك أن تدخل القرويين، وإلا ستبقى طالبا تحفظ القرآن الكريم دون أن ترتقي درجات العلم فتصبح عالما، وأفهمني أن العلماء أعظم شأنا من الطلبة! كانت أسرتنا السودية متمسكة أشد التمسك بالتقاليد، كل شيء يتم تفسيره والتعامل معه بمقياس مطابقته أو مخالفته للدين، وقياسا على هذه القاعدة فإن الاستعمار كفر. والمستعمرون كفرة. وكل ما جاؤوا به وحملوه كفر. والتشبه بهم كفر. إن أسرتنا كانت حزينة ومكلومة بسبب الاستعمار، ولا أنسى حلقات الدعوات التي كانت تنتظم في بيتنا باستمرار رافعين أكفنا ضد العدو الكافر المغتصب، داعين الله أن يلحق به الدمار ويطهر من رجسه البلاد والعباد، وكان والدي في أوقات السحر يرفع أكف الضراعة إلى الله أن يعيد للمغرب سالف عهده في العزة والكرامة وأن يجلو عنه غمة الاستعمار اللعين، أما عمي محمد فكان دأبه كتاب حجاب "الورد الناري" ثم يحرقه ليحترق ببركته الاستعمار وتذهب ريحه وظل يفعل ذلك مدّة تناهز الاربعين سنة حتى بشر بنهاية الاستعمار! كانت أسرتنا محافظة، متحصنة في تحفظها من كل مشتبه أو مشبوه فلم تلج بيتنا "شيخة" ولم يرتفع في بيتنا صون بالغناء، وكانت الموسيقى الأندلسية هي وحدها المحببة إلى سمع والدي، وحينما دخل جهاز الراديو لبيوتات كثيرة في ذلك الوقت امتنع والدي عن ادخال ذلك الصندوق الغريب لبيتنا، بل إن الضوء الكهربائي نفسه لم يدخل لمنازل أسرتنا كلها بعد أن تأكد أن المنبر النبوي الشريف والحرم المكي المبارك دخلهما الضوء الكهربائي، ومع ذلك بقي عمي محمد يؤثر الحسكة الشمعدان والشمعة المغروزة في فتحته على الكهرباء لمدة طويلة. ولكن رياح التغيير كانت تهب من كل جهة محاصرة التقاليد العريقة والمعتقدات الأثيرة لعائلتنا، ولم يكن بد من حدوث تمرد في هذا البيت أو ذاك من بيوت الأسرة السودية، فأبناء عمنا بالدوح والزيات ارسلوا أبناءهم إلى المدارس الفرنسية أسوة بما فعلته أسر أخرى غير سودية، كان عماي عبدالهادي وعبدالكريم يميلان للتجديد ومسايرة التطور، ولكن والدي وعمي محمد ظلا بمنأى عن كل اغراء، معتقدين أن خطوة في هذا الطريق لابد وأن تؤدي إلى مالا تحمد عقباه! استفتاء ديمقراطي ووضعت قضية تعليم الأطفال بحدة في مجلس الشورى العائلي، وكانت الاغلبية إلى جانب تمكين الأطفال من التعليم الحديث، وأن كل طفل سودي جمع السلكة لا بأس أن ينخرط في سلك التعليم العربي الفرنسي، وتم الاتفاق على هذا، وكان ابن عمي محمد ابن الهادي أول المستفيدين من هذا القرار الديمقراطي، فالتحق بالمدرسة، كانت تدعي "مدرسة الكروني" وأصبح تلميذا بها بعد أن "جمع السلكة" وأتقن رسم القرآن الكريم، ولاح لي أمل في أن احذو حذوه، فتكون لي محفظة. وكتب بها صور. ولوحة سوداء سبورة وأقلام ملونة وأن يكون بامكاني أن اكتب من اليسار الى اليمين، وأتعلم تلك اللغة التي تمكنني من أن أشتم من أريد فلا يفقه من قولي شيئا. وأن ألعب الكرة بملعب له سور. ومرمى محدد بخشبات ثلاث، وأن أتقن كتابة عناوين الرسائل وقراءتها. ولكن هذا الأمل سرعان ما انهار... وتلاشى، فابن عمي محمد تسبب في كسر ساق زميله في المدرسة حينما كانا يلعبان الكرة بالملعب المسور، وكان زميله هذا هو عبدالقادر بن أحمد الودغيري وقامت ضجة كبرى، ذلك أن والدة الفتى المكسور كانت لها حصانة ايطالية، أي تتمتع بحماية ايطالية، فأقامت الدنيا ولم تقعدها، أرعدت وأزبدت وهددت، وأخيرا، ولاطفاء لهيب ثورتها انعقدت مشيخة من العلماء والشرفاء وتقدموا لدى زوجها الشريف الودغيري بطلب المسامحة لاطفاء نار غضب زوجته واتفاقه معها تقبل العذر وأعلن المسامحة. كان لهذه الحادثة أثر بليغ على مسار حركة "الانفتاح" داخل الأسرة السودية، لقد تصدى الجانب المحافظ ممثلا في والدي وعمي محمد لاعطاء تفسير خاص لما وقع، فقد اعتبر هذه الحادثة بأن "العتبار" أي الشؤم الذي يلاحق الخارجين عن الطريق قد لحق بالذين ارادوا أن يغيروا ويبدلوا اتجاه الأسرة التي نذرت نفسها لخدمة العلم الشريف والدين الحنيف، إن عبدالهادي خالف العائلة فعاقبه الله، وهكذا خرج ابن عمي من المدرسة الفرنسية والتحق بالقرويين! وبعد هذه الحادثة عزم الوالد أن اتابع دراسة القرآن الكريم لا أقل ولا أكثر، وأن أصبح فقيها سبعيا ولا اقرأ علما ولا فرنسية. وكان لوالدي إضافة إلى الاعتبار الديني في اتخاذ قراره هذا، موقف آخر، فكان يرى أن بعض العلماء باعوا ضميرهم وعلمهم للاستعمار مقابل "المنضة" أي المرتب، وكان يقول: أن هؤلاء رضوا لأنفسهم "بالكديدة" فسكتوا عن الجهر والتشهير بالظالمين ومقاومة المعتدين الآثمين"! ونتيجة لذلك لم أتعلم الفرنسية في تلك المرحلة من عمري، وتابعت السير في الطريق المرسومة. ولاشك أن الفقيه الجاي كان أكثر الناس سعادة بانتصار الاتجاه الذي قاده والدي وعمي محمد، فلو انتصر الداعون إلى الانفتاح لانفض عن كتّابه خيرة تلامذته واحدا بعد الآخر والتحقوا تباعا بالمدرسة الفرنسية خاصة إذا أقدم على قرار كهذا الفقيه سيدي يحيى بن سودة فألحق ولده الوحيد بتلك المدرسة اللعينة! كانت حركة الاصلاح بدأت بالدعوة إلى مراجعة النفس وتقويم المفاهيم، والنقد الذاتي وإبراز ما شاب حياة الناس من مظاهر التخاذل والاتكال والخرافات، وارتفعت أصوات هذه الحركة وبدأت تشق جدران الذهول الذي خيم على الجميع وهم يرون مغرب الأمجاد، مغرب طارق بن زياد، ويوسف بن تاشفين، ويعقوب المنصور، والمولى اسماعيل، يرونه وكبا كما يكبو الأسد الهصور وغدا فريسة بين أنياب الذئاب! "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، كانت هذه الآية الكريمة هي عنوان وهدف المصلحين الوطنيين في تلك المرحلة. مرحلة انطلاق الحركة الوطنية، وكان إنشاء المدارس الحرة أحد مرتكزات تلك الحركة، فلم تكن تدعو إلى تقويض كل ما بناه الاجداد، ولكن إلى ترميم وإصلاح ما ضعف أو فسد في ذلك البناء، وهكذا فإن حركة إنشاء المدارس حرصت على التشبث بما هو أصيل ومفيد وقويم في مناهج ثقافتنا وتعليمنا. وكان الكتاب القرآني أو "المسيد" ركنا أساسيا وخلية حية في صرح الهيكل التعليمي التقليدي للمغرب على مر العصور كما هو الشأن بالنسبة للمسجد تماما. المسيد لا بد من رسم صورة عن "المسيد"، تلك المؤسسة الخالدة في تاريخ المغرب الثقافي والعلمي والتربوي والديني. وأحمد الله أنني، وأنا اسجل وارسم تلك الصورة، لا تخامرني مشاعر الحزن على شيء مضى وانتهى واصبح في عداد الذكريات التي تسجل للتاريخ، ذلك لأن "المسيد" ظل موجودا وقائما وإن كان دوره قد تراجع عما كان عليه، وأيضا فإن هذه المؤسسة قد نذر الله لها رجلا مؤمنا صالحا غيورا هو الملك الحسن الثاني مجدد مجد المغرب، فقد أعاد "للمسيد" مكانته وأحيى دوره ودعم وجوده جنبا إلى جنب مع اتساع ونمو وازدهار التعليم بجميع فروعه ومؤسساته وتوجهاته، ليبقى "المسيد" ليس فقط خلية تعليمية تربوية اساسية في حياتنا، ومصدر ذلك التكوين الروحي الذي لا يمكن تصور المغرب بدونه. كانت المسايد كثيرة في مدينة فاس لدرجة يتعذر إحصاؤها، ففي كل درب مسيد، وفي كل زاوية ومكان، وكانت لكثرتها ويسر وبساطة الالتحاق بها تستوعب جميع الأطفال في سن الدراسة بالنسبة لسكان المدينة في ذلك الوقت. كان المسجد والمسيد والحمام والسقاية والمرحاض العمومي الملحق بالمسجد والمستقل عنه أشياء اساسية في عمران المدن المغربية. كانت المسايد أشبه ما تكون بملكية عامة للمجتمع أو تعاونية يشترك الجميع في تأمين حاجياتها. كانت تفرش بالحصر يكتتب التلاميذ لشرائها أو يتطوع أحد المحسنين بذلك، كذلك الشأن بالنسبة للمشكاة والشموع. اما موارد المسيد، وهي مصدر عيش الفقيه، فكانت تتكون مماكان يسمى "الفتوح"، وهي تلك الهدية النقدية التي يقدمها والد الطفل يوم أن يأتي بولده للفقيه، فإذا كانت الهدية مهمة طرب الفقيه لها وردد: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح"، أو يردد: "الرحمن علم القرآن"، وهناك عائدات قارة وهي ما يمنحه آباء التلاميذ للفقيه مرتين في الاسبوع، وهي ما درج على تسميته "بحق الأحد" و "حق الأربعاء"، ولم تكن المنحة محددة، وهي عبارة عن مساعدة بسيطة قد تكون نقدية وقد تكون شيئا آخر يقدمها الطفل للفقيه، ويوكل قدرها إلى مركز الوالد وكرمه ومبلغ سخائه. اما الموارد غير القارة فكانت كثيرة على مدار السنة، وفي مقدمتها الاعشار والزكوات، إذ كان التلاميذ يحملون للفقيه نصيبه من زكاة الزيت والحبوب وزكاة الفطر، وتأتي بعدها التبرعات الاكرامية التي تقدم للفقيه في مراحل مختلفة من تحصيل التلميذ واستظهاره وحفظه لأحزاب القرآن الكريم، وتسمى "الختمة" وأولها عندما يصل في حفظه إلى قوله تعالى "قل هو الله أحد" حيث تزخرف لوحته بالصباغة الملونة المصنوعة من مواد معدنية ومن عجين صفرة البيض، وتحمل اللوحة لمنزل الطفل في موكب حافل من أطفال المسيد، وفي داخل المنزل يضع التلاميذ الطفل داخل مائدة مستديرة يرفعونها فوق رؤوسهم وهم يطوفون به مرددين "جايبوه، يافرحة يماه وبوه"، ثم تعلو أصواتهم في فرحة عظيمة يردد جزء منهم "فاين يحطوه" فيجيب جزء آخر "في حجر يماه وبوه"، يكون والد الطفل واقفا يحف به أعضاء الأسرة والنساء يطللن برؤوسهن من النوافذ يزغردن فرحات، وإذا كانت في الأسرة امرأة كبيرة تقف على رأس مجموعة من السيدات "وحبيبات الله" وفي يدها السبحة وهي تردد الدعوات مع المجموعة المحيطة بها تعيذ الطفل من عيون الحاسدين، ويستمر المشهد فترة معينة، ثم يتم انزال الطفل من المائدة ويتحلق الجميع حول موائد السفنج والعسل وتصب كؤوس الشاي ويرش الجميع بماء الزهر، والعادة أن تكون هذه الحفلة في الصباح. وبعد نهاية الحفل يتقدم والد الطفل من الفقيه نافحا إياه بقدر من المال ويطلب أن تمنح للتلاميذ عطلة احتفاء بهذا الحدث السعيد، وعلى قدر الهبة يكون قدر العطلة، فإذا أمرالفقيه بعطلة مهمة صاح التلاميذ فرحين والتفوا حول الطفل، وارتفع شأنه بينهم، وأصبحت المناسبة مما يؤرخون بها، فيقولون: "لقد عطلنا بمناسبة عطلة فلان". كانت حفلات "الختمة" كثيرة، وهي أسمى ما ينتظره والد من ولده، وهي دليل على مدى همة الطفل واجتهاده، وهي فرصة لمكافأة الفقيه وإظهاره التقدير الذي يكنه له المجتمع. وأهم الختمات هي عندما يصل الطفل في استظهاره للقرآن الكريم إلى قوله تعالى "لقد سمع الله" و "الرحمن" و "يس".. و "التخرجة" الصغيرة هي عندما يصل الطفل إلى منتصف القرآن الكريم. وأهم تخرجة واعظمها شأنا ومنزلة عند اسرة الطفل والفقيه هي عندما ينهي التلميذ "السلكة" الأولى، أي أن يكون قد اكمل الجولة الاولى في كتابة القرآن الكريم بلوحته وتسمى "جيبنا" وتقاس نباهة الطفل ويعرف اجتهاده بعدد المرات التي تستغرقها عملية حفظه للقرآن الكريم من اول سورة فيه الى آخر سورة، وكانت العادة أن يبتدىء الطفل بالسور القصيرة استئناسا لادراكه وصقلا لملكة حفظه، وهكذا في عملية تصاعدية إلى أن يصل سورة البقرة، ثم يعيد الكرة منها إلى السور القصيرة. قد يحفظ الطفل القرآن الكريم في الجولة الأولى ويتقن رسمه في الجولة الثانية، وهذا نادر الحدوث، والمتوسط أن يستطيع ذلك في ثلاث جولات، وهناك حالات نادرة اخرى وهي أن يعيد الطفل كتابة القرآن عدة مرات فلا يستوعبه حفظا ولا رسما، قد يكون ذلك راجعا إلى ضعف ذهني أو اهمال وقد يكون سببه تهاون من الفقيه وفتور في حزمه أو شخصيته. و "التخرجة" الكبيرة المسماة "جيبنا" تقام لها حفلة كبرى على قدر ما يستطيع والد الطفل جاها أو غنى أو كرما، فهذه الحفلة هي من الحفلات المشهورة والمسجلة في قائمة الاحتفالات الكبرى كالاعراس والعقيقة والذهاب للحج أو العودة منه. فالتلميذ تخاط له الثياب الرفيعة من جلباب وسلهام موشى الاطراف، فهو الشخصية الاولى في الحفل، يتصدر مجلسا بارزا داخل المنزل حاملا لوحته بين يديه، وربما هيئت لهذه المناسبة لوحة من الورق المطعم ويجعل عليه الورق الكتاني، وتنقش اللوحة فيحتفظ بها معلقة في مكان بارز كذكرى رفيعة بالبيت، ويدعى للحفلة أهل الطفل وأصدقاء العائلة والعلماء والشرفاء وحافظو القرآن الكريم ويتلون الآيات ويرتلون، ويتناول الحاضرون ما لذ من الأكل والحلويات، وتبعث قصع الكسكس إلى أبواب المساجد للمحتاجين. وبعد الانتهاء من الأكل والشراب يحمل التلاميذ رداء أبيض يمسكونه من أطرافه وينشرونه بينهم على شكل دائرة ويطوفون بالحاضرين حول النافورة الصهريج وهم يرددون: "جيبنا مولاي محمد، ياربي صلي خير الهادي"، ويتسابق الضيوف لالقاء تبرعاتهم النقدية وسط الرداء، وكل ما يتم تحصيله يكون من حظ الفقيه، ولكن بعض الآباء يتفادون إحراج زوارهم فيمنحون للفقيه قدرا يعوضه عن إيراد الرداء فلا ينشر بين الناس. قد تحدث مشكلة أو خلاف بين الفقيه الذي أنهى عنده الطفل "الختمة" وبين الفقيه أو الفقهاء الذين قد يكونون سبقوه إلى تلقين الطفل، واذا تعذرت تسوية المشكلة يتولى الفصل فيها "مقدم" الطلبة طبقا لقوانين وأعراف متفق عليها. وهذا "المقدم" يحظى بسلطة مخولة له ومسنودة ومؤيدة من جميع الطلبة الذين لا يعصى لهم أمر، فلهم الكلمة العليا بينهم، وهم ممثلون حقيقيون بمقتضى ما بلغوه من مكانة، فمن خالفهم أو تطاول على مكانتهم ونفوذهم "وعروا فيه شوكتهم" أي ناله منهم الغضب العاصف، وأحاط به الافلاس وحلت عليه اللعنة وكان الناس يتقون بالفعل مغبة إغضاب هؤلاء الطلبة أو الاساءة إليهم. كان الفقهاء حفاظ القرآن الكريم منظمين تنظيما محكما فيما بينهم، فكان لهم ما يشبه نقابة خاصة بهم، ولهم نقيب يسمى بينهم، ويعرف "بالمقدم" يرجعون إليه في فض ما ينشأ بينهم من خلاف، يقتسمون المهام ويوزعونها بينهم بالعدل فلا يجوز لأحد أو لجماعة احتكار المجالات التي هي مصدر عيشهم، أو التهاون إلى الاعراف والتقاليد التي تضبط سلوكهم ومكانتهم. ساعة شمسية لم تكن بالكتاتيب ساعة، فكان الفقيه وكنا نتعرف على الوقت بتحرك خيوط الشمس عبر النوافذ، فعندما تصل تلك الخيوط إلى النافذة الاولى نعرف أن الوقت هو الثالثة ظهرا، وعندما تميل إلى مسافة معينة نعرف أن الوقت هو وقت القراءة الجماعية لحزب "سبح الله.." وتجميع الألواح، وهذا هو أسعد وقت بالنسبة لنا، فبعد الحزب نغادر المسيد قبل سقوط الظلام. ولكن الفقيه المكناسي كان يمتلك ساعة جيب، فإذا اقترب موعد الآذان اخرجها من طوقه وخرج يراقب صومعة سيدي أحمد الشاوي حتى إذا رأى العلم يرتفع منها وانطلق صوت المؤذن دقق النظر بساعته وسبابته وابهامه على ضابط حركة عقربيها متأكدا من دقة عمل ساعته، وبعدها يتجه إلى المسجد وتفرغ الحوانيت من أصحابها وتخلو الأزقة من الناس، الجميع يقصد المسجد، ونحن من داخل المسيد نسمع أصوات الاحذية حينما ينزع منها أصحابها أرجلهم ويلقون بها في باب المسيد! ولكن جو المسيد بصفة عامة كان مدعاة للخوف، والفقيه يمثل بالنسبة لنا ذلك الرجل المفوض من الأسرة والمجتمع باستعمال القسوة معنا متى يريد، فهو يتربع فوق مقعده المرتفع مشرفا علينا وإلى جانبه أدوات التأديب والتعذيب: مجموعة من العصي في أحجام مختلفة، بعضها طويل يستطيع بها إنزال الضربات الموجعة فوق رأس أي تلميذ في آخر صف بالمسيد، وبعضها للوسط وأخرى للصفوف الأولى، ويتفنن الفقهاء في اقتناء هذه العصي بعناية، وأفضلها عندهم وأشدها واحسنها مرونة وطول بقاء، هي تلك المشذبة المنزوعة من شجر السفرجل، وبالاضافة لهذه العصي هناك ما يعرف "بالفلقة" وهي قضيب على شكل قوس يربط طرفاه بحبل قوي، هذه الآلة التعذيبية كانت تثير رعبي حينما أرى تلميذا يقرر الفقيه عقابه لأي سبب أو حتى بدون سبب معقول في بعض الاحيان، يأمر الفقيه واحدا أو اثنين من كبار التلاميذ بحمل المعاقب فيمسكان به ويطرحاه أرضا ويرفعان رجليه فتوضع "الفلقة" لتوثق الرجلين المنتفضتين بالحبل المشدود إلى طرفيها، ويشرع الفقيه بالقضيب القصير في جلد الطفل بضربات في أسفل قدميه، والطفل يصرخ ونحن متربعون القرفصاء تعلو أصواتنا بالقراءة لتغطي على صراخ المسكين! لأن الفقيه يأمرنا بذلك حتى لا يثير الصراخ فضول المارين قرب المسيد! في أيام الشتاء الباردة يصيب الملل أنفسنا من البرد القارس والنهار الطويل، أما في الصيف فإن القيظ يحيل أجسادنا إلى قطع من اللحم الملتهب، العرق يتصببب منا والعطش يحرقنا، في البرد يحمل التلاميذ الميسورون من منازلهم فروة الخروف، أو قطعة قطيفة على شكل جلسة لاتقاء البرد الصاعد من الأرض الصلبة. لم تكن شروط النظافة متوفرة في الكثير من الكتاتيب، فهي غالبا ما تكون ضيقة ومغلقة، ويتسبب الزحام في بعضها في اتساخ ثياب التلاميذ، وانتشار الحشرات المؤذية التي تجد مرتعا في الرؤوس والجلاليب الصوفية، والأرضية التي تتجمع بها الأتربة ويغطيها الغبار، وتآكل الحصر، كان داء القرع منتشرا بين تلاميذ الكتاتيب ينتقل بالعدوى من هذا لذاك، وكنت من الذين مسهم هذا الداء، ولكن الوسط الذي عشت فيه كان حازما شديد العناية بالنظافة، فلم يدم مرضي كثيرا، ولكن بعض رفاقي كانت حالتهم تزداد سوءا، فكانت رؤوسهم متورمة بالدمامل. وكان المسيد يفتح إثر صلاة الفجر، والنجباء من التلاميذ هم من يكونون حاضرين بالباب قبل وصول الفقيه، وإذا حظي تلميذ بثقة الفقيه أنابه عنه في فتح باب المسيد. كانت العادة أن أول ما يفعله التلميذ أن يرتفع صوته باتجاه الفقيه بقراءة لوحته دون التطلع إليها والتهجي منها دليلا على حفظه لما أُُملي عليه في اليوم السابق، فيأذن الفقيه له بالتوجه إلى "المحبس" لمحو الكتابة التي بلوحته، والمحبس هو المكان المخصص لمحو الألواح الخشبية، ويغلب أن يكون على شكل مغسل من حجر وطين وتكون له فتحة في أسفله تفتح لتنظيف وتصريف الماء لاستبداله، وكان الناس يسعون لأخذ كمية من هذا الماء للاستشفاء ، كما أن التلاميذ الذين لا يحفظون يأخذون منه جرعا لأجل الحصول على قدرة الحفظ والفهم. لم تكن هناك مدة معينة يقضيها التلميذ داخل المسيد، فقد تطول هذه المدة سنوات، وقد يظل التلميذ منتسبا إلى المسيد إلى ما بعد العشرين من عمره، إن نهاية الانتساب إلى المسيد وإتمام الدراسة به إنما تتقرر حينما يصفي التلميذ لوحته، أي يتقن القرآن الكريم حفظا ورسما اتقانا تاما، وإذ ذاك يستحق أن يطلق عليه لقب الفقيه، والمتفوق من التلاميذ من يتقن ذلك في سن مبكرة فيكون مؤهلا لقراءة القرآن بالقراءات السبع، وكان والدي كما قلت بصريا أي انه اتقن قراءة القرآن الكريم بطريقة ورش وحتى الحسن البصري، وكان رحمه الله يريدني أن أكون سبعيا أي أقرأ القرآن قراءات الأئمة السبع إلى حمزة. إن قلة من الفقهاء من يفلتون من المكائد والمناورات التي يحيكها التلاميذ لهم، ولكنهم جميعا يأخذون الحيطة لكي لا يفلت زمام سيطرتهم على تلامذتهم من يدهم، ولكل أسلوب في التعامل مع تلامذته، وأغلبهم يوكل لمن يثق فيه منهم مهمة الاشراف على كثير من الشؤون المتعلقة به لكي يبقى على تلك الهيبة اللازمة لفرض الانضباط، مثلا فإن كبير التلاميذ هو المسؤول على حث التلاميذ على الاسراع في الوفاء بما عليه من التزامات مادية، وخاصة منها تلك التي ترتبط بمناسبات الأعياد، فلكي يأذن الفقيه ببدء عطلة أحد الاعياد لابد أن يكون جميع التلاميذ قد ادوا ما عليهم من واجبات، ولذلك كنا نجد ونحرص على حمل تلك الواجبات وتأنيب المتماطلين، لان ذلك يتسبب في تأخير العطلة وحرماننا من التمتع بكل دقيقة فيها، وكانت العطل الرسمية للمسيد معروفة، لا تختلف من هذا لذاك. وهناك عطل على مدار السنة تكثر أو تقل تبعا لعدد التلاميذ الذين يحتفى بهم بسبب ختمة من الختمات، أو "للتخرجة" الصغيرة أو الكبيرة، وعدا هذه العطل قد يستطيع تلميذ أو أكثر اصطناع سبب للتغيب يوما أو يومين أو أكثر قليلا، كحفلة زواج في العائلة، أو وفاة فرد منها أو مرض.. أو تمارض! كان الفقهاء يعيشون حقا في هناءة بال، فالمجتمع كفل لهم الحياة الكريمة والاحترام، وكانوا ينعمون بالرضا للمهمة النبيلة التي يؤدونها، وهم يمارسون هذه المهمة باخلاص و محبة وتعلق بها. فهي إذ تجلب لهم مصدرا كريما لعيشهم فإنهم يعتبرونها نوعا من التعبد والتقرب إلى الله بتحفيظ كتابه الكريم، كانوا بسطاء يتمتعون براحة القلب وبالسكينة، ويعيشون في مجتمع يحكمه ويوجهه الضمير الديني، سمته التعاون والتضامن، افراده شركاء في المحافظة على القيم والمبادىء والتعاليم الدينية، كان هناك ميسورون، ولكن لم يكن هناك اغنياء بالمفهوم المادي للكلمة، ومن أتاه الله اليسر في رزقه وتجارته وعلمه سعى لاسعاد اهله وجيرانه والتماس الرضا من الله بما ينفق على أعمال البر والاحسان، فلا يباهى امام الناس بماله أو جاهه، ويتستر ما وسعه ذلك لكي لا يجرح عواطف المحتاج، فتراه يحمل قفته بعد أن يستبضع من السوق فيحجبها تحت جلابته وهو داخل بها إلى بيته، حتى لا يرى المحتاج أو الضعيف ما تحمل قفته من لحم أو خضر أو فواكه!. وكان الجميع على موعد مع الفجر يصلونه جماعة ويتبادلون تحية الصباح، فتسمع في الأزقة والدروب كلمة "السلام عليكم" يتبادلها الرجال فيما بينهم، ثم تدب الحركة في كل مكان، كل واحد إلى مقر عمله لكسب رزقه الحلال بالعرق والفضيلة. * تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت