ارتفع صوت الثنائي غيرليندا جيلينيك ومارسيلا سيرنو تدريجاً وانطلق بقوة بين ارجاء المسرح الروماني العتيق، معلناً انطلاق سهرة اوبرا فيانا بقيادة المايسترو أُووي ثايمر، مدير "الأوبرا الشعبية" volksoper النمسوية. وعندما غنّت غيرليندا ومارسيلا قطعة "زواج الفيغارو" الشهيرة في مقدم العرض، تحول المسرح الدائري الضخم الذي بناه الرومان وسط تونس بعد سقوط قرطاج الى قصر اوبرا تراثي، وبدا على الجمهور الجالس على المدرجات الحجرية وسط اضواء خافتة مثل كائنات اسطورية، تسلّلت الى المسرح من نوافذ التاريخ. وشكّل مجيء اوبرا فيانا الى المسرح الروماني في مدينة "الجَم" 200 كيلومتر جنوب العاصمة التونسية تتويجاً لنجاح تجربة المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية الذي يقام في المدينة في آب اغسطس كل سنة بمشاركة أشهر فرق الاوبرا الروسية والاوروبية. ومنح المسرح التاريخي الكثير للمهرجان، فهو اهم مسرح روماني في افريقيا والثاني بعد "كوليزي" روما الشهير، ويجمع المؤرخون على قيمته الحضارية الكبيرة لأنه ما زال محافظاً على طابعه وشكله وعمارته الرومانية. كان المسرح يستخدم في القديم لمشاهدة الوان عنيفة ودموية من المصارعة، بين حيوانات مفترسة ورجال محكومين بالاعدام في المملكة الرومانية التي أقامها حكّام روما في تونس بعد زوال الدولة الفينيقية اثر هزيمة القائد القرطاجي هنيبعل في موقعة "جاما" وسط تونس عام 146 قبل الميلاد. وتختزل الاصوات الناعمة التي تنطلق من حناجر سيدات اوبرا فيانا تطور المجتمع الانساني من عصر الفرجة الدموية التي يتلذذ الحضور بعدها بمشهد الموت الفظيع، الى عصر الاستمتاع بنعومة الحان يوهان شتراوس وموزارت وريتشارد كارزيكوفسكي وجيوزيبي فيردي، ورقّة اصوات رفيقات غيرليندا ومارسيلا. وأضفت مهارة عازفي الفرقة الاربعين مستوى رفيعاً على الحفلة التي كانت قدمتها ايضاً في العواصم الغربية الكبرى، ولاقت نجاحاً كبيراً حيثما عرضت اعمالها، وفي مقدمها "ازهار من الجنوب" و"ليلة في فيانا" و"اصوات الربيع" لفرانز ليهار ويوهان شتراوس. واستقطب المسرح الروماني حضوراً كثيفاً في غالبية سهرات المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية، خصوصاً حفلتي اوبرا فيانا والاوبرا الروسية، اذ جاء عشّاق اللون الاوبرالي بسياراتهم وبالقطار من العاصمة تونس ومدن اخرى، وكان بينهم اعداد كبيرة من السياح الذين كانوا يمضون اجازاتهم السنوية في سوسة او المهدية او حمامات. ويعتبر "كوليزي افريقيا" اهم معلم تاريخي روماني بقي صامداً في وجه الحروب والكوارث ومحاولات النهب. وعلى رغم استخدام قسم من حجارته في انشاء معالم اسلامية في الحقبة الاولى من الفتح العربي، في مقدمها جامع عقبة بن نافع في ميدان القيروان القريبة الى الجم، فان مظهره الخارجي لا يدل على انه ناقص. فهو يلوح من بعيد للآتين الى الجَم وكأنه كوليزي روما نفسه نُقِلَ الى هنا بكامل أجزائه. وفيما يفتح المسرح ذراعيه ليلاً لاستقبال فرق الموسيقى ذائعة الصيت والمولعين بالسماع، فإن فرق علماء الآثار لا تغادره نهاراً باحثةً عن مزيد من المعلومات والاسرار عن سير حياة القدامى من المناطق المجاورة اكدت انه كان مندمجاً في منظومة حضرية واقتصادية متطورة، الا انها بقيت محدودة ذات طابع محلي بحت بعد سقوط قرطاج. ووعدت فرق علماء الاثار التي تعمل في المنطقة منذ سنوات بالقاء اضواء جديدة على الحقبة الرومانية من تاريخ "الجَم" وقصرها، وعثر باحثون اخيراً على لوحات فسيفسائية تشكل ارضية لبيوت عتيقة في محيط المسرح الروماني، مما تساعد في القاء الضوء على جوانب بقيت مجهولة من تاريخي المدينة والمسرح.