تتوقف باصات السياح الفخمة حول ميناء قرطاج الفينيقي الذي ما زال محافظاً على شكله القديم عندما كان يستقبل المراكب والسفن التجارية والحربية على أرصفته ذات الشكل نصف الدائري. يستمع السياح الى شروح تاريخية من أدلاء يتحدثون لغات عدة ثم ينتشرون داخل الآثار القريبة من الميناء ويزورون ما تبقى من مدينة اليسار وهنيبعل، بأعمدتها ومعابدها وبيوتها التي أحرقها الرومان وذروا عليها ملحاً في أعقاب هزيمة جيش قرطاج أمام قوات روما منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. بعد جولة على الأطلال تصعد وفود السياح الى تلة قريبة يقال ان اليسار ملكة صور اختارتها لتقيم عليها النواة الأولى لمدينة قرطاج وتطل التلة على الضاحية الشمالية لتونس العاصمة حيث يقوم الآن متحف قرطاج الذي يضم أجمل ما تبقى من إرث المدينة العريقة. وغير بعيد عن المتحف يقوم المسرح الروماني الكبير الذي يستضيف سهرات "مهرجان قرطاج الدولي" صيفاً. من خلال الجولات على هذه المعالم اللافتة يكتشف السائح صفحة اخرى من تاريخ البلد لم يطالعها في زياراته لمدن تونسية اخرى قبل وصوله الى العاصمة تونس. هذا الصنف من السياح المولعين بزيارة المعالم الأثرية واكتشاف التاريخ القديم أخذ بالتزايد في الأعوام الأخيرة، بعدما كان السائح الأوروبي فضل قضاء اجازته في فندق على ساحل البحر بحثاً عن البحر والشمس والرمال الذهبية الصافية. وباتت الجولات السياحية تبرمج على نحو يتيح للمفتونين بالسياحة الثقافية زيارة أكثر ما يمكن من المدن العتيقة. وباشرت وزارة السياحة التونسية السنة الجارية حملة تحت عنوان "عام السياحة الثقافية" بعد استكمال ثمانية متاحف كبيرة في محافظات مختلفة أهمها "متحف شمتو" شمال الذي يخلد الملوك النوميديين الذين حكموا تونس والجزائر بعد الفترة الفينيقية. وفي مدينة تونس التي انشئت بعد الفتح الاسلامي أقيم "مسلك ثقافي" للسياح الأجانب يتيح لهم ان يجولوا على المعالم التاريخية الرئيسية في يوم واحد، فيزورون جامع الزيتونة والمدارس القديمة والأسواق التقليدية وبيوتاً عربية، مثل "دار الأصرم" و"دار بن عبدالله". وتحافظ هذه البيوت على عمارتها الأصيلة وتنقسم الأدوار فيها الى غرف تعكس نمط الحياة الأسرية في الماضي، فهناك جناح للرجال وآخر للنساء وغرف لاستقبال الضيوف وقاعات للأكل وجناح مخصص لسكن الخدم. ويقبل السياح على زيارة البيوت القديمة لنقوشها وزخارفها التاريخية ونمط عمارتها التي تعطي صورة حية عن الحياة اليومية في العصور السابقة. وتمتاز مناطق الشمال بكثافة الآثار الرومانية والبونيقية في "شمتو" و"مكثر" و"دقة" ما شجع على التخطيط لاقامة محطات سياحية واستراحات ومطاعم في محيط المناطق الأثرية التي تشبه متاحف كبيرة. ويمكن للسائح ان يجول على هذه المناطق في رحلات بالباص تقوده في نهايتها الى مدينة طبرقة المعلقة على سفح جبل يطل على البحر المتوسط. ومع تطور السياحة الثقافية واقامة مطار دولي في طبرقة منذ عام 1994 تحولت المدينة الى مركز رئيسي لاستقطاب السياح غير التقليديين، وتتيح الاقامة في طبرقة استكشاف المناطق الأثرية القريبة والاستمتاع بهدوء الغابة ونقاوة البحر في آن. ويبقى "مسرح الجمّ" وسط، الذي يعتبر ثاني مسرح روماني كبير في العالم بعد كوليزي روما الشهير، أهم معلم تاريخي يستقطب السياح في تونس. وكان يستضيف في العصر القديم دورات المصارعة بين الحيوانات الوحشية والمحكومين بالاعدام. ويذكر المؤرخون ان المدارج الحجرية ذات الطبقات الثلاث كانت تمتلئ بالجمهور الذي يأتي لمتابعة المشهد الدموي. اما اليوم فتأتي عشرات الباصات بالسياح لمشاهدة المعلم الفريد أو لمتابعة مهرجان للموسيقى السمفونية الذي يقام على مدرجاته كل صيف بمشاركة فرق شهيرة من ألمانيا وايطاليا وفرنسا والولايات المتحدة. وليست هناك فنادق سياحية في مدينة "الجم" لأن الزوار لا يقيمون فيها أكثر من نصف يوم ثم يغادرون الى سوسة أو صفاقس. وعادة ما تندرج زيارة "الجم" في اطار جولات ثقافية تشمل كذلك الآثار الرومانية في سبيطلة جنوب وقفصة وصفاقس. وغير بعيد عن الجم تستقطب القيروان وفوداً كثيرة من السياح الذين يأتون اليها ليقرأوا صفحات من كتاب الفتح الاسلامي في المغرب العربي. فهي أول مدينة شيدها العرب في منطقة الغرب الاسلامي ومسجدها "جامعة عقبة بن نافع" هو الأول الذي انشئ في المنطقة المغاربية وما زال يحمل اسم مؤسسه قائد الفتوحات الاسلامية. ويفضل السائح ان يجول في شوارع القيروان القديمة راجلاً ليتوقف عند عمارة مساجدها المميزة وبرك الماء الضخمة التي كانت تزود المدينة الماء الصالح للشرب وأسواقها التي ما زالت تعج بالحركة التجارية لا سيما أسواق السجاد القيرواني. ومن القيروان ينطلق السياح الى سوسة القريبة ليزوروا قلعتها التاريخية التي انطلقت منها فتوحات صقلية ومسجدها الكبير وآثارها الرومانية، ثم يجولون على المنستير المجاورة حيث يشكل رباطها أحد اجمل الحصون التاريخية الباقية على الشريط الساحلي. وكثيراً ما تكون المنستير المحطة الأخيرة قبل امتطاء طائرة العودة من مطارها الدولي. ويمكن القول ان المنستير هي أفضل مدينة مناسبة لسياحة الآثار في تونس كون مطارها يتوسط دائرة تحيط بها المناطق الأثرية والمدن التاريخية في شكل نصف دائري.