صعدة ... إحدى المحافظات اليمنية الثلاث والعشرين، تقع في أقصى الشمال على الحدود مع المملكة العربية السعودية، عاصمتها مدينة صعدة التاريخية التي تربض على قاع "حوض" فسيح مساحته 30 كلم تحتضنه سلسلة جبال ترتفع عن سطح البحر 1800 متراً. وإذا بدأت رحلتك من العاصمة صنعاء تصل اليها بعد أن تقطع مسافة 243 كلم، وأول ما يستقبلك فيها شارعها الرئيسي الوحيد. شارع صنعاء الذي لا يتجاوز طوله الخمسة كلم وتصطف على جانبه عشرات المحلات والدكاكين والمطاعم وغيرها تجعل منه سوقاً نشطاً وتشرف على الشارع مباني معظمها إسمنتية مكونة في الغالب من طابقين وتحمل خليط عشوائي من الطابعين المعماريين الحديث والمحلي... وينتهي الشارع عند "باب اليمن" وهو أحد أبواد المدينة القديمة ويعتبر هذا الجزء من المدينة قلبها النابض بالحركة على الدوام حيث تتركز مجمعات المكاتب الحكومية والمرافق الخدمية وغيرها. ونظرة واحدة يلقيها الزائر من أعلى منارة جامع الإمام الهادي - أعلى مكان في المدينة - تكفي لإدراك أن شارع صنعاء وما حوله من أحياء هو كل ما تعرفه صعدة في توسع عمراني حديث يزحف في كل اتجاه بإيقاع غير منتظم يزاحم المدينة القديمة ويحاصرها من الناحية الجنوبية الشرقية وهي بسورها تحمي أصالتها وتقاوم بشراسة زحف اللامعنى واللاهوية. من باب اليمن يلج الزائر الى معلم من معالم صعدة العتيقة... سوقها الشعبي الذي يضج بالحركة والنشاط خصوصاً الأحد من كل أسبوع فهو يوم تسوق للأهالي، ويفد المزارعون من مختلف أنحاء المحافظة لبيع منتجاتهم كالبرتقال والرمان والعنب والجوافة وغيرها... وفي السوق مجموعة كبيرة من البازارات تبيع أنواع المشغولات اليدوية من حلى ومجوهرات ومصوغات فضية وذهبية بالإضافة الى الأواني المصنوعة من سعف النخل والأواني الحجرية المقالي. كما يباع في السوق كل ما يمت للآثار بصلة... أسلحة بيضاء ونارية قديمة، أدوات منزلية، حلي وأدوات زينة، أزياء وملابس شعبية... تشتري من أهالي القرى لتباع للسياح الذين يفدون بأفواج كبيرة على هذه المحافظة على رغم أن القانون يحظر بيع أنواع منها...! وتشتهر مدينة صعدة بسوق بيع الأسلحة المعروف بسوق "الطلح" ويقتني منه الناس أسلحتهم من مسدسات ورشاشات آلية محمولة وذخائر وهي أسلحة مجلوبة من مختلف بلدان العالم وخصوصاً روسيا وأوكرانيا والصين والولايات المتحدة. ويطل على السوق أقدم معالم صعدة وأهمها على الإطلاق... جامع الإمام الهادي الذي أسسه في عام 288ه - 900م الإمام يحيى ابن الحسين ابن القاسم الملقب بالهادي الى الحق توفى 298ه - 910م والجامع يعد واحد من أقدم الجوامع في اليمن وما يزال يحتفظ بطابعه وشكله القديم على رغم عمليات التوسعة والترميم العديدة التي أجريت له... وتحيط بجدران الجامع من الداخل نقوش قديمة هي عبارة عن قصيدة شعرية تحكي قصة إحدى عمليات التوسعة التي شهدها في الماضي. وللجامع منبرين - قديم وجديد - ومأذنة كبيرة تشاهد من أعلاها المدينة كلها ويلحق به مجموعة من القباب تحوي قبور الإمام الهادي وابنه القاسم وزوجته وأحفاده، إضافة الى 42 غرفة يبيت فيها من يطلق عليهم بالمهاجرين وهم من يقصدون الجامع من مناطق بعيدة بهدف التعبد، كما يلحق به بناء كبير مبني من الطين مكون من 82 غرفة يعرف شعبياً بالسمسرة عمره من عمر الجامع تقريباً وكان يستخدم ولا يزال كمخازن للعائدات التي تأتي في أوقاف الجامع وهي كبيرة جداً ومعظمها محاصيل وحبوب زراعية ينتفع بها القائمون على الجامع وطلاب العلم والمهاجرون. وحول جامع الإمام الهادي وتحديداً منذ 910 ميلادية نشأت مدينة صعدة القديمة وتوسعت على مر السنين وأحيطت كل حارة بسور خاص بها وتوقف زحف عمرانها بعد أن طوقت كلها بسور جديد سنة 940ه - 1533م ومن حاراتها وأحيائها التي ما زالت حتى الآن تحتفظ بطابعها القديم حارات: شيبان، عليان، الجربة، الدوار، سمارة، الهادي، القصر، السلام... وحينما تتجول في هذه الأحياء، في شوارعها الضيقة وأزقتها الأكثر ضيقاً يداهمك شعور بأنك خارج زمانك وعصرك وكأنك عدت الى الوراء أكثر من 1000 سنة، يأسرك المكان بتاريخه الذي يفرض حضوره بقوة، وتبهرك مبانيها العتيقة المشيّدة من الطين بقسماتها الجميلة وتكوينها البديع وطابعها المعماري الفريد... وأبوابها ونوافذها الخشبية المزخرفة بالنقوش والتي تعلوها العقود "القمريات" التي يتميز بها الطابع المعماري اليمني عن غيره. ولا تكمل متعة الزائر لصعدة إلا بالصعود على سورها الذي يعود تاريخه بشكله الحالي الى أكثر من خمسمائة سنة حينما شيده الإمام المتوكل يحيى شرف الدين 1506م - 1557م وارتفاع السور غير منتظم ويصل في بعض الأجزاء الى خمسة أمتار، أما سماكته أو عرضه فيزيد عن الثلاثة أمتار وطوله يقترب من الأربعة كلم وهو يحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم ويمكن للمتجول عليه أن يرى معظم معالم المدينة القديمة وله خمسة أبواب هي: باب اليمن، نجران، المنصورة، جعران، السلام... ولأنه مبني من الطين بدأت بعض أجزاءه في التساقط... والطريقة التي صمم بها السور تظهر وعي قدماء اليمنيين بفنون الدفاع فعلى سبيل المثال صممت أبواب السور بحيث تمكن حراسها من رؤية الشخص القادم بينما هذا الأخير لا يراهم...! وصعدة واحدة من مجموعة مدن يمنية تمتلك بالإضافة الى رصيدها التاريخي قيمة روحية وفكرية عظيمة تجعلها على الدوام موطناً لعلماء الدين ولطلاب العلم، إلا أن صعدة تتميز عن غيرها بالتناقض الصارخ والمدهش في تركيبتها الاجتماعية وذلك من النواحي العرقية والدينية والثقافية والفكرية وحتى السياسية وهي تناقضات تغذي بعضها البعض ورثت من مراحل وعصور تاريخية مختلفة تعود الى مئات السنين عاشتها اليمن كلها لكن صعدة احتفظت لنفسها ببصمة لكل منها. ففي صعدة بقايا الديانة اليهودية التي دخلت اليمن قبل الميلاد إذ يعيش في ضواحيها مئات من اليهود اليمنيين معظمهم يعمل بالحرف اليدوية ويميزون أنفسهم بزنانير ظفائر من الشعر تتدلى الى أعناقهم. وفي إطار المذهب الزيدي الذي يتمذهب به أبناء صعدة وجزء من الشعب اليمني وهو يعد أقرب مذاهب الشيعة الى السنة مذهب الجزء الآخر من الشعب توجد الهادوية وهي وفقاً لتعريف الموسوعة اليمنية ومصادر أخرى فرقة من فرق الزيدية تنسب آراؤها الفقهية الى الإمام الهادي الى الحق يحيى ابن الحسين الذي أسس دولة الأئمة الزيدية في اليمن انطلاقاً من صعدة عام 897م واستمر حكمها بين الضعف والقوة طوال إحدى عشر قرناً الى أن سقط نظام آخر أئمتها البدر بن أحمد يحيى حميد الدين مع قيام ثورة 26 أيلول سبتمبر 1962 التي أسست النظام الجمهوري، ويتخذ أتباع هذا المذهب من جامع الإمام الهادي حيث قبره وقبور آله مزاراً ومحجاً ويؤخذ عليهم تعصبهم المذهبي. وفي وادعة - إحدى ضواحي صعدة - يقطن الشيخ مقبل الوادعي وهو واحد من كبار علماء الحديث في العالم الإسلامي ورمزاً من رموز التيار السلفي يقصده أتباعه من مختلف أنحاء اليمن ومن مختلف أنحاء العالم الإسلامي قبل أن تضع الدولة حداً لذلك لتلقي علوم الحديث والسنة النبوية على يديه ويستضيفهم في مجمع سكني كبير يعلوه مسجد يستخدم كمدرسة. ويوجد في صعدة من يطلق عليهم ب"السادة" وهم مجموعة عائلات وأسر تنتمي الى بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت الى وقت قريب تشكل نخبة المجتمع وفئة ارستقراطية تحتكر الثروة والسلطة والعلم وتغير هذا الوضع كثيراً بعد قيام ثورة سبتمبر التي قلصت من هذه الامتيازات لمصلحة توسيع قاعدة المشاركة في الثلاثي السابق الذي كان وما يزال محور الصراع في اليمن. ويعيش في المدينة آلاف من المواطنين ممن يتمذهبون بالمذهب الشافعي قدموا من محافظات أخرى ويشغلون وظائف في المكاتب الحكومية ويزاولون أعمال التجارة وبعض الحرف وهي أعمال وحرف كان أبناء القبائل في صعدة يأنفون ممارستها بسبب بعض الأعراف القبلية التي تحتقر هذه المهن وهي أعراف بدأت تنقرض وخصوصاً في إطار المدينة التي تشهد نشاطاً تجارياً واستثمارياً كبيراً يشكل عنصر جذب للأيدي العاملة