استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . كان التاريخ الوطني حاضراً يشحذ هممنا في الكفاح الذي خضناه لتحرير الوطن 8
نشر في الحياة يوم 22 - 08 - 1998

إن العبرة من الأحداث، سواء مما يعيشه المرء أو يراه، أو مما يعرض عليه في صيغ مختلفة كفيلم أو قصة أو درس أو محاضرة أو كتاب، هي الغاية التي يتوخاها المربون والمصلحون والقادة والمكافحون، ولقد حفل القرآن الكريم بسرد قصص الأنبياء والرسل والأمم لا لغاية الإخبار بما حدث تثبيتاً وتأكيداً لإحدى المعجزات التي خص الله بها النبي الأمي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل ليزداد بها المؤمن إيماناً بالعظة والعبرة، وليقيم الله بها الحجة على الكافر بالترهيب والإنذار والتذكير. يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: "فاقصص القصص لعلهم يتذكرون".
وإذا كان التاريخ علماً قديماً عني بتسجيل وتدوين أخبار الأمم وتراثها، فإن علم المستقبل، أو المستقبلية كما يصطلح عليها، وهو علم حديث، يعنى بتدوين المعطيات ومعالجة دلالات الأرقام، واتجاهات الأفكار وعناصر التغيرات الكامنة في الأشياء من أجل رسم صورة للاحتمالات وضبط مسارها وصولاً الى أن توضع بين يدي القادة والمقررين عناصر القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي والثقافي في مواجهة المستقبل.
وسواء علم التاريخ القديم، أو علم المستقبلية الحديث، فإن الإنسان على مختلف مستوياته الثقافية يظل هو المادة الخام للعلمين معاً، هو الهدف، وهو المحرك، هو المستهلك، وهو المنتج، هنا تأتي وتتدخل مهمة المربين والمصلحين والقادة والمكافحين، مهمة مجالها وجدان الإنسان وطبعه وطبيعته، وهدفها التربية والتوجيه والتذكير وبلورة العبرة التي تخاطب منطقة الوعي في الإنسان، وتقوي فيه جانب الإيمان.
ولقد كان التاريخ الوطني بأمجاده ورجالاته وبطولته هو سلاحنا في الجهاد الوطني الذي خضناه بقوة الإيمان، وكان هو سندنا في إيقاظ النفوس وشحذ العزائم وإثارة الهمم، وكان ذلك التاريخ حياً حاضراً بيننا، ففي كل زاوية ومنحنى في مدينة فاس، كان التاريخ المجيد للمغرب يذكرنا بما كنا، وكيف كنا. كانت أيديولوجيتنا السياسية متواضعة ولكنها كانت عميقة ومؤثرة لاتحتاج منا إلى جهد نبذله في البحث عن الأفكار والكلمات والقوالب البيانية المثيرة للحماس، فكان يكفي أن نذكر الناس في خطبنا الوطنية بالمولى إدريس الأزهر وبسيفه المعلق في صومعة القرويين ليستيقظ التاريخ كله في وجدان الشعب بركاناً من الحماس والإيمان والحمية الوطنية.
لا مستقبل لنا من دون ماضينا
وكانت تجربة الكفاح الوطني غنية بالدروس، ومن أهم تلك الدروس هي أن تاريخنا الوطني شلال متدفق فينا، بل إن هذا التاريخ هو الترياق الذي يعيش به المغربي، وهو الهواء الذي يتنفسه وجدانه، وقليلة هي الشعوب التي يستمر تاريخها حياً فيها متجدداً بها.
كانت تجربة الكفاح الوطني عبرة ثمينة بالنسبة لي أكدت ورسخت إيماني بأن عظمة الأمة المغربية تكمن في تاريخها، لا كأحداث مضت وطواها الزمن، بل كروح متوهجة، كقيم، كرصيد من العبر، كحوافز تنير الفكر، كرسالة لابديل للمغاربة عنها إن هم أرادوا البقاء أعزاء كرماء أحراراً.
لا مستقبل لنا من دون ماضينا، من دون إحياء روح ذلك التاريخ فينا، وبلورة واستجلاء العبر منه، ودراسته والتمعن فيه، وهي مهمة غير مقصورة على فئة دون أخرى، فهي مسؤولية الباحثين المؤرخين والأساتذة والمربين، ورجال السياسة والمصلحين، بل إني مؤمن أن هذه الحقبة الحيوية من ترايخنا ونحن نتأهب على كل صعيد لدخول القرن الواحد والعشرين، وهي الحقبة التي ينبغي أن يصرف فيها أكبر الجهد لتثبيت القواعد في بيتنا المغربي، قواعد الوعي العميق بحقائق وجودنا ورسالتنا كأمة ووطن ودولة وإعادة رسم حدود تلك الرسالة وآفاقها ووسائلها لتتقلدها الأجيال جيلاً بعد جيل وتأمن بها طريق بقائها ووجودها، وتحمد لنا نحن جيل القنطرة جهدنا ووفاءنا والتزامنا بأداء رسالتنا تجاهها وتجاه التاريخ.
هذا هو درس المستقبلية الذي علينا أن نلقنه لأبنائنا، درس استخلاص العبر من تاريخنا وبلورتها في ايمان ووعي الأجيال لتكون لها، في المستقبل، خير معين في التخطيط واتخاذ القرارات وخوض غمار التحديات، وهم آمنون مطمئنون.
بعد هذه المقدمة، أو التوطئة، أقول ان موضوع "رسالة العرش الإسلامية... من إدريس الأول الى الحسن الثاني" هو هدف وموضوع وغاية هذا التقديم الذي أضعه بين يدي القارىء الكريم تمهيداً لما سأرويه وأسرده من مواقف وذكريات، ولقد حرت كيف يمكنني في موضوع، أو عدة مواضيع، أن أجعل القارىء في صلب الفكرة يراها جلية وواضحة ومستوفية عناصر وحدتها وتناسقها. ويجب علي أن أقول ان سبب حيرتي لايعود الى انفلات خيط أو خيوط من الفكرة في ذهني أو معلوماتي أو قناعتي، ولكن يعود الى اتساع رقعة الموضوع زماناً وأفكاراً وخضماً من الأحداث والشواهد على امتداد ألف ومائتي سنة والمؤكدة المثبتة لوجود ذلك الخط المستقيم بين باني ومؤسس دولة المغرب المولى إدريس الأكبر ومجدد وباعث المغرب الجديد جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله.
الشرق الحاضر فينا
هبت على المغرب نفحات الرسالة المحمدية من الجزيرة العربية، حملها جيش الفتح الإسلامي، ومنذ ذلك الوقت أصبح الشرق العربي حاضراً فينا، وكان قبل الإسلام منطقة لايعرف عنها المغاربة إلا القليل، لايزورونها، ولاتشغلهم أحداثها ولايهمهم ما يجري فيها، ثم أصبح الشرق العربي مركز استقطاب روحي وثقافي للمغرب والمغاربة، ففي رحابه توجد الكعبة المشرفة التي يؤمها المغاربة بصلاتهم خمس مرات في اليوم، وبه مسجد وبيت وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى في القدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين، فلا تشد الرحال إلا لثلاث كما قال الرسول الكريم "المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا".
وشد المغاربة رحالهم الى الشرق العربي: حجاجاً وطلاب علم ومجاهدين. وشد الشرق رحاله للمغرب: علماء ودعاة ومجاهدين وباحثين عن السلام والأمن والعدل في ظل دولة الإسلام.
وعبر اثنى عشر قرناً، من المولى إدريس الأول، الى جلالة الملك الحسن الثاني، نجد المغرب المسلم حاضراً مع الشرق العربي مناصراً ومآزراً حامياً ومنجداً، وخاصة حينما يتعلق الأمر بمقدسات الإسلام، فكان المغرب بحق تجريدة متأهبة في كل وقت للدفاع والنداء والمناصرة.
وإذا نحن اختصرنا مسافات المكان ومساحات الزمان وقرأنا أحداث التاريخ انطلاقاً من تلاحم المغرب مع المشرق ندرك عمق وأصالة الإيمان والالتزام في مواقف ومبادرات جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله تجاه الشرق العربي.
بل إن وجه التشابه يصل الى حد الاعتقاد بصحة القولة المتداولة والتي تقول: إن التاريخ يعيد نفسه.
فحينما غادر المولى إدريس الأول الشرق متجهاً الى المغرب قبل اثنى عشر قرناً، كان الشرق العربي يشهد اهتزازات عميقة كانت ميلاداً لبؤر من الصراعات تشتعل ثم تتوارى تحت الرماد لتشتعل مرة أخرى. وكانت المحنة القاسية التي عاشها المولى إدريس صورة لذلك الصراع المتأجج فكانت هجرته الى المغرب رحلة الى بلد الأمان الروحي وأرض السلام السياسي، لذلك فإن المولى إدريس كان له موقف مما يجري في الشرق، وكان يتألم للأحوال التي آلت إليها الصراعات المحتدمة فيه وحينما أسس مع المغاربة دولة المغرب الإسلامية كان حريصاً أن تقوم هذه الدولة على أسس واضحة وقويمة لتكون درعاً للاسلام والمسلمين وسنداً للحق والحرية والعدل، ولم يفكر المولى إدريس لحظة في أن يجعل من الدولة التي أسسها مع المغاربة قوة مناهضة أو معادية للشرق، بل سعى أن تكون قاعدة للوفاق والوئام وصورة لدولة الإسلام على هدي الكتاب والسُنة.
وها هو التاريخ وكأنه يعيد نفسه في صور أخرى.
ها هو جلالة الملك الحسن الثاني يسخر كل ما يملكه المغرب ويستطيعه لمآزرة الشرق العربي كما فعل المولى إدريس وكما فعل جميع الملوك المغاربة.
وهكذا يعهد المشرق العربي الى جلالة الملك الحسن الثاني بأثقل المهمات السياسية، فهو رئيس لجنة القدس، والمخاطب الأمين المسموع الكلمة في العالم، ينقل بصدق وإيمان مشاغل العرب ومطالبهم ويترجم رغباتهم، وهو رئيس القمة العربية وعلى أرض المغرب انعقدت ست قمم عربية من مجموع تسع قمم.
التاريخ يعيد نفسه حياً في سياسة ومواقف جلالة الملك الحسن الثاني تجاه الشرق العربي، هذا الشرق الذي هب المغاربة في مختلف العصور لنصرته ومآزرته والدفاع عن مقدساته وصفحات التاريخ مليئة بصور المواقف المغربية تجاه الشرق، نجدة ونصرة، وبذلاً وعطاء. فالشرق حينما يتألم يسري ألمه في نفوسنا، وحينما يداهمه الخطر يهب رجالنا لمناصرته ودرء الخطر عنه وقصص الجهاد المغربي من أجل الشرق لاتعد ولا تحصى، ومواقف المغرب تجاه الشرق العربي هي إحدى الثوابت والأسس لرسالة العرش الإسلامية من المولى إدريس الأول الى جلالة الملك الحسن الثاني.
الملوك العلماء
وإن إحدى الثوابت والأسس لرسالة العرش الإسلامية عبر العصور تتجلى في تلك الميزة الفريدة التي تحلى بها الملوك المغاربة.
وحين بايع المغاربة إدريس الأول واختاروه أميراً للمؤمنين لم يضعوا على رأسه تاجاً مرصعاً ولا صنعوا له صولجاناً، ولا خصوه أو خص نفسه بلباس مميز، فهم بايعوه على التقوى والرضوان ووضعوا بين يديه أمانة نفوسهم وأموالهم وحريتهم وكرامتهم، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، فبينهم وبينه دين الله وأحكامه فهو العقد المقدس بينهما. فالإسلام هو الرابطة بين الشعب المغربي وملوكه، وهكذا تأسس العرش المغربي لينهض بتلك الرسالة الخالدة، رسالة الإسلام، ونشر دعوة الإسلام. لذلك فرضت هذه المهمة الجسيمة على الملوك المغاربة أن يكونوا أئمة شعبهم، أئمة علماء فقهاء. ومن هنا فإن ملوك المغرب تميزوا عن غيرهم من ملوك الأمم والشعوب بأن كانوا رجال علم، فلايمكن أن يكون داعية ومصلحاً وأميراً للمؤمنين إلا من كان على جانب من التفقه في الدين. فالملك المغربي ملك عالم، وكتب التاريخ تروي قصصاً عن الملوك العلماء المغاربة عز نظيرها في أي نظام بدولة إسلامية أخرى. وأول هؤلاء العلماء كان المولى إدريس الأول، فقبل أن يبايعه المغاربة كان خطيباً وإماماً ومرشداً يقصده الناس للتزود بعلمه وأخذ الدروس عنه. وكان يتولى بنفسه تحفيظ القرآن الكريم للناس، وتفقيههم في شؤون دينهم.
وبعده كان المولى إدريس الأزهر عالماً، فقيهاً، محدثاً بل وكان يقرض الشعر أيضاً. وكان أول شيء فعله حينما أسس مدينة فاس أن أحاط نفسه بنخبة من العلماء والمحدثين ممن وردوا عليه من الأندلس والقيروان، وشكل منهم ما يشبه أن يكون أول مجلس علمي في تاريخ المغرب، وكان يعقد معهم مجالس للعلم ويشاركهم، وجعل منهم مستشاريه وناصحيه ووزراءه.
وقامت دولة المرابطين على أساس دعوة انطلقت من رباطات العلم، وكانت مقاليد الحكم ووظائف الدولة في عهدهم موكولة الى الفقهاء وعلماء الشريعة، إذ أن الدولة المرابطية قامت على إحياء الشريعة وتطبيقها في كل صغيرة وكبيرة. وإمام المرابطين عبدالله بن ياسين علم من أعلام الفقه الضالعين في معارف الشريعة. وحفل العهد المرابطي بعدد كبير من العلماء الأجلاء، وعرف ازدهاراً في علوم الفقه المنبني على المذهب المالكي، وأصبحت مراكش التي أسسها المرابطون مركزاً من مراكز العلم والعلماء بعد فاس.
وكالأدارسة فقد عني المرابطون بالعلم والعلماء وأسسوا المجالس العلمية التي ازدهرت في عهدهم في رحاب جامع ابن يوسف بمراكش.
كذلك الشأن بالنسبة لدولة الموحدين التي قامت على أساس الاجتهاد، وازدهرت في عهدهم المجالس العلمية، ونبغ العديد من العلماء الذين ناصروا الاتجاه المذهبي للموحدين.
أما المرينيون فيعرف الجميع شغف ملوكهم بالعلم واحتفاءهم بالعلماء، فهم مؤسسو أول حي جامعي في التاريخ لإيواء الطلبة والعلماء، وجعلوا لذلك أوقافاً عريضة خصص ريعها للوافدين على ذلك الحي، وكان الملوك المرينيون لايتحركون إلى جهة في أرجاء مملكتهم إلا بصحبة جمع غفير من العلماء، فهم رفقتهم في الظعن والسفر، وهم مرجعهم في كل نظر.
ومع آخر العصر السعدي، حيث دخل المغرب مرحلة المواجهة مع الأطماع والمؤامرات الصليبية، أصبح للعلماء دور أساسي ألا وهو دور الحث على الجهاد، وإقامة الرباطات للحفاظ على دولة الإسلام في هذه الديار.
وإذا وصلنا الى العهد العلوي، فإننا نصل الى عهد العلم والعلماء والملوك العلماء، فالأسرة العلوية هي أسرة العلماء، وفي عهدهم كان للعلماء الشأن الكبير.
وهنا لابد لي من التوقف قليلاً أمام بعض الصور المشرقة للملوك والعلويين العلماء. أقول بعض الصور، لأني لا أستطيع هنا الإحاطة بهذا البحر الزاخر.
فالمولى رشيد كان مجلسه مجلس علم وعلماء، يناظرهم، ويستمع إليهم، ويستمد منهم الرأي والنصح، وإن خالفه بعضهم، لايحجب عنهم بره، ولايمنعهم عطفه وحدبه، مثلما فعل مع علماء الزاوية الدلائية التي رأى أن نشاطها تعدى حدود رسالتها الدينية والتربوية، فقد أحسن إليهم فيما وضع حداً لنشاط زوايتهم، بل إنه قرب إليه بعض أقطاب الزاوية وألزم الآخرين بإفادة الناس في جامع القرويين.
والمولى إسماعيل كان يخفض جناحه للعلماء ويسمع الى نصحهم ويعفو عن غليظ القول من بعضهم، وهو من هو قوة وبأساً وصلابة في المواقف.
والسلطان سيدي محمد بن عبدالله عرف عنه حبه للعلماء والإنصات لنصحهم، وكانت له اجتهادات دينية وإصلاحية قضائية وتعليمية وكان عالماً متبحراً في علوم الحديث والشريعة، وله، كما هو معروف، كتاب "الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية" وهو كتاب أراد به طيب الله ثراه أن يكون مرشداً يتضمن زبدة توجيهاته وأفكاره الإصلاحية.
وابنه المولى سليمان كان مشهوراً بالورع والتقوى اشتهاره بإتقان الفقه والحديث والإلمام الواسع بالأدب والتاريخ.
والسلطان مولاي الحسن الأول كان معروفاً بالورع والتقوى، ومعرفة عميقة بالعلوم الدينية.
السلطان مولاي حفيظ كان عالماً متبحراً في الفقه، وكان شاعراً وأديباً.
وكان الملوك المغاربة دائمي الترحال في ربوع المغرب للتعرف على أحوال الرعية ودرء الفتن وحماية أمن الوطن والمواطنين، وكان من عادة الملك أن يصحب معه في رحلته ثلة من العلماء، فيعقد بمحضره مجالس العلم والمناظرات الفقهية، وكان الملك عادة هو الذي يثير المواضيع للمناقشة والمجادلة، وجرت العادة أنه إذا اقتنع الملك بوجهة نظر أحد المتكلمين قال لمن يروي الحديث من الطلبة أن يتلو الآية التي كانت موضوع التفسير، قال له: زد.
ولقد كان لمجالس الملوك المغاربة العلمية والفقهية واللغوية تأثير كبير في شحذ همة العلماء والفقهاء في محاولة لنيل حظوة المشاركة فيها، وكان للمشاركة المؤثرة للملوك في الحياة العلمية أثر بالغ في الازدهار الذي عرفته علوم الفقه واللغة في المغرب.
ويطول بنا الحديث لو أردنا استعراض القليل من الأمثلة المؤكدة لما كان لملوك المغرب من باع طويل في علوم الدين واللغة والمنطق، ولذلك كان ملوكنا يختارون بعناية فائقة مَن مِن أبنائهم أو اخوانهم أهل لتقلد المسؤولية من بعدهم، وكان أول مقياسهم في الاختيار أن يكون الخلف عالماً متضلعاً في شؤون الدين، بعد أن يكونوا قد اطمأنوا الى توفر المواصفات الأخرى من ذكاء ونباهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية وزهد في مظاهر الملك، ليكون الخلف أهلاً لتحمل الأمانة والنهوض بالرسالة وأحدث مثال على ذلك موقف السلطان مولاي سليمان الذي صرح أمام الناس بأنه استعرض أسماء أبنائه وأبناء الأسرة فلم يجد منهم أهلاً للمسؤولية غير ابن أخيه هشام، فاختاره ولياً للعهد دون أبنائه من صلبه.
وأروع مثال حي من تاريخنا المعاش هو ما قاله جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه لولي العهد آنذاك جلالة الملك الحسن وهو لايزال فتى غضاً: "يابني اختر بين أن تكون ولياً للعهد أو أن تكون ابن الملك أميراً" ومنحه فترة للتفكير والتقرير، وكان جواب الفتى الصالح "اخترت أن أكون ولياً للعهد".
أما المكانة التي كان يحتلها العلماء الى جانب ملوك المغرب فإن التاريخ يحكي قصصاً لامثيل لها من التقدير والوفاء المتبادل بين العلماء والملوك، فدور العلماء الى جانب العرش كان دائماً هو دور العالم الذي لايخاف في الله لومة لائم، وموقف الملك الذي يخشى الله في سرائه وضرائه، ويقرب العلماء إليه من أجل النصح لا من أجل المباهاة أو الزلفى. وسن ملوك الدولة العلوية المجيدة سنناً حميدة رائدة لم تكن من قبلهم، لقد كانوا أول من سن تدريس صحيح البخاري في وقت معلوم من السنة ابتداء من فاتح رجب الى اليوم السابع والعشرين من رمضان وفي كتاب الصولة للمرحوم ابن زيدان نص رسالة من رئيس الحكومة أبي أحمد للعالم أحمد بن سودة الذي أتيمن بحمل اسمه يقول له فيها: "لقد ظهر هلال رجب وعليك أن تحضر أنت والطلبة أي العلماء لفتح كتاب البخاري. وذكر ابن زيدان كيف كان العلماء يقسمون أبواب وفصول البخاري الى أجزاء معلومة بحيث يتم سرده وشرحه خلال ثلاثة أشهر تكون ليلة السابع والعشرين من رمضان متمها.
... وملوك قادة عسكريون
وكما كان الملوك المغاربة علماء وفقهاء كانوا قادة عسكريين مبرزين، بل ومبدعين في هذا الميدان، وسجل التاريخ العسكري للملوك المغاربة هو سجل ليس فقط حافلاً بالأمجاد والانتصارات بل ومفخرة من مفاخر التفوق في التخطيط والقيادة والابتكار، والمعارك الكثيرة التي خاضها المغاربة بقيادة ملوكهم دفاعاً عن حوزة الوطن أو تحرير تخومه، أو لحماية دولة الإسلام في الأندلس أو استجابة لدعوة مستغيث مسلم في أي مكان، إن تلك المعارك كانت قمة في فنون خوض الحروب والتخطيط لها ميدانياً وتكتيكياً واستراتيجياً، ولقد ارتبط اسم المغرب أو المغاربة على مر العصور وفي جميع الأصقاع بالشجاعة، وفنون الحرب والعبقرية الفذة في مواجهة المعارك والانتصار فيها، وسواء تعلق الأمر بالماضي أو الحاضر، فإن المغرب بقيادة ملوكه المصلحين المجاهدين ضرب ويضرب أروع الأمثال في الميدان العسكري.
هناك محور ثالث بعد التفوق الذي أظهره المغاربة بقيادة ملوكهم في ميدان الفقه، أي التشريع والقانون، وفي الميدان العسكري، هذا المحور يتعلق بفقه اللغة، وبالنحو والتضلع في اتقان قواعد اللغة العربية نحواً وصرفاً وبياناً وبلاغة.
إن تاريخ الثقافة الإسلامية بالمغرب يتميز بتفوق المغاربة في هذه المجالات الثلاثة: الفقه والفنون العسكرية وقواعد اللغة العربية، وهذا التفوق أعطى لمساهمة المغاربة في الثقافة الإسلامية طابعاً مميزاً، فكتب الفقه التي ألفها الفقهاء المغاربة غدت مرجعاً أساسياً على مستوى العالم الإسلامي كله، كذلك الشأن بالنسبة لقواعد اللغة من نحو وصرف وبلاغه، هذا فضلاً عن تضلع علماء المغرب في علوم التوحيد والمنطق وعلم الحساب، وكل هذه العلوم والفنون كانت مرتبطة أشد الارتباط بحرص المغاربة على حفظ دينهم والتعمق في فهم أحكامه والتبحر في استجلاء ما يتصل به ديناً ودنيا. وفي كل ذلك تبرز صفة أخرى تؤكد تعلق المغاربة بدينهم والدرجة العميقة التي احتلتها الدعوة الإسلامية في نفوسهم، ونعني بذلك حفظ القرآن الكريم وتلاوته واتقان مدارس تلك التلاوة، كذلك استظهار قدر هائل من النصوص المديحية والدعائية كالبردة والهمزية والصلاة المشيشية والحزب الأكبر للإمام الشاذلي.
وإن تفسير هذه الظاهرة المميزة، أي تفوق المغاربة في علوم الفقه والفنون العسكرية واللغة، تفسير بسيط وفي ذات الوقت يحمل دلالته الواضحة، فالدين الإسلامي محوره وأساسه القرآن الكريم ولايمكن المحافظة على هذا الدين إلا بالمحافظة على كتابه المنزل، القرآن، حفظاً وفهماً عميقاً وسليماً للغته، التي هي العربية، وجوهر الإسلام لايمكن المحافظة عليه إلا بتطبيق ما أمر به القرآن وجاءت به السُنة النبوية، أي التفقه في التشريع الإسلامي وأحكام الإسلام وتطبيقها بما يحفظ المجتمع المسلم من الفساد أو الغواية أو الانحراف. وفي كل هذه الميادين كان الملوك المغاربة ملوكاً لشعبهم، أي ملوكاً يقودون هذا الشعب ليس بالحكم والأحكام والسلطة، بل وقبل كل شيء يمثلون روح هذا الشعب وعقيدته ومعتقداته، فكانت رسالة العرش المغربي في كل وقت هي رسالة حماية الإسلام والدفاع عنه والذود عن حياضه ونشر دعوته.
إنه كما يبني الناس القواعد لبيوتهم، فإن البيت الإسلامي المغربي بنى له جلالة الملك الحسن الثاني القواعد المتينة، وهيأ له كل ما يحتاجه ليبقى قوياً وشامخاً أبد الدهر. وإذا كان لكل رسالة رجالها ومؤسساتها وسياستها ومنهجها، فإن الدور الإسلامي للمغرب، وإن رسالة العرش المغربي الخالدة في هذا المجال قد هيأ لها جلالة الملك الحسن الثاني الرجال والمؤسسات ووضع لها السياسة والمنهج وبلورها كأسلوب عمل سواء على المستوى الوطني أو الإسلامي أو الدولي.
وهكذا، وخلال هذه المسيرة الحسنية المشرقة حافظ المغرب على أصالة ثقافته الإسلامية وجعل تلك الثقافة من ثوابت اختياراته، فدخل التعليم الديني مرحلة مسايرة ما يفرضه العصر من تجديد وانفتاح دون المساس بالجوهر الذي لايطوله البلى أو يلحقه التغيير.
- بنى المغرب الحسني مئات المساجد فأصبحت زينة مدنه وقراه.
- جدد وطور ونشر الكتاتيب القرآنية ليظل حفظ القرآن الكريم في صدور أبناء هذا الشعب نوراً يحفظه من عوادي الزمان.
- أسس جلالة الملك المجالس العلمية وأعطى للعلماء الفرصة التي تتيح لهم الاستمرار في أداء رسالتهم، بل وزكى هذه الفرصة ومنحها الدعم والتأييد والتشجيع.
- أسس دار الحديث الحسنية لتلقيح أجيال العلماء بدم جديد من علماء الحديث ورواته وشراحه لأنهم أساس استمرار العمل بما أنزل الله وأمر الرسول.
- أحيى سُنة جده مولاي الحسن الأول بإحياء الدروس الحسنية الرمضانية التي أصبحت قبلة لعلماء الإسلام والمسلمين من كل الأصقاع، وقبلة لإحياء إحدى سُنن السلف الصالح ومنتدى للفكر الإسلامي الجديد المتجدد، وكان لجلالته فيها الباع الطويل فألقى عدداً من المحاضرات أبانت عن عمق ثقافته الإسلامية وطول باعه في مصادرها وبحورها.
- أحيى دور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وجعل منها أداة فعالة من أدوات سياسة المغرب الإسلامية، وتجلى ذلك في اجتذاب العلماء لتلقين أصول الدين والدعوة الإسلامية لجاليتنا بأوروبا وللمسلمين عامة بها، كما كلفها بتكوين أفواج من رجال الدعوة الإسلامية يجوبون الأصقاع والبلدان الإسلامية في أفريقيا وآسيا لنشر الدعوة ودعم رسالة الإسلام بجميع اللغات وإحياء التراث الإسلامي كتباً ومحاضرات وندوات ومؤتمرات.
- وجعل من أكاديمية المملكة المغربية ملتقى يتجاور فيه الفكر الإسلامي مع الأفكار الأخرى، بحوار يطبعه البحث والنقاش العلمي الهادف الأصيل.
- وأعاد العمل بالكراسي العلمية التي هي تراث عظيم من تراث الثقافة الإسلامية بالمغرب، وجامعة شعبية مفتوحة للمؤمنين الباحثين عن المعرفة والإرشاد.
درس من السيرة النبوية
وأذكر في سنة 1974 وأثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي بالرباط بعد أن اشتد الخلاف بين بعض القادة العرب طلب جلالة الملك أن آتيه بنسخة من السيرة النبوية، فاختار منه فصلاً وقرأه أمام المختلفين فسكنت نفوسهم واستأنفوا الحوار فيما بينهم وانتهوا الى الاتفاق بعد الخلاف.
وإن أنسى لا أنسى ليلة من ليالي رمضان حينما اتصل بجلالة الملك الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر طالباً نجدة الجيش المغربي ومؤازرة المغرب لصد العدوان، بعد المكالمة تغير حال جلالة الملك واعترى وجهه انفعال نعرف نحن المقربون اليه أي شيء كبير حرك نفسه وأهاج خواطره، وسادت لحظة صمت قال بعدها: لم أتأسف في يوم ما على وفاة والدي مثل أسفي اليوم، فلو كان حياً لما تركت شرف رئاسة التجريدة المغربية التي قررت إرسالها الى الجبهة لأحد غيري، ومع ذلك أقول لكم، وأسجل على نفسي أنه إذا وقع اعتداء لا قدر الله على الأماكن المقدسة للاسلام فسأكون في طليعة المجاهدين المدافعين عنها. إن العقيدة والإيمان لعبا دوراً كبيراً في قرارات جلالة الملك على اختلاف الميادين التي تناولتها تلك القرارات، وأكثر ما يكون غاضباً، بل إنه لايغضب إلا من أجل عقيدته وإيمانه أو إذا رأى أو شعر بأن حداً من حدود الله أو أوامره أو نواهيه قد مس من قريب أو بعيد، ومع ذلك فإن شيمة التسامح الكريم هي خلق إسلامي عميق في نفسيته وروحه، ولقد اتخذ هذا التسامح بعداً أعمق من كونه مجرد سلوك، بل هو موقف ثابت في حدود عدم التفريط فيما هو حق وعدل وإنصاف وواجب.
وإذا كان من الظواهر البارزة للتطورات التي عرفتها الساحة الإسلامية في السنوات الأخيرة أو ما يعرف أو يصطلح عليه بتعريفات مثل: الظاهرة الإسلامية، الثورة الإسلامية، الأصولية الإسلامية، الحركات الإسلامية، الى غير ذلك من المصطلحات والتعريفات، فإن تلك الظواهر إن دلت على شيء فهي تدل على حقيقة أن الأمة الإسلامية واقع موجود وقوي ومؤثر وان هذه الأمة على موعد آخر مع رسالتها التاريخية، وبعد هذه الحقيقة واقتراباً من جوهرها وتعرفاً على عناصرها وقوة دفعها فإن تلك الظاهرة ستتمخض في نهاية المطاف عن سلامة المقولة التي تقول: لايصح إلا الصحيح، والصحيح هو الإسلام الصافي النقي. الإسلام السني الطاهر، الإسلام المبادىء والدستور والقواعد، الإسلام القرآن والسُنة. هذا هو الإسلام الذي ارتبطت به رسالة العرش المغربي، وهذا هو الإسلام الذي يدافع عنه ويحميه ويدعو له ويعرف به جلالة الملك الحسن الثاني.
إن القضية الإسلامية، وما ينطوي عليه هذا الوصف أو التعريف من مواضيع ومواقف ومشاكل تبتدىء بالقضية الفلسطينية وجوهرها الإسلامي المركزي المتمثل في القدس، وتنتهي بمجمل القضايا الأخرى على امتداد العالم الإسلامي وتطلعاته وأحاسيسه وانشغالاته. إن تلك القضية هي قضية الحسن الثاني يقف معها وراءها، يبلور أبعادها الإنسانية والدولية ويظهر بحدسه وتحليله ونظرته الثاقبة أنها ليست قضية عاطفية مفتعلة بل حقيقة من حقائق هذا العصر بأوجهها السياسية والاقتصادية والحضارية والاستراتيجية والاجتماعية، والخطاب الذي يقدمه جلالة الملك الحسن الثاني تحليلاً لهذه القضية وشرحاً وطرحاً لها، هو خطاب في مستوى ما يعرفه هذا العصر من تغيرات، إنه يضع القضية الإسلامية كقضية تاريخية تشكل حقيقة من حقائق عصرنا الحاضر.
أول قمة إسلامية في التاريخ
وفي إطار هذه الرؤيا كانت دعوة جلالته لانعقاد أول مؤتمر قمة إسلامي في عصرنا وفي جميع العصور على إثر الاعتداء الاجرامي على المسجد الأقصى، إن ذلك المؤتمر التاريخي كان انطلاقة سياسية عميقة للعمل الإسلامي وللجهد الإسلامي ليس فقط من أجل تحرير القدس، بل من أجل وحدة الرؤيا الإسلامية وبناء قاعدة سليمة وصلبة لموقف إسلامي يترجم واقع تلك القوة التي يشكلها الإسلام كعقيدة ورسالة، وتشكلها أمة الإسلام كقوة بشرية هائلة.
وخُطب جلالة الملك الكثيرة عن القضية الإسلامية، وعن التضامن الإسلامي، وعن العمل الإسلامي تشكل بأفكارها وتحليلاتها ميثاق عمل وسياسة وموقفاً واتجاهاً.
وقضية القدس الشريف دليل بارز على الدور الذي لعبه ويلعبه جلالة الملك الحسن الثاني من أجل لم شمل كلمة المسلمين وتوحيد رؤيتهم وصفهم وإظهار القوة التي يمثلونها فوق خريطة العالم.
* تنشر المذكرات بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية وعلى حلقات، اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس والسبت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.