اليوم..بدء الفصل الدراسي الثاني    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    أغرب القوانين اليابانية    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    «مَلَكية العلا»: منع المناورات والقيادة غير المنتظمة في الغطاء النباتي    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    منتخبنا فوق الجميع    في دوري الأمم الأوروبية.. قمة تجمع إيطاليا وفرنسا.. وإنجلترا تسعى لنقاط إيرلندا    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    ضبط أكثر من 20 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    عروض ترفيهية    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    ابنتي التي غيّبها الموت..    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات 5 . كيف فكر المولى إدريس في الهجرة الى المغرب ... وهل كان يحلم بتأسيس دولة للانتقام من العباسيين ؟
نشر في الحياة يوم 17 - 08 - 1998

لم يكن راشد مجرد مولى تمتع بصفات الاخلاص والوفاء، فالرجل كان بالاضافة الى ذلك على جانب كبير من الذكاء وبعد النظر والدهاء السياسي، وكان يتمتع باحترام أهله من المغاربة القادة منهم والناس العاديين، وهذا يحمل على الاعتقاد الجازم بأنه كان من وجوه قومه، ففي مجتمع قبلي صارم في تقاليده الاجتماعية لايمكن أن يرقى إنسان عادي تلك الدرجة من الاحترام والتوقير إن لم تكن تسنده تراتبية اجتماعية واضحة ومؤكدة لا لمجرد أن يكون وفياً ومخلصاً ورفيق رحلة ورسالة لسبط الرسول صلى الله عليه وسلم.
نحن إذاً أمام رجل كان دوره بارزاً في قيام الدولة المغربية الاسلامية المستقلة، وفي تركيز دعائم هذه الدولة والتمكين لها، وهو دور يشبه الدور الذي لعبه أبو مسلم الخراساني في تأسيس الدولة العباسية مع الفارق الذي لايخفى في الوسيلة التي اتخذها كل منهما، فأبو مسلم الخراساني كان قائد جيش، وكان يد قوة ضاربة، لأن العباسيين انتزعوا السلطة غلابا من الأمويين وخاضوا من أجلها وفي سبيل تثبيتها معارك ضارية، أما راشد فلم يخض معركة، وإنما تجشم عناء رسالة تمثلت في مسيرة وحياة ودعوة مولاه إدريس الأول، رسالة لم تتخذ من القوة مطية لنشرها، ولا من المعارك أداة لتثبيتها.
ولم تتحدث المصادر التاريخية عن متى تعرف راشد على المولى إدريس، هل كان ذلك قبل موقعة فخ أم بعدها؟. وفي اعتقادي فإن معرفة ذلك تفتح المجال للتساؤل عن ظروف هجرة راشد من المغرب الى الحجاز، وهل إذا ما كانت هجرة عادية أم هجرة ذات طابع سياسي، ولماذا اختار المولى إدريس ليكون مولى له وانضم الى معسكر الأشراف الذي كان يخوض معركة مفتوحة ضد الحكم العباسي.
إن هذا التساؤل يكتسب مبرراته:
أولاً: من الدور الذي لعبه راشد في قيام الدولة الاسلامية المغربية المنفصلة عن الخلافة العباسية، وهو دور يثبت أن الرجل كان يتمتع بمكانة مرموقة في أوربة 1 التي استقبلت إدريس وبايعته ومنها انطلقت دعوته وعمت المغرب كله.
ثانياً: إن التجارب التي مر بها المغاربة مع الولاة الأمويين ومع زعامات الخوارج رسخت لديهم القناعة بأن الوقت قد حان للبحث عن طريقة يدبرون بها أمورهم ويحققون في ظلها استقلالهم في ظل الشرعية الاسلامية.
ثالثاً: ان المغاربة كانوا قد تشبعوا بالاسلام روحاً وعقيدة، ورأوا فيه الخلاص الروحي والسياسي لهم، فهو دين يرفض الظلم والاهانة ويساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، وينبذ العصبية كيفما كان نوعها، لذلك فإنهم كانوا قد بلغوا درجة من الوعي بالاسلام وبروحه وعدالته ما جعلهم يتوقون الى قيام نظام في بلدهم يتفق ويتجاوب مع تطلعهم الى دولة إسلامية صالحة تحظى بإجماع المسلمين وتتفق والسُنة الصحيحة، وتلبي تلك الرغبة العميقة لديهم في الوحدة الوطنية بعيداً عن التيه في عالم من المذاهب والزعامات العصبية.
فهل كانت رحلة راشد الى الحجاز بهدف البحث عن سبيل للإنقاذ؟ وهل كان هذا الانقاذ الذي تطلع اليه راشد هو البحث عن رجل صالح يتفهم هذه الرغبة العميقة التي تشبع بها المغاربة، رجل من خارج دائرة الخلافة العباسية، أو انه كان يهدف الى جس نبض هذه الخلافة التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية لتتفهم طبيعة تلك الرغبة وتتجاوب معها وتستجيب لها بما يحقق استمرار سلطة الخلافة العباسية في ظل شكل من أشكال الاستقلال الذاتي للمغرب؟.
إن المغاربة لم تكن لديهم نزعة للانفصال أو التمرد على الخلافة كسلطة دينية، ولكن كانت لديهم مآخذ عليها كسلطة سياسية، وقد رأوا أن النظام المركزي الذي اتبعته الخلافة الأموية وبعدها العباسية، لم يحقق ذلك الاستقلال الذاتي الذي يجدون في ظله الأمن والعدالة والوحدة الوطنية، بل انه أطلق يد الولاة الذين بسط بعضهم سلطة مطلقة تشبه الحكم الفردي، فيما عجز الآخرون عن صيانة الوحدة الفكرية ووضع حد لانتشار المذاهب التي كادت أن تجعل من المغرب "مجموعة دويلات" تدين كل واحدة منها بعصبية مذهبية أو عنصرية.
لقد استطاع الاسلام بقوة خارقة أن يخلق ذلك الوعي الوحدوي العميق لدى المغاربة، وينتقل بهم من مرحلة الإحساس الجماعي بالخطر والدفاع المشترك عن الذات ضد كل طامع أو معتد، إلى مرحلة الوعي بالذات كهوية، وكانتماء، وكمسؤولية معبرة عن عقيدة وهدف ورسالة.
الإسلام الموّحد
ومن حيث وحد الاسلام روح المغاربة وصهرها في بوتقة العقيدة والرسالة والمسؤولية، كانت السلطة السياسيةللخلافة الأموية وبعدها العباسية بعيدة أو غير شاغرة لتلك الروح، بل ان المغرب في ظل تلك السلطة كان مستهدفاً لتجريب سلطة الخلافة والمذاهب والصراعات التي كان الشرق منبتاً لها وتأسيس نواة "لدولة اسلامية" بدل "الدولة الاسلامية الواحدة".
نعود الى راشد دون أن يكون بإمكاننا الجزم القاطع بظروف وأهداف هجرته الى الشرق والتقائه بالمولى إدريس، ولكن الشيء الذي لايتطرق اليه الشك أن راشداً قد ركب المخاطر حينما خاض مع مولاه تلك الرحلة المحفوفة بالأهوال من الجزيرة العربية الى مصر الى المغرب، ومن السذاجة الاعتقاد بأن الوفاء المجرد، الوفاء العاطفي هو وحده كاف ليتحمل المرء مشقة مغامرة خطيرة كتلك التي خاضها مع المولى إدريس، لابد أن يكون الرجل واعياً كل الوعي بأهمية الرجل الذي وهب نفسه لحمايته ومرافقته، وكان يعرف أنه مرصود وان العيون تلاحقه في كل مكان، وكان يعرف أنه لو حدث واكتشف أمره فسيكون مصيره الموت حتماً.
وفي أثناء الرحلة الطويلة كان راشد على خلوة دائمة مع مولاه، خلوة تفضي فيها النفس بلواعج وأحلام وذكريات، ولابد أن المولى ادريس وقد رأى من وفاء وولاء رفيقه ما رأى، قد أسرَّ له بكوامن نفسه، وأفضى إليه بذكرياته وأحلامه.
ونعرف من قصة مرور المولى ادريس ومولاه راشد بمصر أن قرار التوجه الى مصر كان قد اتخذ لحظة الوصول الى مصر، أو قبلها عند الانطلاق عبر البحر الأحمر من الجزيرة الى الكنانة.
فكيف اتخذ هذا القرار؟
هل أوحى به راشد لادريس أم أن هذا الأخير كان قد قر عزمه عليه بعد موقعة فخ مباشرة، ولدى التقائه بذلك العدد من الحجاج المغاربة الذين رافقوا المولى ادريس في رحلته؟
ان المصادر التاريخية لاتشفي غليلنا مرة أخرى، لذلك لا مفر من استنطاق الأحداث واستكشاف دلالاتها الخفية، انني أرجح هنا أن يكون راشد وصحبه من المغاربة قد أشاروا على المولى ادريس بالتوجه معهم الى المغرب، فهو البلد الذي سيجد فيه الأمن من كل خطر، ولعلهم قالوا له: إن أهلنا بالمغرب سيرحبون بك وينزلونك عندهم منزلة الضيف الكريم المعزز، فأنت سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، وآل البيت لهم بالمغرب مكانة رفيعة من المحبة والاعتزاز، وان المغاربة في حاجة الى رجل مثلك يرشدهم في دينهم ويعلمهم ويفقههم. ولعلهم أيضاً حدثوه طويلاً عن المغرب وعن الحالة التي يوجد عليها، وعن المذاهب والشيع التي تفشت فيه، وعن تطلع المغاربة الى رجل يوحدهم حول كلمة الحق وصراط الاسلام المستقيم.
ولاشك ان المولى إدريس وقد سمع هذا قد اطمأنت نفسه أكثر، ونزلت في قلبه السكينة، ورأى أن الله سبحانه وتعالى قد عوضه عن الحزن أملاً، وعن المحنة رجاء، فهو متوجه الى بلد أهله على فطرة الاسلام، وأرضه في مأمن من الخطر، فلا خوف عليه من سيوف بني العباس.
وباستثناء اللحظات الحرجة التي مرت بادريس ومولاه راشد ذات يوم في مدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص بمصر، فإن مراحل الرحلة كانت على ما يبدو خالية من الخطر، وخاصة بعد اجتياز الحدود المصرية الى برقة في ليبيا، وتتحدث الروايات عن محطة أخرى في الرحلة هي القيروان، حيث أقام المولى ادريس وراشد بعض الوقت دون أن يكتشف أمرهما، ثم تحدثنا الروايات عن المولى ادريس في مدينة طنجة.
المولى إدريس في المغرب
كانت مدينة طنجة آنذاك حاضرة سياسية ومدينة كبرى في المغرب، وكان صيتها قد ذاع مرتبطاً بطارق بن زياد فاتح الأندلس، ثم بعدد من الحوادث التي عرفها المغرب إبان حكم الخوارج، وكانت مدينة سبتة 2 الى جانب طنجة تشكل هي الأخرى مركزاً هاماً لأحداث سياسية في فترة الحكم الاسلامي الأموي قبل مجيء المولى ادريس. والواقع أن شمال المغرب كله في الفترة من دخول الاسلام الى قيام الدولة الادريسية كان مركز الاستقطاب، الى جانب سجلماسة في الجنوب، ولكن منطقة الشمال بصفة خاصة كانت سباقة الى لعب دور أساسي في التاريخ الأول للاسلام بالمغرب حيث انتشر الدين الاسلامي بهذه المنطقة أكثر مما انتشر في مناطق أخرى، حتى أن مدينة "غساسة" الواقعة غرب مدينة مليلة 3 والتي اندثرت آثارها، تعتبر أول مدينة بنيت في عهد الاسلام بالمغرب، مما يدل على استتباب الاسلام بمنطقة الشمال، فالعمران علامة من علامات الاستقرار.
وكما سبق وقلنا فإن ثلاث سنوات هي الفترة الفاصلة بين وقعة فخ ومبايعة المولى ادريس بوليلي، وقدرنا أن تكون الرحلة قد استغرقت ستة أشهر، وستة أشهر أخرى قضاها المولى إدريس في ضيافة اسحاق زعيم أوربة ، إذاً يمكننا القول ان المولى ادريس أقام بمدينة طنجة سنتين متصلتين.
فماذا فعل ادريس خلال هاتين السنتين بالمدينة، وأي أثر خلفه بها؟
إن الأثر الذي بقي واضحاً وجلياً في نظري ولحد الآن يتمثل في ثلاث ظواهر:
أولهما: ان شمال المغرب، وبالأخص القبائل المتناثرة على الجبال من طنجة الى الشاون شرقاً، ومنها عبر سواحل البحر المتوسط الى سبتة، ثم الى حدود الريف، إن هذه القبائل قد توارثت جيلاً بعد جيل، حفظ واستظهار القرآن الكريم، وأصبحت تشكل مدرسة ومقصداً لحفظة الذكر الحكيم، وهو أمر لانجد نظيراً له في باقي أنحاء المغرب، ومع القرآن الكريم ازدهرت في هذه المناطق علوم اللغة وآدابها، كما ازدهرت علوم الشريعة، ولا أجد لهذه الظاهرة تفسيراً إلا أن يكون المولى ادريس بطنجة، والتفاف الناس حوله هو السبب الرئيسي، فالمولى ادريس سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، وخريج مدرسة القرآن والحديث بالمدينة المنورة، والمتفقه في الدين كتاباً وسُنة، هو الذي نشر هذه الدعوة الى حفظ القرآن واستظهاره، فجميع الروايات تجمع على أن المولى ادريس عند مقامه بطنجة قد تفرغ لدعوة الناس وارشادهم وتعليمهم، فتآلفت القلوب حوله، وشاع ذكر صلاحه وشرفه بين الناس فقصدوه وعكفوا على مجالسه، ولربما قام برحلات هنا وهناك في المناطق القريبة من المدينة.
والظاهرة الثانية: تتجلى في أن مقام المولى ادريس بطنجة لمدة سنتين واعتكافه على تعليم الناس وارشادهم ودعوتهم الى الاسلام السني، قد وضع اللبنات الأولى والبذرة الخيرة لانتشار وشيوع اللغة العربية بين الناس، ذلك ان استظهار القرآن الكريم هو بحد ذاته المدرسة الأكثر تأثيراً في تعلم اللغة العربية والتشبع ببلاغتها. وقد كان المغاربة قبل مجيء المولى ادريس لازالوا يتكلمون لهجاتهم البربرية فهي وسيلتهم في التعامل والتخاطب، وظلت اللغة العربية في ذلك الحين محصورة في أوساط فئات معينة خاصة بين العرب القادمين وجمهور محدود من الفقهاء والمتعلمين وبعض القادة المحليين، وكان هذا النقص الملحوظ في انعزال اللغة العربية أحد الظواهر التي دلت على التقصير غير المتعمد من طرف الولاة الأمويين الذين انصرف أغلبهم في المغرب الى تأمين سلطتهم لدى دولة الخلافة أكثر من اهتمامهم بتثبيت إحدى ركائز الدعوة الاسلامية ألا وهي لغة القرآن، وكذلك فإن من وصل الى المغرب مع الفتح الاسلامي كان ينتمي الى الجيل الثاني من الرجال المحاربين، ولم يكن بينهم إلا العدد القليل من الصحابة أو العلماء وهم عماد الدعوة ديناً ولغة وثقافة وتربية.
وهكذا تتوالى إشراقات المولى ادريس - الظاهرة، منذ اللحظة التي نجا فيها من الموت المحقق في فخ، الى مراحل رحلته المحفوفة بالأخطار، الى مقامه بين الموطنين المغاربة في مدينة طنجة.
والظاهرة الثالثة: تتجلى في أن شمال المملكة كان مركز الاشعاع الصوفي بالمغرب، ويكفي أن نذكر أئمة الصوفية لنعرف أنهم من تلك المنطقة، فهذا الصوفي العظيم مولانا عبدالسلام بن مشيش، وهذا تلميذه ذائع الصيت الإمام الشاذلي، وتلك عشرات من قباب الصالحين والمتصوفين تزين ربى تلك الجبال وبساط تلك السهول، وان ذلك أيضاً لابد أن يكون من أثر تأثير الدعوة الادريسية التي شع نورها في تلك المناطق.
أول منشور سياسي
أما الأثر الآخر فيتجلى في تلك الوثيقة الهامة التي كشف النقاب عنها العلامة المجاهد الاستاذ علال الفاسي رحمه الله، وهي عبارة عن رسالة كتبها المولى ادريس لتوزع وتقرأ على الناس، وأحسب أن هذه أول منشور سياسي في تاريخ الاسلام كله، والراجح أن المولى ادريس رأى نفسه مضطراً لتدبيج هذه الرسالة، ليس بدافع الرغبة في الدعاية أو حشد الأنصار حوله، بل لتلبية رغبات الآلاف من الذين كانوا يتوقون الى رؤيته وسماعه والاستفادة منه ولم يكن باستطاعته تلبية رغبتهم بالانتقال اليهم، فوجه اليهم رسالة ضمنها توجيهاته، كما بث في ثناياها آلامه، وعبر عن مبتغى ما يتوق اليه وقد رأى تطلع الناس الى هديه وقيادته وتوجيهه.
وجاء في تلك الرسالة مايلي:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عند عنه، ولا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية، الدال على ذلك بما أظهر من عجيب حكمته، ولطف تدبيره، الذي لايدرك إلا أعلامه.
وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، أحبه واصطفاه، واختاره وارتضاه، صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين.
أما بعد، فإني:
1 - أدعوكم الى كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 - والى العدل في الرعية والقسم بالسوية، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم.
3 - وإحياء السُنة وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.
4 - واذكروا الله في ملوك غيروا، وللأمان خفروا، وعهود الله وميثاقه نقضوا، ولبني بيته قتلوا.
5 - واذكروا الله في أرامل احتقرت، وحدود عطلت، وفي دمه بغير حق سفكت.
6 - فقد نبذوا الكتاب والاسلام، فلم يبق من الاسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
7 - واعلموا عباد الله مما أوجب الله على أهل طاعته،. المجاهرة لأهل عداوته ومعصيته، باليد وباللسان.
أ - فباللسان الدعاء الى الله بالموعظة الحسنة، والنصيحة والحض على طاعة الله، والتوبة عن الذنوب بعد الإنابة والإقلاع، والنزوع عما يكرهه الله، والتواصي بالحق والصدق، والصبر، والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها، والتعليم والتقديم لمن استجاب لله ورسوله، حتى تنفذ بصائرهم وتكمل، وتجتمع كلمتهم وتنتظم.
ب - فإذا اجتمع منهم من يكون للفاسد دافعاً، وللظالمين مقاوماً، وعلى البغي والعدوان قاهراً، أظهروا دعوتهم وندبوا العباد إلى طاعة ربهم، ودفعوا أهل الجور الى ارتكاب ما حرم الله عليهم، وحالوا بين أهل المعاصي وبين العمل بها، فإن في معصية الله تلفاً لمن ركبها، وإهلاكاً لمن عمل بها.
ج - ولايؤيسنكم من علو الحق واضطهاده، قلة أنصاره، فإن فيما بدا من وحدة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء الداعين الى الله قبله، وتكثيره إياهم بعد القلة، واعزازهم بعد الذلة، دليلاً بيناً، وبرهاناً واضحاً، قال الله عز وجل: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" وقال تعالى: "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز"، فنصرالله نبيه وكثَّر جنده وأظهر حزبه، وأنجز وعده، جزاء من الله سبحانه، وثواباً لفضله وصبره وإيثاره طاعة ربه، ورأفته بعباده، ورحمته وحُسن قيامه بالعدل والقسط، في تربية ومجاهدة أعدائهم، وزهده فيما زهد فيهم، ورغبته فيما يريده الله ومواساته أصحابه، وسعة أخلاقه كما أدبه الله، وأمر العباد باتباعه وسلوك سليم، والاقتداء بهدايته، واقتفاء أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم، كما قال عز وجل: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، وقال: "إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي".
وكما مدحهم وأثنى عليهم كما يقول: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، وقال عز وجل: "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض".
د - وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأضافه الى الايمان والإقرار بمعرفته، وأمر بالجهاد عليه، والدعاء إليه، قال تعالى: "قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولايدينون دين الحق".
وفرض الله قتال المعاندين على الحق، والمعتدين عليه وعلى من آمن به، صدق بكتابه، حتى يعود إليه ويفيء، كما فرض قتال من كفر به، وصد عنه، حتى يؤمن به، ويعترف بشرائعه. قال تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".
ه - فهذا عهد الله إليكم، وميثاقه عليكم بالتعاون على البر والتقوى، ولاتعاونوا على الإثم والعدوان، فرضاً من الله واجباً وحكماً لازماً، فأين عن الله تذهبون؟ وأنى تؤفكون؟".
و - وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقاً وغرباً، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلماً وجورا، فليس للناس ملجأ، ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء.
فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر، اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسُنة، القائمين بحق المظلومين، من ذرية النبيئين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد من المرسلين، ونصرالله مع النبيئين.
8 - واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم، وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد، الخائف الموتور الذي كثر واتره، وقل ناصره وقتل إخوته، وأبوه وجده وأهله، فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله، فإن الله عز وجل يقول: "ومن لايجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس من دونه أولياء" أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا وإياكم الى سبيل الرشاد.
9 - وأنا إدريس بن عبدالله، بن الحسن، بن الحسين، بن علي ابن أبي طالب، وحمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة عمَّاي، وخديجة الصديقة وفاطمة بنت أسد الشفيقة جدتاي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الحسين سيد ذراري النبيئين أماي، والحسن والحسين أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواي، ومحمد وابراهيم أبناء عبدالله المهدي والزاكي أخواي.
10 - هذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله ما لي وعليه ما علي، ومن أبى فحظه أخطأ، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة أني لم أسفك له دما، ولا استحللت محرماً ولا مالاً، واستشهدك يا أكبر الشاهدين، وأستشهد جبريل وميكائيل أني أول من أجاب وأناب.
فلبيك اللهم لبيك، مزجي السحاب، وهازم الأحزاب، مصير الجبال سرابا، بعد أن كانت صماً صلابا.
أسألك النصر لولدك من نبيك، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وسلم".
الأمل المنشود
لقد سبق للأستاذ المجاهد علال الفاسي رحمه الله أن ناقش محتوى هذه الوثيقة من الوجهة المذهبية ليخلص إلى القول أن المولى ادريس كان سنياً ولم يكن متشيعاً. وناقش علال الفاسي بعض مؤرخينا المحدثين واختلفوا جزئياً أو كلياً معه، ولا أريد هنا أن أدلو بدلوي في ذلك النقاش، وإنما أريد أن أقف أمام هذه الوثيقة وقفة تأمل مختلفة.. وفي اعتقادي فإن هذه الرسالة الادريسية قد لقيت رواجاً كبيراً بين الناس، ولعلها وجدت مع ذلك الرواج من يتحمس ويدعو لصاحبها، إنها إذاً أول إعلان تلقاه الناس وحللوه تحليلاً سياسياً، وقد يكون هذا ما هدف إليه المولى ادريس، وإن كان ذلك هو لب الحقيقة كما يذهب بعض المؤرخين، فإن ذلك يعني أن المولى ادريس قد أنس من تجاوب الناس والتفافهم حوله رغبة عبروا عنها في أن يخرج من عزلته واستنكافه للظهور السياسي، ووثق أن هذا الشعب الذي رحب به وأكرم وفادته هو في حاجة إليه لتحقيق مطامحه ورغباته، وان مقام سنتين بين ظهرانيه قد مكنته من معرفة دقيقة بأحوال المغرب، وساعدته على التعمق في فهم الذهنية المغربية، وهي ذهنية لم يتوفق من سبقوه الى استكناه أبعادها، فهذه الذهنية مجبولة على صفاء الرؤيا والابتعاد عن التعقيد والمغامرة، واتخاذ القرار بعد رؤية واحتراز، والنفاذ الى جوهر الحقائق بعفوية الطبيعة قبل جدلية المنطق والتحليل، لذلك تحتوي الرسالة الادريسية على ذلك القدر من الوضوح والبساطة والتعبير المباشر عن الأهداف والأفكار، ولذلك فهم المغاربة مدلولها ورأوا فيها وفي صاحبها الأمل المنشود.
ويبقى مع ذلك القول بأن المولى ادريس أثناء مقامه بطنجة كان يخطط وينتظر الفرصة المناسبة للاعلان عن هدفه السياسي. يبقى ذلك التحليل الذي ارتكز عليه بعض المؤرخين في رسم صورة للرجل الثائر المصمم على الثأر لإخوته وآل بيته وارداً وغير مستبعد، خاصة وان الرجل بعد مقدمه للمغرب قد وجد الجو المناسب لذلك، ولايمكن أن نستبعد طموحه وإرادته السياسية الثابتة. ولكن يجب القول أن الهدف الذي يكون قد رسمه المولى ادريس لنفسه، لم يمتط لبلوغه صهوة المغامرة، ولا عمد إلى إقناع الناس به عن طريق ما هو مألوف في سيرة باقي الزعماء السياسيين، أي ممارسة أساليب "غسل الدماغ" والدعاية، وحشد المؤيدين بالإغراء. فالمولى ادريس عاش في مدينة طنجة كإنسان عادي، لم يحط نفسه بحاشية ولا بمظاهر الإمارة أو الزعامة، لم يكسب مالاً ولا صرف ثروة للدعاية لنفسه. ولكنه كان ذا معنوية فولاذية، وإيمان قوي راسخ وشجاعة فكرية وإنسانية مثالية، فكان تأثيره بذلك أبلغ من تأثير من يركب مراكب الدعاية والحماسة المصطنعة، لقد ملك قلوب الناس وملأها حباً فيه وفي دعوته.
وملاحظة أخرى تستوقفني في الرسالة الادريسية، وهي تلك الروح الفياضة، روح الدعوة الى كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السُنة وإماتة البدعة، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم. إن هذه المبادىء التي استهل بها المولى ادريس رسالته تدل دلالة قاطعة على وعيه ومعرفته بالأحوال السائدة في المغرب آنذاك، فلقد كانت البدع كثيرة، والمذاهب شتى، إنها إذاً الخطوط الأساسية للدعوة الادريسية، دعوة الى توحيد القلوب والصفوف، ونفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد، لقد مس بهذه الدعوة وتراً حساساً فيما كان يرى المغاربة حالهم عليه، وهم التواقون الى الوحدة في ظل شريعة الإسلام ودولة الإسلام.
أما ما كان من إشارته إلى ما حل بأهل بيته من نكبات، وما لحقهم من ظلم، فذلك شيء طبيعي من رجل قاتل من أجل رسالة آمن بها واستشهد من أجلها إخوته وأعمامه، إنها إفضاء صريح ومباشر بما في نفسه من ألم، والتماس من شعب المغرب أن يتضامن معه فيما يعتبره حقاً وشرعاً.
لقد كانت الرسالة واضحة والدعوة صريحة والالتزام بيّنا لا غبار عليه.
الهوامش
1 مدينة في جبال الأطلس، تحول اسمها وموقعها إلى مدينة وزان الحالية
2 محتلة حتى الآن من طرف الاسبان
3 محتلة حتى الآن من طرف الاسبان
* تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.