لإنجاز البحث الطويل، "حماس... الفكرة والممارسة السياسية"، يبذل خالد الحروب جهداً كبيراً للحفاظ على مسافة بينه، كمناصر أو متعاطف مع "حماس" وبرامجها، وبين مادة بحثه، لكي يحتفظ بموقع أكثر رصانة، من حيث القيمة الاكاديمية للبحث، يمكنه من قراءة أدبيات "حماس" بصورة أفضل، وبطريقة تبعده عن شبهة، أو الترويج لهذه الأدبيات. كان عليه إذن ان "يضبط" ميوله، ويحد من تدخلها، ويقف على أقرب مسافة من الوقائع في مساراتها التاريخية، ومن دون ان يخفي بصماته الفكرية والسياسية. رحلة بحث تقاوم إغراء الانتماء والانشداد نحو تأييد لا تسنده الوقائع وترحب بإغراء المصادر سنداً لها. اشكالية يمكن أن تواجه باحثاً يقف في خندق مقابل، ايضاً، يتناول الموضوع نفسه. وأبرز من يمكن الاشارة اليهم في هذا المجال زياد أبو عمرو صاحب غير مؤلف عن الحركة الاسلامية، والأبرز كتابه "الحركة الاسلامية في الضفة وقطاع غزة" - دار الاسوار، عكا، 1989. فأبو عمرو، الواقف في خندق "يساري" نجح في تقديم بحث تاريخي تحليلي لمسار الحركة الاسلامية، لقي اعجاب مؤيدي هذه الحركة وخصومها أيضاً، وكان الأساس الذي قيس به نجاحه التزامه الموضوعية في التعاطي مع مصادره البحثية والتعامل مع مادتها غربلة وتدقيقاً ومقارنة وتنسيقاً، من دون ان يخضع أياً منها لمواقف مسبقة أو لقناعات لديه تناقضها أو تتعارض معها. وهذا لا يعني مطلقاً قبوله لما تطرحه "حماس"، بقدر ما يعني اظهاره قدرة على تفكيك هذا الطرح، وإعادة تركيبه، بعد اخضاعه لعملية قياس ومقارنة، ووضعه في مصفاة نقدية. أخذت بالمعايير نفسها وأنا أطالع كتاب خالد الحروب الذي كنت أطلعت على مخطوطته قبل النشر، وتابعت بعد ذلك ما كتب من عرض وتعليق وقراءات للكتاب، بعضها أثار لدى السؤال القديم عن الخلاف المحتمل مع استنتاجات باحث لا نتفق معه في آرائه ونقف في خندق فكري - سياسي مغاير. هل يقلل هذا الخلاف من قيمة البحث نفسه؟! وهل ينبغي ان نحاكم المؤلف انطلاقاً من مواقعه الفكرية والسياسية، أو حتى الايديولوجية؟ ومع ان الإجابة البسيطة تشير الى ضرورة الذهاب مباشرة الى البحث نفسه، لا الباحث، إلا انها تؤكد، أيضاً، ضرورة الأخذ في الاعتبار ما يمثله المؤلف عند حكمنا على النتائج؟ أحسست بتلك الإشكالية، عندما أطلعني الحروب على مخطوطة كتابه. وبوجود نوع من "الخشية" من اختلاط الموقف من الكتاب بالمواقف السياسية للمؤلف، أي بتأييده أفكار "حماس" وغالبية سياساتها. فهو - الحروب - من "أهل البيت"، والوثائق والأدبيات التي يتعامل معها هي موجودات هذا البيت الحماسي، وبما قد يؤثر على ما عداه من قيمة وجهد بحثيين. واعتقد انه نجح في التغلب على تلك "الخشية"، بحصوله على شهادتين: هما ملاحظاتي وملاحظات زميل آخر يقف في موقع مغاير. وبهذه الطريقة ضمن توازناً مقبولاً بجمع ملاحظات من معه فكراً وممارسة، ومن يخالفه الفكر والممارسة، ويقف في معسكر معارض لهما تماماً، الى جانب اطلاعات اخرى ومواقف ساندت وشجعت على انجاز هذا البحث الكبير. حين قبلت "تصدير" هذه الاشكالية، واجهت سؤالاً حول كيفية التعامل مع مادة تتوصل الى خلاصات واستنتاجات لا نتفق مع الكثير منها. لكنني سبق وتعاملت مع المشكلة في دراسة لي بعنوان "الحركة الاسلامية في فلسطين 1928 - 1987"، المنشورة في "شؤون فلسطينية" العدد 187، تشرين الأول اكتوبر 1988. وكانت الأولى التي تؤرخ لمسار طويل من عمر الحركة الاسلامية في فلسطين. ومن تلك التجربة وجدت المدخل الى قراءة منصفة لمخطوطة الحروب، تتلخص في متابعة رصده التطورات في مسار حركة حماس السياسي والفكري، ليس في انشداده الى هذه الادبيات ومكوناتها، ولكن في الترجمة العملية لها، وكذلك في كيفية مواجهة "حماس" للوقائع السياسية اليومية وأسلوب تعاملها معها كما تبرزها الاستنادات والاقتباسات والاستشهادات التي توفر منها كم ضخم كان أبرز أعمدة هذا البحث التوثيقي التحليلي الضخم، والذي استغرق انجازه جهداً كبيراً وقيماً من دون شك. والكتاب في صيغته المنشورة يقدم شهادة على عمل اكاديمي بحثي، حافظ على قدر كبير من الموضوعية. المادة المطروحة للبحث هي أدبيات "حماس" ومواقف وتصريحات قادتها. وهي المؤشر الرئيسي، والأكثر صوابية، الدال على نهجها. والمقارنة والقياس هي معيار تحديد المسافة بين هذه الادبيات وصورتها في الواقع. هنا قد نفترق وقد نلتقي مع المؤلف، سواء أكان الحروب أو غيره، والافتراق واللقاء لا يغيران من قيمة البحث نفسه، كما لا يقودان الى تقارب أو تباعد مع المؤلف نفسه. فحرية الفكر والاجتهاد تكفل للجميع الاحتفاظ بمسافات كافية للتمييز. وقد يتناول عشرات الباحثين مسألة واحدة، وربما يستخدمون المصادر عينها. وهذه العملية ايجابية بقدر ما تقدم لنا من قراءات لموضوع واحد من جوانب مختلفة، ومن مواقع متمايزة. والحروب واحد من الذين قدموا قراءاتهم لتاريخ "حماس" وأضاف الى المكتبة بحثاً قيماً بجهد مميز.