-1- يؤكد العلم أن ما يعمل من خلايا الدماغ البشري ضئيل جداً. حتى أنه، لدى الأكثر ذكاء وتفوقاً، أدنى من العُشر. وما تبقّى نائم، عاطل عن العمل، لم يستيقظ بعد. إذا كان الإنسان بهذه النسبة الضئيلة من دماغه يزلزل الأرض، ماذا سيحدث إذن إذا استيقظ المزيد؟ هل علينا لذلك ان نمجد المناطق النائمة في الدماغ؟ الخليات المنحرفة في العقل؟ الجنون؟ الأرجح: ليس الجمال ابنَ عقلٍ سويّ. الأرجح: الجمال انحراف. -2- المنحرفون عن "العقل السويّ" أبدعوا قيمنا. هم لم يأبهوا بذلك. لكنهم صاروا رجاءنا. أودعونا حضارة سرية جميلة، في مقابل حضارة يستحال إحصاء جثثها. المنحرفون، الذين ماتوا في السجون أو في المصحات، هم آباؤنا الحقيقيون. -3- الأسوياء جرفهم النهر. غير الأسوياء ظلوا على الشاطئ. هناك بالضبط، على الرمل والحصى، مقاعدنا، لا في النهر. إذا خرج من الماء مَقعد، سرعان ما يسيل. مقاعدنا على الشاطى، نجلس عليها... أما الماء، فنمدُّ له أقدامنا. -4- صُنفوا هامشيين، حطباً لفظه السيل إلى الضفاف، ورقاً، خِرقاً، مزقاً ساقطة من الثوب. صُنفوا للنبذ، للرمي، للخلع من قماش المدعوين، للمنع من الوليمة. صُنفوا للحرق. لكن، ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفس العالم بلا هامشه؟ المنبوذون هم رئة الحياة. قلب الحياة، هو الهامش. -5- هل نخرج من قلب العالم؟ نخرج، ما دام مليئاً بالدماء. نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد. حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيمي، السابح في الهواء. في نقاء الفراغ. -6- في قلب الحياة عِرق للحق والخير والجمال، عرق منشقّ معزول، اسمه الاختلال. يمشي المختلون في العِرق خفيفين، صامتين، لئلا يتفتّق العرق ويفسد. لئلا ينفتح على العروق الأخرى، الدموية. لكي تبقى الدرب الضيقة جميلة وسرية. أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر. الماشون في عرق الاختلال. أرواحنا الجميلة، هي المختلّون. -7- بات علينا تخريب هذه الطريق وشقّ طريق جديدة، نسفُ الكتلة الهائلة التي تكدَّست مع الزمن والعادة واستقرت في عقولنا مفهوماً واحداً ونهجاً واحداً للحياة. صار واجباً ابتداع عصر مغاير. أليس على العصور أن تتغير، على الأقل كما تتغير جلود الحيّات؟ تاريخ بأكمله، قاد إلى إلغاء التاريخ! تاريخ جماعي ألغى تاريخ الفرد. وتاريخ فردي ألغى تاريخ الحياة مع الجماعة. رؤية واحدة، طريق مشتركة، قطعت أرجل المنحرفين عنها، معست المتباطئين، اقتلعت أعين الناظرين في مكان آخر. كان النبع خادعاً، والمصبّ ضحية خداعه. نبعٌ واحد ومصبٌ واحد لتاريخ بأكمله. بحيث امتلأ النبع والمصبّ بالنفايات والجثث. بات واجباً ابتداع نبع ومصبّ جديدين. -8- سلام للمناطق النائمة في الدماغ، الوادعة كالفراغ، المسحورة كالعدم. سلام للخلايا التي لم تستيقظ بعد. إنها خلايا السلام. التاريخ يشهد على أن كل خلية جديدة تستيقظ، تبتكر طريقة موت جديدة. هذا العقل يكاد يغني الأرض. سلامٌ لخلاياه المنحرفة، سلام للجنون. تجب إعادة ابتكار الأدغال وبناء عصر آخر يضع مداميكه المنبوذون، وتحرسه أرواح المجانين.