قطع العراق عبر مراحل تطور تراثه الثقافي والحضاري خطوات سريعة ومتطورة في مجال فنون العمارة والبناء. فكان للبيت العراقي شأن كبير بين تلك المنجزات، يستدل على ذلك بما تزخر به المدن العراقية من الشواهد والمعالم العمرانية الشاخصة، الآثارية منها او التراثية، وهي بحق تشير الى مرحلة متقدمة من الازدهار الذي بلغته انماط التخطيط العمراني وفنون العمارة وطرزها في وادي الرافدين على رغم ما يتخللها من انماط اتسمت بالبساطة والعشوائية حيناً والتلقائية والركود حيناً آخر، وذلك تبعاً لطبيعة ظروف الفترات التاريخية التي اقيمت فيها تلك الابنية ودور العوامل الرئيسية المؤثر في مستوى وتطور فنون العمارة وفي مقدمها العناصر البيئية والجغرافية والمناخية وموارد البناء، ذات التأثير المباشر في انماط العمارة. ولكن مع تطور المجتمعات ونموها، استطاعت ايجاد انماط بإمكانها اجراء تحوير او تحويل جزئي لتأثير العوامل الآنفة الذكر من اجل توفير بيئة حضارية مناسبة. وهناك عوامل اخرى لها تأثيرها ايضاً، الا انها ناجمة عن تأثير المجتمع ومظاهره الحياتية المختلفة ، كالواقع الاقتصادي والمستوى الثقافي والمظهر الديموغرافي السكان والموروث الحضاري. ومجمل هذه العوامل والمظاهر ساهم في خلق انماط وعناصر المفردات المعمارية للبيت اولاً، ومن ثم المباني العامة الاخرى التي اختصت بها عمائر وادي الرافدين. وخلال العهود التاريخية القديمة بشكل عام، حتى اواخر العهد العثماني بشكل خاص، نجد ان البيت التراثي في العراق لم يشهد تغييرات جوهرية اساسية، خصوصاً من حيث نمط تخطيطه الذي يتوسطه الفناء الداخلي المكشوف الحوش او الصحن، والذي يعتبر احد العناصر المميزة والاساسية لتنظيم تهوية وإنارة الغرف المحيطة به، وكذلك يُعد من المرافق الخدمية وتوزيع الحركة لانحاء البيت الاخرى، وكذلك الامر بالنسبة الى الجانب الوظيفي لبقية المرافق فيكون لكل مرفق وظيفته الخاصة به. هذا اضافة الى العناصر والمفردات المعمارية الاخرى التي فرضت تكوينها نتيجة لتأثير الظواهر البيئية وغيرها من عوامل الاستمرارية الثابتة والمشار اليها سابقاً. اما ما استجد من تغيير او تحوير على طراز عمارة البيت، فكان بتأثير العوامل والمظاهر التي يكون للمجتمع دور فيها. لذلك نجد ان انماط البيوت التراثية تفاوتت بتفاوت المستوى الاقتصادي والثقافي لاصحابها، فكان لهذين العاملين اثرهما المباشر في سعة وطراز عمارة البيت ونوعية بنائه والمواد البنائية المستعملة. ونتيجة لنمو الحركة التجارية في العراق، نشأت في المدن العراقية طبقة من التجار والاثرياء تبوأت مكانة مرموقة في الحياة الاقتصادية وعرفت بترفها وبذخها وكانت لها قصورها وبيوتاتها الجميلة التي تمثّل مستوى رفيعاً من الفن المعماري، وزُيّنت بأجمل النقوش والزخارف الآجرية والخشبية. وكانت الغرف المعلّقة التي تسمى ايضاً بالغرف النصفية، تمثّل احد الابداعات المعمارية التي اضيفت الى البيت التراثي في العراق. كان معدل ارتفاع سقف الطابق الاول في معظم البيوت اكثر من اربعة امتار وذلك لغرض حصر كميات من الهواء تحافظ على درجات حرارتها من دون التأثر السريع بتبدلات الطقس الخارجية، وكذلك السماح بتعرض الفناء الداخلي المكشوف لاشعة الشمس في فصل الصيف لوقت أقل خلال اليوم تجنباً لشدة حرارتها، وهو امر ضروري لامتصاص الرطوبة وكذلك لإضاءة اعمق نقاط البيت خصوصاً السراديب وقت الظهيرة، اضافة الى اهمية اشعة الشمس الصحية. ونظراً الى ميزة ارتفاع سقف الطابق الاول، كان لا بد من الاستفادة من هذا الارتفاع لعمل غرف صغيرة معلّقة بارتفاع مناسب معدلهُ في معظم البيوت التي تتواجد فيها مثل هذه الغرف حوالى مترين، بعد قطع هذا الارتفاع بواسطة الواح خشبية سميكة كانت تؤلف ارضية للغرف المعلّقة التي تُعرف في بغداد والمدن الوسطى والجنوبية من العراق ب "كفشكان". وهذه الغرف تمثل احدى المعالجات المعمارية الصرفة التي توصّل المعمار العراقي الى ابرازها في البيت، حيث يكون بناؤها من الخشب بدلاً من الطابوق الآجر والحديد، وذلك للتغلب على مشاكل الثقل في التوسعة وكذلك على جدران البيت. اما الوظائف الرئيسية للغرف المعلّقة فيمكن ادراجها على الشكل الآتي: 1 - اتخاذها مكاناً لنوم بعض افراد الأسرة وبخاصة كبار السن منهم الذين يطلبون الهدوء والعزلة. 2 - اتخاذها مكاناً لنوم الخدم او الاطفال. 3 - اتخاذها مخزناً للأفرشة الفائضة عن الحاجة الاعتيادية لأهل البيت. 4 - اتخاذها كشرفة مخفية ومستورة، تجلس فيها النساء لمشاهدة المهرجانات ومواكب الافراح والاحزان التي تمرّ من الطريق العام في المناسبات من دون ان يَراهُنَّ احد من المارّة، لأن التركيبات الخاصة بشبابيك هذه الغرف المطلّة على الطريق العام أشبه بالشناشيل المشربيات مصمّمة لحجب الرؤية من الخارج للجالسين في هذه الغرف. ولعل هذا العنصر البنائي أدخل الى تلك البيوت لهذا الغرض تبعاً للوضع الاجتماعي السائد في تلك المرحلة التاريخية اضافة لما سبق ذكره. لهذا نرى زيادة الاهتمام بمثل هذه الغرف وتخصيص اماكن خاصة لها عند بناء اي بيت وبصورة خاصة البيوت الكبيرة منها، اذا علمنا ان عدد الغرف في البيت العراقي محدود وليس هناك تخصص، وهذا احد الاسباب الرئيسية التي دعت اصحاب البيوت والمعماريين الى الإكثار من اقامة الغرف المعلّقة للاستفادة منها في سدّ النقص الحاصل في الغرف. ونلاحظ هناك تفاوتاً في عددها فبعض البيوت يشتمل على غرفة معلّقة واحدة واخرى على اثنتين او ثلاث، واحياناً تصل الى اربع غرف. وهناك نماذج كثيرة لبيوت تراثية يتعدد فيها مثل هذا التركيب المعماري ومن اشهرها بيت السيد محمود الاستربادي بمدينة الكاظمية شمالي بغداد. اما الصعود الى هذه الغرف المعلّقة فيتم عن طريق سلالم فرعية صغيرة، واحياناً يصعد اليها بواسطة سُلّم البيت الرئيسي ايضاً. هذا وتختلف السلالم الخاصة بهذه الغرف من حيث مادة بنائها المستعملة في تشييدها من بيت لآخر. فنرى بعضها مشيداً بالآجر والجص، بينما في البعض الآخر تكون خشبية غير ثابتة وموقعها يختلف تبعاً لاختلاف موقع الغرفة المعلّقة. وفي بعض البيوت يقع ضمن امتداد سُلم البيت الرئيسي المؤدي الى السطح. وتعتبر واجهات الغرف الصغيرة المعلّقة المطلّة على الزقاق او الشارع العام من العناصر المعمارية الجمالية في البيت العراقي، وتختلف باختلاف مكانة صاحب البيت وقدرته الاقتصادية. وتمتاز معظم واجهات هذه البيوت بجمال وروعة زخارفها ودقة صناعتها خصوصاً الشناشيل التي استخدمت أغلى وأحسن انواع الاخشاب في عملها. وتكون شبابيك الغرف المعلّقة بحوالى نصف حجم الشبابيك الاخرى تليها شبابيك القسم الآخر الى اسفل شبابيك الغرفة المعلقة، وهي في منظرها الخارجي لا تختلف عن تقسيمات وزخارف الشبابيك الاخرى سوى في انها اصغر حجماً من الشبابيك الاعتيادية. اما الواجهة التي تطلّ على الفناء الداخلي المكشوف فهي لا تختلف عن الواجهة الخارجية، وتمتاز بدقّة صناعة زخارفها الخشبية التي يتخللها الزجاج الملوّن والشفّاف وذلك لتخفيف اشعة الشمس الواردة الى داخل هذه الغرف. أما البعض الآخر من جدران هذه الغرف فهو امتداد لجدران الطابق الارضي مبنى بالآجر والجص تزيّنه من الداخل الحنايا والدخلات التي تركّب فيها الخزانات الخشبية الصغيرة ذات الابواب الخشبية المزيّنة بزخارف هندسية ونباتية جميلة. وكان الهدف من هذه الحنايا والدخلات استغلال الجدران لعمل مثل هذه الخزانات في داخلها وان لا تشغل حيزاً داخل الغرف بالاضافة الى كونها عازلاً صوتياً مهماً لفصل الغرف ومنع تسرّب الصوت الى الغرف المجاورة الاخرى. ولا تختلف سقوف الغرف المعلّقة عن سقوف غرف البيت الاخرى، فهي تتألف من جذوع شجر الحور القوغ او جذوع النخيل وتستعمل كجسور وتوزع على مسافات متساوية حسب مقاييس الغرفة وتغطى بحصران القصب البواري ثم توضع عليها طبقة من الطين الناعم لمنع تسرّب التراب ثم طبقة من الطين المخمّر لأيام عدة والمخلوط بالتبن ما قُطع من سنابل الحنطة لمنع حدوث الانشقاق، ثم يُفرش بالقار الاسود كعازل للرطوبة، ويبلط بعد ذلك بالآجر المربّع بسماكة 4 - 5 سم والمسمى ب "الفرشي". ويغطى السقف من الداخل بألواح خشبية رقيقة تطلى بالدهان في الغالب وفي بعض الاحيان تثبت عليها الواح خشبية رفيعة ورقيقة موزعة بطريقة فنية وبأشكال هندسية متنوعة.