اصبح من قبيل المعلوم ان للجانب الوجداني دوراً مهماً في صنع الحضارة او في تقويض اسسها. واذا كان للشغف بالمعنى العام اقتصاد عاطفي يحفز على التحرك والنهوض واتخاذ المبادرة، فانه قد يولد، بالمقابل، نتائج تراجيدية ترجع على صاحبه - او اصحابه - بالاندحار والتقهقر. تَحركَ العامل الجهادي التأسيسي بهدف فتح العالم وتعميم الرسالة المحمدية وتوسيع دائرة الاسلام، وانتفضت، جراء ذلك، المؤسسة الكنسية معلنة تشكيلها لايديولوجية حربية لاسترداد ما ضاع منها من اماكن مقدسة ومواقع تواجدها في البحر المتوسط. وانتجت هذه المؤسسة كل النعوت السلبية في حق الاسلام، وأقامت نظاماً دعائياً متكاملاً قدمت فيه كل الصور التي تجعل من الديانة الاسلامية ومن المسلمين تجليات متنوعة لمظاهر الشيطان. وكان لارادة التشويه وللانفعال دور كبير في نسج الخرافات والاساطير، وللمخيلة الشعبية كامل الحرية في تقديم ما تريد من اشعار وقصص عن اسلام لم تكن المعرفة به قد توافرت شروطها بعد. وأما الطرف الآخر، فقد شكلت الظاهرة الصليبية بالنسبة اليه اكبر صدمة في وجوده التاريخي والمعنوي. لقد واجه مقاومات شتى في سياق عمليات الفتح، واندحرت جيوشه في معارك فاصلة القسطنطينية 718، وبواتييه 732، عملت على الحد من تمدده واختراقه لمعاقل المسيحية الغربية، لكن المشروع الصليبي تكون وتبلور في زمن بدأت الواقعة الاسلامية تعرف تفككاً داخلياً كبيراً وتمزقاً سياسياً هيأ لرد الفعل المسيحي اللاتيني امكانات الاسترداد والاختراق والاستيطان. جهاد وصليبية، وجهاد مضاد... الخ مد وجزر وأخذ ورد، عمليات تاريخية شهدها البحر الابيض بين الغرب المسيحي اللاتيني والاسلام، جعلت من الدين "الابستيمي" الجوهري في النظر والتخيل والسلوك. لم يكن العامل الوحيد، ولكنه كان المسوغ للرؤية، على اعتبار ان حركة الافكار ما كان يمكن لها ان تقوم من دون ان تتأثر باعتبارات وجدانية وخلفيات دينية حاسمة. ومع ذلك تداخلت المستويات وتشعبت اهداف التوسع والمتطلبات السياسية والعسكرية مع الحاجة الى التباهي لدى الملوك والامراء، رفض الآخر، همجية الهجومات الغربية، الخسارات الاقتصادية، اغراءات الغنيمة، الميل الى اظهار الشجاعة والبطولة... الخ سواء عند الرعايا او الجنود. ألا تطابق ظاهرة من هذا النوع الطبيعة البشرية، حيث الحوافز الروحية والمادية، المثالية والمصلحة توجد في حالة تفاعل مستمر؟ 1. مثّل هذا التداخل الكبير بين مستويات الوجود الانساني في المجال المتوسطي واقعة سوسيولوجية وثقافية ميزت العلاقات - المتنابذة عموماً والمتساكنة احياناً - بين المسيحية الغربية والاسلام. شكل العمل الجهادي القطب الجاذب للواقعة الاسلامية طيلة القرن الثاني عشر الميلادي، تفاوت زخمه من قائد الى آخر واختلفت استراتيجيات تنفيذه، لأن دور القائد كان حاسماً لدرجة ان التحضير المادي والمؤسسي والمعنوي للجهاد، خصوصاً على يد نورالدين زنكي وصلاح الدين الايوبي، اتخذ من شخص الامير محور العملية برمتها. يختزل الفعل الجهادي بكل مضامينه وابعاده في الزعيم، فهو "المجاهد الاكبر" والمخلص والمحرر للبقاع المقدسة، ومن أجل ذلك كل الوسائل ممكنة. يوظف الشعر والكتابة والدين والديبلوماسية في سبيل الهدف المرسوم من طرف الامير. لا مجال لاعمال الفكر خارج الدائرة المحددة للاستراتيجية الجهادية. المعرفة المطلوبة هي التي تعزز السلطة الداعية للجهاد. حتى المجادلات اللاهوتية، في زمن المواجهة، لم تخرج عن القوالب والصيغ التي تأسست في القرنين الثامن والتاسع لدحض ادعاءات النصارى، بل هناك من يرى ان الخطاب الجدالي الاسلامي ضد الافرنج يظهر انه لم يكن "واعياً بمخاطبة مسيحيين لهم طقوس مختلفة" 2 او يتمكن من اقتراح حجج جديدة في الردود العامة على النصارى او الافرنج. واما لفظة الافرنج التي تم تبنيها عربياً واسلامياً، لتسمية جحافل الجيوش والفئات التي استقرت في الشام فانها انتقلت الى المسلمين عن طريق البيزنطيين، "وهي تحيل على سكان امبراطورية شارلمان، قبل ان تشمل الاوروبيين بصفة عامة" 3 اي على اوروبا القارية وعلى الجزر البريطانية. كان للمسلمين تصور جغرافي عن اوروبا من خلال كتاب "بطليموس"، ولم يضف الجغرافيون المسلمون الأوائل شيئاً يذكر الى ما اطلعوا عليه عن طريقه. كان ابن خرداذبة في اواسط القرن التاسع يقرن اسم الافرنج ببعض الدول المشركة التي كانت تقوم بمبادلات تجارية مع الامارات الاسلامية المشرقية. غير ان المسعودي يمثل تحولاً فعلياً في عملية تحديد الآخر، اذ اعتبر في كتاب "مروج الذهب" ان الافرنج يكونون شعباً كثير العدد، شجاعاً، منظماً بشكل جيد "يعيش في مملكة واسعة وموحدة لهم مائة وخمسون مدينة، وعاصمتهم باريزة". وقدم المسعودي لائحة باسماء الملوك الافرنج من كلوفيس الى لويس الرابع، وذكر انه استمد هذه المعلومات من كتاب قس قدمه للخليفة الاندلسي الحكم سنة 989م. وتمكن من الاستفادة من نسخة منه وجدها بمصر سنة 947م. وقبل القرن الحادي عشر الميلادي كانت العلاقات الديبلوماسية بين العالمين جد محدودة ونادرة، حتى ان التبادل المشهور للسفارات بين شارلمان وهارون الرشيد لا يعرف الا من خلال مصدر افرنجي، وحتى لو وقع ذلك فانه لم يكن من الاهمية التي تثير فضول المؤرخين العرب. غير انه مع الهجوم الصليبي، وطيلة اكثر من قرنين، اضطر المسلمون الى الاحتكاك بالعالم الافرنجي على اصعدة المعارك والتفاوض والتبادل التجاري والديبلوماسي، بل وحتى على مستوى التحالفات التي كانت تعقد بين هذه الامارة او تلك ضد مطامح هذا الامير او ذاك. واصبحت معرفة الافرنج ضرورة عملية تقتضيها شروط المواجهة او التعايش. ويلاحظ الباحثون انه على رغم الصدمة الكبرى التي احدثها الاختراق الصليبي للجغرافيا العربية، فان المسلمين لم يعيروا اهمية كبرى لهذا الواقع الجديد. اذ ركز المؤرخون المسلمون على "النشاط العسكري، وبصورة اقل، على الجانب السياسي للصليبيين الذين سموهم بالافرنج، غير انهم، مع ذلك، اظهروا اهتماماً قليلاً بالشؤون الداخلية للدول الصليبية، وعناية أقل بالفروق الموجودة بين الوحدات العمومية او اصولهم المختلفة او حتى مبررات وجودهم على الاراضي الاسلامية". 4 نجد انطباعات هنا وهناك لدى بعض المؤرخين والكتاب، غير ان المساهمة الاهم في سياق تصور المعرفة الاسلامية باوروبا جاءت من الغرب الاسلامي وليس من الشرق. مؤلفون اسبان وصقليون وشمال افريقيون مثل أبي عبيد البكري والادريسي وابن سعيد... هم الذين وفروا معلومات جغرافية اكثر دقة والتي ستشكل اساس اغلب الروايات المشرقية اللاحقة بالعربية. بل ان مؤرخاً كبيراً في حجم ابن خلدون لم يهتم الا قليلاً بشؤون اوروبا المسيحية. وخلاصة القول انه على رغم المواجهة التاريخية الكبرى التي امتدت طيلة اكثر من قرنين بين الاسلام والغرب اللاتيني على الارض العربية، ومن الاسفار والاخبار والروايات التي نسجها المسلمون عن الشعوب والحضارات المختلفة، فانهم، مع ذلك، لم يصوغوا تصوراً محدداً عن الظاهرة الافرنجية. هناك نعوت من قبيل الكفار والمشركين و"اصحاب الصليب" و"عباد الصليب"... الخ وقاموس غني بالشتم والسباب واللعنة، وذلك ما يدخل في سياق النظام الدعائي للانتقاص من الآخر. لكن ان نعثر على صور واضحة يمكن ان تحديد مضمونها وابعادها فذلك ما يجد الباحث فيه صعوبة كبرى. هل يمكن ان يستخلص المرء بأن الكتابات الاسلامية الوسيطة عن الغرب اللاتيني وعن الافرنج لا تسعف في تكوين نظرة محددة المعالم عنهما؟ ممكن. غير ان ما يتفق عليه اغلب الباحثين هو كون المسلمين تعاملوا، في الفترة الصليبية، مع الآخر ببعض اللامبالاة. فبعد صدمة الهجوم وفجيعة الاقرار بالهزيمة، وبعد وقت طويل، ركز المسلمون، سلطاً ونخباً، على الجوانب العسكرية والمدنية الداعمة للجهاد اكثر مما حركهم الفضول لمعرفة الآخر والوقوف عند نمط حياته وعلاقاته الاجتماعية والاقتراب من عاداته ومواقفه، من العالم والانسان... الخ. لقد ذهب البعض الى اعتبار ان المسلمين كونوا عن عقائد وطقوس المسيحية "صورة مشوهة وكأن الامر يتعلق بقناع كرنفال". 5 وامام التأريخ العربي للوقائع الصليبية الاسلامية، فضلاً عن كونه مرتبطاً بالانظمة وبمقاصد الامراء، فانه يتأرجح بين نزعة برغماتية وعلم كلام ميكانيكي. اي انه بقدر ما يجد الباحث في النظرة المسيحية الغربية الى الاسلام نصوصاً ووثائق ورسوماً وأغان تتناول صور المسلم، ولو من منطلق انتقاصي تشويهي دعائي، فانه في المقابل لا يعثر على نصوص عربية اسلامية تسعفه في تكوين صور واضحة المعالم عن الآخر. لا شك في ان مواقف متعددة من الغير تبرز من خلال الاشتغال على الذات، او بالاحرى عودة الوعي الاسلامي بالذات. وفي سيرورة المد والجزر، يستحضر الآخر باشكال لا تنم، دائماً، عن اقتراب فعلي لا صلة وهويته ولغته... الخ. من هنا يأتي الالتباس الحاصل في التسمية العربية الاسلامية للرومي والافرنجي. ولما كان الاسلام حدد صورة ووضعاً للاختلاف الديني داخل الجماعة العربية الاسلامية، ومنح للذمي حقوقاً وفرض عليه واجبات، واختلف اسلوب التعامل معه من خليفة الى آخر ومن ظرفية تاريخية الى اخرى، حسب المزاج او مضاعفات الصراع مع الآخر او المصلحة، وخضع الموقف من الذمي لتقلبات العلاقات المتنافرة او المتساكنة مع المسيحية الغربية، فان النظرة الاسلامية الى الغير انعكست على عملية فهم العلاقة بين الداخل والخارج، اي بين "أهل الكتاب" وبين "الافرنج" او "الروم". وعلى رغم ان بعض "الارمن" تعاون مع الصليبيين في هجمتهم الاولى وساعدهم في الاستيلاء على بعض المدن، فان الهمجية التي تعامل بها الافرنج مع الكنائس البيزنطية والمسيحيين الشرقيين ولدت لدى نصارى الشرق شعوراً بالحذر، حتى ولو ادعت جحافل الصليبيين انها جاءت لتخليصهم من "الاضطهاد" الاسلامي. ويتفق اغلب الباحثين على ان تصرف النصارى العرب لم يختلف، كثيراً، عن تعامل المسلمين مع الوجود الصليبي، وقد "تعاون بعضهم مع الصليبيين كما تعاون مسلمون: وقاومت اكثريتهم الدويلات الصليبية وجيوشها، وخاصة خلال حرب الاستعادة، بعد ان اتضحت اهداف الصليبيين كغزاة اجانب جاؤوا للاحتلال والنهب والتدمير". 6 بل ان الصليبيين اعتبروا الغالبية العظمى من الاهالي، حتى المسيحيين انفسم، مثل الهراطقة لا يستحقون الاهتمام، ولم يتورعوا عن نهب كنائسهم. لذلك التزموا الحذر في تعاملهم مع النصارى والمسلمين على حد سواء. الا ان منطق الحرب والصراع بين الفكرة الصليبية، بكل ما تحمل من ابعاد ومقاصد، وبين الواقعة الاسلامية بكل ما تفترضه من ضغف وجهاد، فرض - اي المنطق - ذاته على واقع العلاقات الاسلامية النصرانية. فالتعبئة الاسلامية القوية من اجل الجهاد ولدت لدى عامة الناس خلطاً في ادراكهم للمسيحيين، ولم يعودوا يميزون بين ما تمثله المؤسسة الكنسية الغربية وبين الكنائس الشرقية، ولا يعرفون الخلافات والنزاعات الحاصلة بين طوائفها ونزعاتها. المهم انهم كانوا "يسمعون ان الصليبيين يريدون ابادة المسلمين ويرون ذلك بأم أعينهم وانهم يسعون الى احتلال ارضهم وتهديم مساجدهم تحت مزاعم استعادة القبر المقدس. وقد لاحظوا ان بعض الفئات المسيحية هادنت الصليبيين او تعاونت معهم، فسجلوا ذلك نصرة مذهبية للصليبيين". وجعلت هذه الوقائع "الحكام والناس ينظرون الى الطوائف المسيحية كافة نظرة ملؤها الشك والريبة في جميع أرجاء العالم الاسلامي".7 الاندفاعة الجهادية القوية مع نورالدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي والانخراط العملي والوجداني للناس فيها، صفوة وعامة، تمثل عرضاً من أعراض رفض الآخر، سواء في وجود الصليبي المحتل أو في تعبيره الذمي الداخلي. فالجهاد ضد الكفار والأعداء يعكس حالة وجدانية وفكرية جارفة تساوقت مع نوع من التبرم من المسيحيين. وحين تتولد عن هذه الحالة مواقف متعصبة فإن التحكم في الأمر يغدو معقداً سيما اذا اكتسب صفة الاستمرارية في الزمان والوجدان. ومن هنا يلاحظ رضوان السيد ان "علاقات المسيحيين بالمسلمين ساءت في فترة الحروب الصليبية ثم لم تتحسن كثيراً بعد ذلك"8 أي ان الاختراق الصليبي خلق ظروفاً جد محرجة للنصارى العرب، وزعزع كثيراً من قناعات بعض فئاتهم، اذ ولد لديهم ازدواجية الاختيار بين مناصرة بني ملتهم أو الدفاع عن الجماعة القومية"، اذ "كان المسعى الصليبي وبالاً على المسيحية العربية، من حيث ظن أو صور انه دفاع عنهم".9 ومع ذلك فإن الاندفاعة الجهادية الاسلامية طيلة القرن الثاني عشر لم تكن لها مضاعفات سيئة على وضعية الأقليات الدينية في المجتمع الاسلامي، اذ يلاحظ المؤرخون انه اذا استثنينا بعض المظاهر السلبية الطفيفة التي وقعت ابان حصار انطاكية 1098 وحلب 1124، فإن سياسة كل من نورالدين وصلاح الدين ازاء "أهل الذمة" لا تندرج في سياق التمييز والفصل بقدر ما تدخل ضمن عملية الالتزام بقواعد الشريعة التي عملا، بقوة وذكاء، كل بطريقته على احترامها في اعادة بناء الذاتية العربية الاسلامية. وهكذا فإن "حدود الموقف الكلاسيكي للاسلام من الأقليات لم يتم تجاوزها: تأمين الحياة والممتلكات وحرية ممارسة الشعائر…".10 في حين ان العهد الأيوبي شهد خلطاً هائلاً بين الانتماء الديني للنصارى العرب وهويتهم القومية. ولأسباب غامضة، برزت مظاهر من الحذر والاحتياط من "أهل الذمة" في مصر وسورية خصوصاً من الأقباط، بسبب تواطؤ مزعوم مع الصليبيين. تجلى ذلك من خلال مظاهرات شعبية ضد المسيحيين "في 1219 ابان حصار دمياط، من طرف الحملة الصليبية الخامسة، وفي 1242 بالفسطاط عند سماع خبر هجوم الفرسان الافرنج على جنوب بيت لحم، وأخيراً في 1250 في دمشق… تعبيراً عن الفرح بانتصار الاسلام".11