يندهش جل الباحثين في تاريخ العلاقات الاسلامية المسيحية من التفجر الهائل لعناصر المتخيل في ما يتعلق بادراك الآخر، لا سيما من المنظور المسيحي الغربي. ويرى مونتغومري واط ان اوروبا الوسيطة افرزت ظاهرتين لا يمكن لأي باحث جاد ان يتعامل معهما بلا مبالاة، تتمثل الاولى في الصورة الشائهة التي انتهجتها عن الاسلام، وتبرز الثانية في التجذر الكبير الذي تمكنت "الايديولوجيا الصليبية" من ترسيخه في قلوب وعقول الاوروبيين عن الذات وعن الآخر. واذا كان الهدف المعلن للصليبيين تجلى في الدعوة الى استعادة الاماكن المقدسة بالطرق العسكرية، فانهم، من أجل ذلك، استثمروا كل الوسائل الكفيلة بتكوين متخيل جمعي يعلي من شأن الذات ويقدم الآخر في اشكال انتقاصية، شيطانية، تمنح لكل المنخرطين في الحركة العامة حوافز التعبئة والايمان بعدوانيته وشراسته، لدرجة يصل فيها المحارب الى خلق شعور بموجبه يعتبر انه "حين يحارب ضد المسلمين، فانه يحارب الظلام بقصد اشاعة الانوار". وسواء سمينا هذه العملية التعبوية الكبيرة "ايديولوجيا" او "دعاية" او "حملة اعلامية"... الخ فان ما يثير الانتباه عند كل الذين تناولوا الموضوع، هو استعمالهم الكبير لقاموس المتخيل، مثل صورة، مخيلة، ادراك، تخيل، صورة نمطية... الخ، اي ان للمتخيل دوراً حاسماً في تشكيل النظرة المتبادلة للآخر، بكل ما يمكن لهذه الملكة الانسانية الخاصة من انتاجه من صورة واحكام، وخلقه من مشاعر وأحاسيس في سياق الاحتفال بشؤون الذات والانتقاص من صور الغير. فالحضارة لا تقاس بانتاجها المادي وانجازاتها العمرانية والفنية، وانما تتميز، ايضاً بقدرتها على نحت صورة للآخرين التي تربطها معهم علاقات اللاتكافؤ والمنافسة. وليس من قبيل الصدفة ان يؤكد بروديل على دور المشاعر في صنع الحضارات، ومن ضمنها المشاعر المستنكرة نظرياً والمستهجنة عقلياً، ولكنها تفعل في السلوك والعلاقات والتاريخ. واذا كانت "الواقعة الاسلامية" قد انبثقت من احشاء الآخرين وقدمت نفسها باعتبارها امتداداً رمزياً ودينياً للفكرة التوحيدية، فانها، مع ذلك، تكونت وتأسست ضد الآخرين، قياساً الى حجم التبرم الذي اعلنه هذا الطرف او ذاك ازاء مشروعها. وعبر الاسلام عن ارادة للقوة نادرة في التاريخ. امتد، بشكل مدهش، على اكثر من قارة في فترة لا تتجاوز القرن، وانتزع من المسيحية مناطق واسعة، وكون، بموازاة ذلك، متخيلاً جمعياً خاصاً، للآخر فيه صورة محددة ودور خاص. للذمي احكامه، وللمشرك والكافر اجراءاته وللحضارات الاخرى مكانتها. وعلى رغم التقسيم المبدئي بين دار الاسلام ودار الحرب او دار الصلح، فان الواقعة الاسلامية، في سياق انتشارها، برهنت على حالات كثيرة من "البراغماتية" والميل الى التوافق والتساكن والتعايش. وكان للقوة الداعمة ل "الشغف الاسلامي" دور بارز، ومن موقع التفوق كانت تنسج العلاقات مع الآخر، سيما في القرون الاولى من الفتح الاسلامي. ومعنى ذلك ان الغرب التقى الاسلام في ساحة المعركة، كما صاغ عناصره المتخيلة كصور لنموذج ديني وثقافي وحضاري يختزن كل مكونات الضدية ومظاهر المنافسة. فاذا كانت الحضارات تنتصر، كما يؤكد على ذلك بروديل، لأنها تعرف كيف تمارس كراهيتها للآخرين، فهل يمكن القول، من ناحية اخرى، ان التشويه الذي تعرض له الاسلام من طرف الاوروبيين عبر، كما يرى مونتغومري واط، عن حاجة ضرورية "للتعويض عن شعورهم بالنقص"؟ اي ان التعبئة المسيحية حين قرنت الاسلام بالظلام والمسيحية بالنور، زرعت في وجدان المسيحي الغربي الشعور بضرورة الانتصار على النقص لالحاق الهزيمة ب "الظلام الاسلامي". اذ مهما كانت قوة المسلمين، فان المسيحيين، من جهتهم، ترسخت لديهم القناعة بتفوقهم الديني، ومن ثم، فان الصورة المشوهة للاسلام يتعين النظر اليها على انها "اسقاط للجانب المظلم في الشخصية الاوروبية "كما يقول واط. لقد تشكلت الصور النمطية المسيحية الغربية عن الاسلام بالتدريج، وعبرت، بكيفيات مختلفة عن الاهتمام المسيحي الاوروبي بالواقعة الاسلامية. وانطلق هذا الاهتمام، في البدء، من خلال المسيحية الشرقية، والنصارى الاصليين، ثم اتخذ ابعاداً اكثر جدية مع احتدام المواجهة، في سياق الصراع التاريخي والحضاري على المواقع والامكنة والرموز. ومهما كان دور المسيحيين الشرقيين في التمهيد لعناصر الصورة المسيحية عن الاسلام، فان الوساطة البيزنطية اعطت لكثير من الصور بعداً "فانتستيكياً"، ينشط المخيلة ويحرك الوهم اكثر مما يستدعي النظر العقلي الهادئ. وقد يرجع عنف الاحكام المتخيلة على الاسلام الى طبيعة "الشغف الاسلامي" وما تولد عنه من ارادة للقوة تمكنت من انتزاع مناطق شاسعة من سيطرة المسيحية. ويجمع الباحثون على ان الادراكات والصور الاولى التي كونتها المخيلة المسيحية عن الاسلام كانت باهتة، غامضة، ولا تستند - باستثناء حالات قليلة محدودة، مثل حالة يوحنا الدمشقي - الى اطلاع ومعرفة بأصول الاسلام ونصوصه التأسيسية. وضمن جدلية المد والجزر، والاحتكاك العنيف والمتساكن احياناً، بدأت الصورة المسيحية عن الاسلام تتحدد اكثر، دون ان يعني ذلك اقترابها او مطابقتها للوقائع. وكلما توغل الانسان، عميقاً، للبحث عن الاصول المباشرة لهذه الصور، صعب عليه التمييز بين ما هو واقعي وما هو متخيل. بل ان البعد الاسطوري لهذه الصور يغدو حاسماً في اعادة انتاجها وتكريسها في اعماق اللاوعي الجمعي، سيما وانها تتعلق بمنظومة دينية وثقافية تحمل كل عناصر الضدية بالنسبة للمسيحية. فارتباط نمط الادراك بالخلفية الدينية ينشط آليات المتخيل ويجعل البعد الاسطوري يعيش حياة خاصة، يغدو فيها الواقع بعداً يصعب القبض عليه، بل تصبح للأسطورة وظيفة تفسيرية، لا يهم فيها ان كانت صائبة او خاطئة تعكس الواقع او تشوهه، ما دامت قدرتها على التمثل تفرض ذاتها على الذاكرة الجمعية وتجثم، بكل ثقلها الواقعي، على المستقبل، وتساهم، هكذا، في تأسيس سلوكات عميقة، وتغدو بهذه الصفة مشاركة في الواقع. تحل الصورة محل الواقع، سيما اذا اقترنت بمشاعر ضدية واندرجت ضمن سياق الصراع على المواقع والمصالح والرموز، وهو صراع يحركه رجال دين وينفذه جنود، وتنظم حوله حملات "اعلامية"، دعائية، تعطي للآخر صوراً "شيطانية" وتجعل منه خطراً محدقاً على العقيدة والوجود، يوظف، من أجل ذلك، الحكايات والقصص والكتابات الجدالية. فقد صاغ الوعي والمخيلة المسيحية الغربية في الزمن الوسيط ثلاث صور نمطية كبرى عن الاسلام: الوثنية والعنف والشبقية، بكل ما يفترض ذلك من كفر وتوحش وانحلال، بهذه الصور تمت عملية بناء خطاب مسيحي عن الاسلام، يحتل فيه الخيال والجوانب "الفانتازية" مكانة بارزة. لذلك لا تخلو الكتابات الغربية المعاصرة عن هذا الموضوع، من تأكيد على ان هذا الخطاب ارتهن بقاموس لفظي ورمزي، للوهم وللمتخيل فيه دور حاسم. فالوعي الضدي بالآخر، والادراك القوي للمنافسة، وما يفترضه ذلك من الاحتفاظ على الوجود، ولدا عند المؤسسة الكنسية شعوراً بضرورة القيام برد الفعل، والتجأت، من أجل تحقيق ذلك، الى كل الوسائل لشحن المتخيل الجمعي بالصور المضادة للحقيقة المسيحية. فالدعاية التهويلية المكرورة، كيفما كانت طبيعتها ومقاصدها، حين تركز على الاختلافات والتناقضات، تؤكد مشاعر النفور والاستبعاد والرغبة في اللجوء الى العنف. وذلك ما جسدته الظاهرة الصليبية في ابعادها الدينية والعسكرية والتخييلية. ولا شيء يفيد بأن هذه الصور النمطية العميقة قد تغيرت داخل الآليات الدعائية للغرب المعاصر.