في زمن يُعرف بالاختلاف وتفاقم الاهتمام بنزعاته ومدارسه، وفي عزِّ الكلام عن قضايا الفراغ وانعدام المعنى ودلالة الأصول" وما يصحب ذلك من تعدد المفاهيم الفلسفية والشعرية ذات الصلة، يبقى للقيم الأساس وللأنساق الفكرية والفلسفية الكبرى - التي تجعل من العقل ومركزيته منطلقها - حضور في الكتابات المعاصرة. في كتاب "أصول الهندسة" صدرت ترجمته العربية عن دار الفنك - الدار البيضاء وأنجزها جمال الدين بادو، يُحور المفكر الفرنسي ميشال سير قضايا العالم الى الزاوية نفسها التي تُفسِّر بها أصولُ الهندسة سبب استقامة العالم الفيزيائي والاستقرار الإنساني عبر التاريخ. وقد يصعب على غير المختص حصر العناصر النظرية المشتركة بين الحقول المعرفية التي استفاد الكاتب منها لبناء خطابه الفلسفي الباحث في متاهة العلوم عن سند مرجعي يُفسر به تاريخ الفكر الإنساني المؤمن بالإستقرار والتماثل، تجسد لديه في عودة الإنسان الأنطولوجية الى السماء: "الدين"" والى رغبته في الإقامة في الأرض وفق أبعاد ومسافات معينة يتحكم فيشها: ب"الهندسة". ينطلق الكتاب من ملاحظة/ فرضية تُلخص المنظور الذي يجعل منه ميشال سير مدخلاً للمعالجة الفلسفية لقضايا العالمية والشمولية ومفاد الملاحظة أن الدعوة الى الإيمان بالاختلاف والتعددية الثقافية بين الأمم والشعوب" تحمل في جوهرها عقيدة هي نقيض الفكرة التي تدافع عنها لأنها "تمنع من تعميم خطاب صالح لكل مكان وزمان". بل ها هو الاختلاف ذاته والوعي بالفوارق يضاعف فرص الحروب والنكبات في العالم كما لم يسبق لحافز آخر أن أذكاها فيه، مما يجعله يعيش "ضلالاً غريباً". لقد أدى التجاور بين مدن العالم" وانتشار مفاهيم المواطنة العالمية" وتبديد الخصوصيات المحلية ضمن الفولكلور" وارتباط الناس في المسكن والمصير على الأرض" الى خضوعهم لهيمنة أُحادية ونسيج مُوحِّد يُسمى نظاماً، كما أدى الى تفاقم "الأخطاء السياسية والأخلاقية والتاريخية" التي تجنيها العلوم الاجتماعية والإنسانية على الأفراد والجماعات بسبب اهمالها للعلوم الصحيحة. بالخصوص الهندسة التي يجب تذكرها عند البحث عن عالمية جديدة خارج السيطرة، ولسبب بسيط: في اعتبارها فكراً رياضياً وبرهانياً اتفقت الشعوب على قوانينه الكونيه، و"يا مفكر الاختلاف إذ يتلذذ بالحرب والسيطرة الخالدتين" وترغب في المجابهة، فإنك تُهمِل الهندسة". يتوزع الكتاب الى فصول ومداخل فلسفية متفاوتة المعنى والفائدة لغير المتخصّص. غير أن هذه التداخلات لا تفتقر الى مرح الانتقال من ميدان معرفي لآخر مما يُبهج القراءة تارة أو يُتعبها بالاستقصاءات الرياضية الخالصة تارة أخرى، بل تنتقل بين الأزمنة لتعود بالأسئلة المعاصرة الى أصولها التاريخية" أو كما بدت لدى الأوائل في زمن الفلسفة أو مبتدعي العلم. إن المعرفة الإنسانية تعود الى أزمنة ومجالات مختلفة طور تناولها العلم، بعدما كانت انطلقت جميعاً من "اللامحدد"/"الهباء" الذي لا يمكن معه بناء أي توقع. بيد أن هذا القول لا ينفي وجود قانون يمكن استكشافه بمفهوم "الزمن كفضاء نسقي"، يجمع بين كل الأنواع الممكنة. إن كل تواريخ العلوم في انطلاقاتها والأزمات التي مرت وتطورت بها تجد في تاريخ الهندسة تجسيداً للإعادة الدائبة لبناء النماذج الرياضية في حالة الهندسة التي لم تكن مستقرة على حال ولا في موقف أصلي. يُؤطر ميشال سير هذا التاريخ بالبحث عن قوة الدفع التي يتمتع بها كل أصل "كأن الضرورة اقتضت توحيد الحركة المباشرة للغائية، والحركة العكسية لترجع في خط بياني دائري حلزوني، كأن توسيع النظرية لا يستمد فعاليته إلا من تردد غير مُعرف على الأصل" الذي يُعاد اعتباره ثانية بواسطة مناهج صهرت أثناء التوسيع فيتم التضخيم من المنبع الذي يأخذ حظاً منه". لقد أدى تبدل القيم الثقافية واختلافها بين البلدان الى نهاية تمثل التصورات التقليدية، في تجسيداتها غير الإنسانية كالإمبريالية وإرادة الغزو في العقود الأخيرة بالخصوص حيث بدأ الدفاع عن أطروحة الحق في الإختلاف بين الثقافات واللغات" وبين الجنسين" كما انفتح العالم على تعدديات شتى. لكن للمفارقة أن العالم لا يتوحد إلا في لغة واحدة صالحة لكل زمان ومكان... هي لغة الرياضيات منمذجة في الهندسة، إذ بدأت العالمية بأحداث أساس كاكتشاف الهندسة لنسب الزراعة وظهور اللغة الجماعة وابتكار الكتابة الصفحة الفضاء. لا يقوم البعد الإنساني في الكتاب على إرادة أخلاقية ومثالية بل من خلال الدور الذي يجب على العلوم المتداخلة فيما بينها أن تلعبه ضمن الحياة الإنسانية في تصور الكاتب. فنموذجية الهندسة باعتبارها لغة وخطاباً - مستمرين في العالم بين الأقوياء والضعفاء على السواء - هي التي أظهرت العالمية بين الناس ووحدتهم على اختلاف الأحداث والتباس التواريخ التي عرفتها مناطقهم... ألا تُفهم مُبرهنات "طاليس" و"فيتاغوراس" بنفس المعنى في كل زمان ومكان؟ وإذا كان الكتاب استهدف مسألة تكوُّن العالمية كضرب من المعجزات فلأننا نعيش الحاضر الحيَّ الآن ضمن الأصل الذي نُفكر فيه كطفولة جديدة للعالم وانبثاق للكون لأول مرة، والذي يجب أن يتم بمعرفة مُستحدثة من أجل "اكتشاف غرابة تعيد بدايَتها ثقافتُنا الى عهود سحيقة" ولأن ما تَعيَّن إدراكه يضعنا في أقرب جوار لبدائيات منسيّة". وإذا كانت الهندسة بدأت من العلاقة بين الإنسان والأرض المغمورة بمياه النيل" وبإعادة ترسيم الحدود الفاصلة بين الحقول وتوزيعها" دفعاً للمنازعات وتثبيتاً لقيمة الضرائب على الفلاحين... فقد ظهرت أيضاً كتوليدٍ من أصل مشترك "مجرد ومقدس من العلم والقانون" حيث تبدو "التخوم والحدود أصيلة، ولولا ذلك لما وُجدت واحة منفصلة عن الصحراء ولا وجدت فرجة على شكل ثقبة في الغابة ولا تيسَّر العمل الفلاحي ولا وجد فضاء مقدس ولا مدنَّس" وقد فصلتهما طقوس الرهبان" ولا التعريف الضروري في تحديد المجالات" ولما وجدت لغة دقيقة إذن حصل اتفاق حولها" ولا وجد منطق" وأخيراً" لما وجدت الهندسة". ما يحاوله كاتب "أصول الهندسة" يتجاوز التأريخ الإنساني من خلال رواية أصل الهندسة، ليدلل على: بدء الأبدية بين الألة والهندسة أولاً" واستمرارهما فينا الى حد الآن، انطلاقاً من تصور للفضاء كجمع وتركيب للأمكنة التي أقامها الإنسان وللأرض التي اعتبرت "شمولية وتأسيسية"، وتصور للزمن التاريخي المحافظ على مركزية التنظيمات المجتمعية وأدوار المُتعلم مقابل الجاهل" والحاكم مقابل الضحية... حيث تسود علاقات لا تمت لقوانين العلم بصلة. لأن إزالة العالم الموضوعي للحواجز القديمة" والهزيمة أمام التقنية العدوانية لهو من المأساوية التي تفرض "كتابة فلسفةِ احتضارِ الموضوعية المُتعالية - وانبعاثها اليوم". يتميّز فكر ميشل سير في الكتاب روح المغامرة والانتقال بين مجالات المعرفة وثقافاتها الإنسانية. سفَرْ بالكلمات بما لها من تأثير على الجسد والتأريخ" تاريخ الإنسان وهو يحاول الإقامة في الأرض" تنظيم علاقاته مع الأمكنة بقوانين ومواضعات: اقتصادية وقانونية" دينية وسياسية. سواء تحددت بالألهي أو بالهندسي" أو بهما معاً.