في أواخر ايار مايو الماضي نزع طالبان فتيل جهاز الانذار في المدرسة حيث يدرسان، فانطلق صوت صفارة الانذار ودب الذعر والهلع في النفوس وهرع الاساتذة والطلاب الى خارج البناية، ليواجهوا الرصاص يطلقه الطالبان على الاساتذة وعلى زملائهم الطلاب عشوائياً. ولم تمض سوى دقائق حتى سقط خمسة اشخاص قتلى، اربعة طلاب واحدى المعلمات. ليست الجريمة التي ارتكبها الطالبان اليافعان احدهما في الحادية عشرة من عمره والآخر في الثالثة عشرة هي الاولى التي تقع احداثها في المدارس الاميركية الاعدادية والثانوية، فهناك حادثة اخرى مشابهة سبقتها، حيث اطلق طالب في الرابعة عشرة من عمره من احدى المدارس الثانوية في ولاية كنتاكي، النار في شهر كانون الاول ديسمبر الماضي على فريق من زملائه، كانوا يقيمون الصلاة ما ادى الى مصرع ثلاثة طلاب وجرح خمسة. ولم يهدأ مفعول الجريمة التي حدثت في الفصل الدراسي من الربيع المنصرم، ووقوع جرائم جماعية مروعة، ارتكبها بعض الاحداث، فالولاياتالمتحدة تحاول البحث عن اجوبة شافية للعديد من الاسئلة ومنها: هل تعتبر المدارس الاعدادية والثانوية آمنة بعد الآن؟ وهل تحيا البلاد حالة تفشي وباء العنف لدى الشباب؟ وما هي الاسباب الحقيقية والدوافع وراء انفجار العنف المأسوي الذي لم يعد ليميز بين ولاية واخرى؟ تشير التقارير الى ان نسبة الجرائم في الولاياتالمتحدة زادت الى ثلاثة اضعاف مثيلاتها في العقد المنصرم. وتؤكد الاحصاءات ان نسبة الاحداث الذين يقعون ضحايا الاسلحة النارية تفوق نسبة مجموع القتلى بوسائل الموت الاخرى. كما لاحظ الخبراء ان حالات العنف التي استشرت في معظم الجاليات الفقيرة، المنتمية الى الاقليات الاثنية والعرقية، والمقيمة في المدن الكبيرة، في تراجع مستمر. تقول الدكتورة بروثرو ستز، العميدة المساعدة في كلية الصحة العامة في جامعة هارفرد، ومؤلفة كتاب "النتائج القاتلة": "ان نسبة كل من عدد الجرائم على المستوى القومي واحداث العنف، في تراجع مستمر". ومع ان العنف عند الاحداث اخذ يتراجع في المدن الكبيرة، الا انه "اخذ يستفحل في المدن الاميركية الصغيرة والمتوسطة الحجم"، كما ارتفعت فيها نسبة جرائم القتل، كما جاء في قول جيمس مرسي، المدير المساعد في قسم "الوقاية من حوادث العنف في مراكز مكافحة الامراض". ويحذر مرسي من المبالغات حول نسبة الجرائم المرتكبة في حرم المدارس او في محيطها، والتي يرتكبها غالباً الاحداث، فيقول: "ان هذه الجرائم تقل نسبتها عن واحد في المئة". ويصر خبراء على ضرورة طرح الاسئلة والبحث عن الاسباب التي تدفع الاحداث الى اتخاذ العنف وسيلة لهم سواء وجدت فعلاً ظاهرة ما يسمى بوباء العنف الشبابي أم لا. وتؤكد الابحاث التي اجراها الخبراء، ان ليست هناك أية جماعة دينية او اثنية او عرقية تتسم بميلها الفطري للعنف اكثر من سواها. "فالبيئة والأجواء المجتمعية" من اهم العوامل التي تؤثر في اندفاع الاحداث نحو العنف، حسبما تقول الدكتورة دوروثي لويس، الاستاذة في كلية الطب في جامعة نيويورك. وتضيف قائلة ان العوامل التي تساهم في النزعة العدائية لدى كل من الانسان والحيوان هي التالية: "شدة الحرارة، الازدحام البشري، العزلة عن الآخرين والظروف الحياتية القاسية". ويعتبر "الألم" المحرض الأكبر للعدوان. فالأطفال الذين يسعدون لرؤية بعض الحيوانات التي تعذب او هم يعذبونها، والاطفال الذين أسيئت معاملاتهم في سني طفولتهم هم الأكثر ميلاً لممارسة العنف. ويؤكد خبراء في هذا الحقل، ان الاطفال الذين ينشأون في اجواء او بيئات تتسم بالعنف، هم الاكثر ميلاً من اقرانهم الى ممارسة العنف. وتؤكد التقارير الصادرة عن وزارة العدل الاميركية، المستندة الى تحقيقات اجريت على نطاق واسع، ان ابناء وأقرباء ما يقارب نصف عدد الاحداث الجانحين، والذين امضوا فترة من الزمن في "سجون الأحداث" سبق وأقاموا بدورهم لفترة من الزمن، في السجون. ومما لا شك فيه ان العائلات والاحياء السكنية لها ادوار رئيسية في التأثير على جنوح الأحداث نحو العنف، حسبما جاء على لسان جان كول، استاذ علم النفس في جامعة دووك في ولاية نورث كارولينا. ولا تضغط الاحياء الفقيرة التي تسيطر اجواء الجريمة عليها، على حياة العائلة العادية اليومية فحسب، بل انها تفرض عليها معاييرا للسلوك، تشجع قيام اعمال العنف كحل للخلافات والتوترات بين الافراد. كما ان تعرض الاطفال في صغرهم لسوء المعاملة، يسبب لهم حالات عاطفية غير مستقرة، تؤثر بدورها على طريقة تعاملهم في مواجهة ضغوطات الحياة، ويصعب التنبؤ على ردود الافعال، عند مواجهتهم لحالات الخوف والغضب حسب قول البروفسور كول. ويعزو البروفسور كول ايضاً "السلوك العنفي" الى بعض الأسباب البدنية والوارثية، وبعضها الآخر الى الصدمات النفسية الباكرة في حياة الاحداث الجانحين. كما يعترف معظم العلماء بالدور الرئيسي الذي تؤديه العوامل البيولوجية والبيئية، وكيفية تفاعلهم وتأثيرهم على بعضهم البعض. وتؤكد دراسات اجريت حديثاً امكانية التعرف على نسبة ضئيلة من الاطفال والبالغين من العمر ست أو سبع سنوات، الى ميلهم الى العنف، فيمارسونه، بعدئذ عند بلوغهم وفي سن الرشد. ويبدو ذلك واضحاً من خلال سلوكيتهم وعدائيتهم لمجتمعهم، وما أظهروه في هذا السبيل سابقاً. وللمسيئين من الاحداث "تاريخ حافل، من صغرهم، في عدم اطاعتهم لوالديهم أو تهديد رفاقهم وتعذيب الحيوانات، فضلاً عما يقترفون من سرقات صغيرة ومن كذب" حسبما قال فاكس بترفيلد، مراسل جريدة "نيويورك تايمز" ومؤلف كتاب "جميعهم ابناء الله". وتتضارب الآراء حول دور "وسائل الاعلام" كأحد العوامل المؤثرة في جنوح الاحداث نحو العنف. ويعزو كل من الخبراء والجامعيين اسباب العنف الى عشرات البرامج التلفزيونية بل مئاتها والتي تركز على اعمال العنف، وقابلهم عدد آخر من الخبراء الذين يشككون في هذه المقولات ويتهمون مروجيها بالتزمت والمحافظة على كل ما هو قديم الى غير ذلك من الأوصاف. كما دارت نقاشات مطولة حول دور الاعلام وأقيمت ندوات في برامج تلفزيونية، خصوصاً برنامج الپPBS الاخباري الشهير الذي يحمل عنوان "ساعة أخبارية مع جيم ليهرر". وعلى رغم ان ظاهرة العنف ليست جديدة إلا أنه لم يرافقها سابقاً "الكم الهائل من التغطية الاعلامية الحديثة كما في هذا العصر"، وفق ما جاء على لسان سيسلا روك الباحث في مركز الدراسات الانمائية والسكانية في جامعة هارفرد، والذي اجريت معه مقابلة تلفزيونية في برنامج الپPBS، حول هذا الموضوع. كما يلاحظ روك بأن الاطفال الذين تترافق نشأتهم مع العنف أو يحيون في أجواء تتسم بالعنف والجريمة، يفقدون القدرة على التمييز بين ما هو خيالي وحقيقي. اما فرانكلين زيمرين، استاذ القانون الجنائي في جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، والذي تحدث هو الآخر في برنامج الى PBS، فإنه يعارض المقولات التي تنحو باللوم على الاعلام، ويدعم رأيه هذا باستشهاده بالدول الصناعية السبع المتقدمة والتي تشبه حالاتها الى حد ما الولاياتالمتحدة، من حيث تعرض شعوبها لرؤية برامج العنف والعاب الفيديو، فيقدم اليابان مثالاً، للبلد الذي لا يزال يتمتع بنسبة منخفضة في الجرائم على رغم كونه من الدول المصنعة للعديد من العاب الفيديو. ويضيف زيمرين قائلا: "المرء يقلد ما يشاهده في البرامج الاخبارية وليس الذي يراه في البرامج الخيالية"، وما قصده زيمرين هو ظاهرة تقليد ارتكاب الجرائم. ويسدي نصيحة للاعلام الاميركي "في عدم تصوير الاحداث المجرمين بأنهم أشخاص يتمتعون بالرجولة والشجاعة". بل يقترح خبراء تقديم صورة معاكسة، أي تصوير المجرم بأنه "جبان" وان عمله قد تأتى من نفس مريضة، وانه يستحق الشفقة، لا الإعجاب. مضى قرابة قرن على انشاء أول محكمة للأحداث في مدينة شيكاغو، ومن أهدافها الرئيسية، معاملة الاحداث المجرمين كأحداث في مراحل التطور، وليس كراشدين. وقد تبين حديثاً ان الولاياتالمتحدة تحاكم الاحداث الجانحين في محاكم الراشدين، وتصدر أحكامها بسجنهم في سجون البالغين، المفتقرة الى "التطبيب" و"التعليم" و"الإرشاد" والتي من شأنها ان لا تساعدهم على تغيير سلوكيتهم وبالتالي "التغير في مجرى حياتهم" على حد تعبير بترفيلد. بينما يقول بيتر رينهرتز، رئيس المحاكم العائلية في مدينة نيويورك "من الضرورة بمكان ان يعاد تنظيم محاكم الاحداث". ويضيف مشدداً "من الضرورة اعطاء الاحداث الجانحين، بعض الفرص التي قد تساعدهم على تغيير سلوكيتهم وبالتالي تساعد في تغيير مجرى حياتهم، كما يتوجب على المراهقين الذين يرتكبون جرائم خطيرة، المكوث في السجن فترات أطول مما تسوغها القوانين السائدة". إلا ان خبراء لا يجدون الحل في إقامة سجون ومحاكم أحداث جديدة، خصوصاً بعد ان امتلأت السجون بالشباب الجانح، فضلاً عن هذا الحل لا يقدم الاجابة الشافية على وباء العنف. وهذا ما تؤكده ايضاً دراسات اخرى يشير معظمها الى أهمية ادخال "برامج التدخل المبكر" والتي قد تساعد على تخفيض نسبة الجريمة عند الشباب والبالغين، وتعتبر هذه البرامج أقل كلفة من بناء السجون للأحداث والبالغين على السواء. * كاتب لبناني - اميركي. رئيس تحرير مجلة "الجديد" الصادرة بالانكليزية في لوس انجليس.