منذ أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارها في شباط فبراير الماضي بتأكيد اختصاصها للنظر في النزاع المتعلق بقضية "لوكربي"، بناء على طلب الحكومة الليبية، بدا ان مرحلة العد العكسي في معالجة القضية بدأت فعلاً. ذلك ان أبرز ما أكده هذا القرار هو تحديد أساس قانوني واضح يتم بموجبه التعامل مع المشكلة بدلاً من ان تظل أسيرة الاعتبارات السياسية وحدها والتجاذبات الدولية المختلفة الأسباب. فالتكييف القانوني لقضيتي تفجير طائرة "بان اميركان" فوق مدينة لوكربي الاسكوتلندية 21 كانون الأول/ ديسمبر 1988، وتفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق صحراء النيجر 19 ايلول/ سبتمبر 1989، لتحديد الجبهة الصالحة للنظر فيهما، كان يبدو شديد الأهمية آنذاك، وهو لا يزال كذلك نظراً للمضاعفات الخطيرة الناشئة عن النزاع من جهة، ولأن حصر المشكلة ضمن الاطار القانوني يحفف عنها الضغط السياسي، من جهة اخرى. لكن لأن القضية لم تخضع للقواعد القانونية منذ البداية وتم التعامل معها باعتبارها قضية سياسية، كان لا بد من الانتظار الى حين ايجاد حل سياسي لها، بالاضافة الى المعالجة القانونية، وهو ما يجسده الموقف الجديد للحكومتين الاميركية والبريطانية الذي يتلخص بالتخلي عن مطلبهما بتسليم المواطنين الليبيين المتهمين في هذه القضية لمحاكمتهما في أحد البلدين، والموافقة بالتالي على محاكمتهما في بلد ثالث هولندا وفقاً للقانون الجزائي الخاص باسكوتلندا وأمام محكمة يرأسها قاض اسكوتلندي تحدده الحكومة البريطانية. وإذا كان حكم محكمة العدل الدولية لعب دوراً رئيسياً في حمل الولاياتالمتحدةوبريطانيا على تغيير موقفهما والقبول بما كانتا ترفضانه دائماً، أي محاكمة المشتبه فيهما في بلد ثالث، بيد ان هناك عوامل عدة اخرى ساهمت في هذا التحول الجذري، من أبرزها: - أولاً: انفراد الحكومة الفرنسية بمعالجة قضية طائرة "يوتا" وايجاد حل شامل لها بالاتفاق مع السلطات الليبية وتعاونها. وعلى رغم ان السلطات الفرنسية راعت الاعتبارات القانونية في هذه القضية، الا ان ذلك لم يكن ممكناً من دون استناد التسوية الى اساس سياسي. وتم استيفاء الشروط القانونية المبدئية في ملف القضية من خلال المهمة التي قام بها القاضي الفرنسي جان لوي بروغيير في طرابلس العام الماضي واستمع فيها الى افادات كل المسؤولين الليبيين الذين وردت اسماؤهم في القضية. كما ستجرى محاكمة من وضعوا ضمن دائرة الاتهام غيابياً في الخريف المقبل، الأمر الذي يسمح به القانون الفرنسي. الى ذلك، حصلت عائلات الضحايا الفرنسيين على تعويضات قدرها 800 ألف فرنك فرنسي لكل منهم. واعتبرت السلطات الفرنسية هذا التعويض عادلاً ووافقت عليه، وهو ما سهل الوصول الى تسوية، بدلاً من انتظار استكمال الاجراءات القانونية الخاصة بهذا الجانب من الموضوع. ويلاحظ ان العلاقات الفرنسية - الليبية بدأت بالتحسن منذ ذلك الوقت، وتشهد عاصمتا البلدين لقاءات مستمرة بين مسؤولين ورجال أعمال فرنسيين وليبيين لتبادل وجهات النظر حول سبل تعاونهما الاقتصادي والتجاري في المستقبل. وتم عقد اتفاقات عدة في هذا الشأن بين الجانبين سيبدأ تنفيذها قريباً. ويستفاد من بعض المعلومات التي تسربت في الآونة الأخيرة ان الحكومتين الاميركية والبريطانية طلبتا من الحكومة الفرنسية معلومات حول الأسس التي اعتمدتها في تسوية ملف طائرة "يوتا" للاستفادة منها في معالجة النزاع حول طائرة "بانام". - ثانياً: الضغوط الشديدة التي تمارسها عائلات الضحايا على السلطات الاميركية والبريطانية لمعالجة هذا الملف بعيداً عن الاعتبارات السياسية، وذلك حتى يتسنى كشف الحقائق التي ينطوي عليها هذا الملف من جهة، والحصول على التعويضات القانونية المستحقة من جهة اخرى. ويذكر ان السلطات الليبية تجري اتصالات مستمرة مع أسر الضحايا للتفاهم معهم حول موضوع التعويضات. وكانت طرابلس عرضت القيام بخطوة استباقية في هذا الشأن، بحيث تدفع تعويضات لمن يوافق من عائلات الضحايا، ومن دون انتظار حكم المحكمة أو أية اجراءات قضائية تتعلق بالقضية، وذلك من منطلق انساني صرف. ونتيجة لذلك حصلت انقسامات بين عائلات الضحايا في شأن الاستجابة للعروض الليبية، لكن معظم هذه العائلات توافق على اجراء محاكمة المشتبه فيهما في بلد ثالث، كحل وسط، ما يؤدي الى إقفال هذا الملف في صورة نهائية. بيد ان هذه الموافقة كانت تصطدم دائماً بمعارضة السلطات الاميركية والبريطانية. - ثالثاً: اعتبر المراقبون الموقف الذي اتخذته القمة الافريقية خلال المؤتمر الأخير في واغادوغو مطلع حزيران/ يونيو الماضي تطوراً بالغ الأهمية في ما يتعلق بقضية "لوكربي". اذ ان الزعماء الأفارقة المجتمعين اتخذوا قراراً واضحاً يؤكد "عدم احترام العقوبات التي ينص عليها قرار مجلس الأمن الرقم 748 عام 1992 و883 عام 1993 اعتباراً من ايلول سبتمبر 1998، في حال رفضت الولاياتالمتحدةوبريطانيا في الموعد المحدد لإعادة النظر في العقوبات في تموز يوليو المقبل، محاكمة المتهمين في بلد محايد وفقاً لقرار محكمة العدل الدولية". ولم تنتظر بعض الدول الافريقية حلول هذا الموعد المحدد لتنفيذ القرار بل باشرت على الفور في تسيير بعض الرحلات الجوية الخاصة بكبار المسؤولين خلال انتقالهم الى ليبيا. كما ان الرئيس الليبي معمر القذافي فعل الشيء نفسه، سواء خلال رحلاته الشخصية الى بعض الدول الافريقية والعربية المجاورة، أو لنقل الحجاج الليبيين الى مكةالمكرمة. وفي الآونة الأخيرة بدا ان عملية خرق الحظر المفروض على ليبيا تكاد تصبح مسألة عادية، ما سيؤدي حتماً الى سقوط الحظر كلياً خلال فترة زمنية قصيرة. - رابعاً: الموقف العربي الرافض تماماً لفرض الحظر على ليبيا، لعب هو الآخر دوراً مهماً في تغيير الموقفين الاميركي والبريطاني. كذلك الحال بالنسبة لبعض المنظمات والتجمعات الدولية ككتلة عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الافريقية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي. بيد ان القرار الشجاع الذي اتخذته القمة الافريقية كان له دور الحسم في إحداث هذا التغيير. - خامساً: تبين للولايات المتحدةوبريطانيا انه لم يعد هناك من دور للحظر المفروض على ليبيا سوى الحاق المزيد من الأذى بالشعب الليبي، الى جانب ان الحظر نفسه أصبح معر ضاً للسقوط والتلاشي بمرور الزمن. مع ذلك، فإن تسوية المشكلة على قاعدة اجراء المحاكمة في بلد ثالث محايد لا تبدو، في نظر المراقبين ورجال القانون، سهلة التنفيذ. فعلى رغم ان هذا الاقتراح كان مطروحاً باستمرار، لا سيما من قبل الدولة الأولى المعنية بالموضوع وهي ليبيا، وذلك بهدف تجنب الضغوط والمؤثرات المادية والمعنوية والنفسية التي لا بد أن تحدث اذا جرت المحاكمة في أي من الدولتين اللتين تشاركان في توجيه الاتهام، فإن هناك أفكاراً عدة جرى تداولها خلال السنوات الماضية في هذا الشأن. وعرضت بعض هذه الأفكار كاقتراحات رسمية وقدمت الى مجلس الأمن الدولي في تموز من العام الماضي ضمن مذكرة رسمية وقعها كل من: أمين عام جامعة الدول العربية عصمت عبدالمجيد، والأمين العام لمنظمة الوحدة الافريقية سالم احمد سالم. ونصت الاقتراحات المقدمة على الآتي: 1- محاكمة المشتبه فيهما في بلد ثالث يعينه مجلس الأمن. 2- محاكمة المشتبه فيهما بواسطة قضاة اسكوتلنديين في مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، وطبقاً للقانون الاسكوتلندي. 3- انشاء محكمة جنائية خاصة في مقر محكمة العدل الدولية لاجراء المحاكمة المطلوبة. كذلك فإن محاكمة المتهمين في بلد ثالث، وفقاً للتوجه السائد حالياً، تتطلب اجراءات قانونية وتعديل بعض التشريعات لدى الدول المعنية بالقضية أولاً، كما تتطلب اجراءات قانونية تختص بتشكيل هيئة المحكمة وتوضح الضمانات الخاصة بالمتهمين ثانياً. وفي حال صدور أحكام بالادانة يجب تحديد الجهة التي سيوكل اليها تنفيذ الأحكام. وفي هذا المجال يتساءل البعض عن دور قاضي التحقيق في هذه القضية، وكيف سيمارس مهماته؟ ثم من سيتولى الاشراف على اجراءات المحاكمة للتأكد من سلامتها؟ هل هي الحكومة الهولندية؟ هل هي اسكوتلندا نفسها؟ أم سيتم تشكيل هيئة قانونية مشتركة تمثل الدول الأربع المعنية، بما فيها هولندا؟ وما هو دور الأممالمتحدة في كل ذلك؟ كذلك يبرز سؤال مهم حول ما إذا سيتم الاكتفاء باستجواب المشتبه فيهما في قاعة المحكمة، ام سيخضعان للتحقيق قبل ذلك، وفي اطار أية اجراءات؟ كما تشير مصادر قانونية الى ضرورة تطابق اجراءات المحاكمة مع مقتضيات القانون الدولي، حتى لا تنشأ ثغرات قانونية يمكن أن يستغلها أي طرف من الأطراف المعنية للطعن بالاجراءات المتخذة وتهديم كل شيء تم أو يتم الوصول اليه. ان هذه التساؤلات تبدو طبيعية، بل ضرورية، نظراً للتباين القائم في المواقف حول ملابسات القضية، وحول الاجراءات العقابية التي اتخذت ضد ليبيا على مدى السنوات السبع الماضية. وفي هذا الاطار يشير المراقبون الى مشكلة ستواجه الأطراف المعنية بعد الاتفاق على اجراءات المحاكمة ونقل المشتبه فيهما الى الدولة الثالثة. هذه المشكلة تتعلق بالحظر المفروض على ليبيا وموعد رفعه. فهل يتم رفع الحظر فور الاتفاق على اجراءات المحاكمة، ام ستتأخر هذه الخطوة الى ما بعد صدور الأحكام؟ لهذا، لا بد من الوصول الى اتفاق سياسي بين الدول المعنية، في وقت مبكر، تجنباً للاصطدام بمثل هذه العقبات. وإذا كان البحث قد انتقل الى مثل هذه الجوانب الاجرائية، فإن ذلك لم يمنع مصادر قانونية من التذكير بأن اخضاع قضية لوكربي لأحكام الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة والمتعلق بالاجراءات والترتيبات التي يتعين اتخاذها في حالات تهديد الأمن والسلم الدوليين أو الاخلال بهما، كان في الأساس تكييفاً اعتباطياً وسياسياً بحتاً. ذلك ان الحادث، على رغم طبيعته الجرمية، لا يبلغ مستوى تهديد الأمن والسلم العالميين، كما هو الحال - مثلاً - بالنسبة للحروب العديدة التي شنتها اسرائيل على بعض الدول العربية واحتلت بنتيجتها أراضي شاسعة لا تزال تحتفظ بأجزاء كبيرة منها حتى الآن. ومع ذلك، لم يعمد مجلس الأمن الى تطبيق أحكام الفصل السابع على أي من هذه الحالات المتكررة، والتي تهدد الأمن والسلم الدوليين فعلياً، واكتفى بتكييف القرارات الصادرة في شأنها وفقاً للفصل السادس الذي يتعلق بوسائل فض المنازعات الدولية. ولعل إثارة هذا الجانب من الموضوع تكتسب اهميتها لسببين: الأول، اظهار ان كل ما تم اتخاذه من اجراءات عقابية ضد ليبيا كان خاطئاً ولا يستند الى أي أساس قانوني، وبالتالي ينبغي العودة عنه. والثاني، التنبيه الى احتمال اللجوء، في هذا الفصل من القضية، الى اقحام شروط جديدة قد تعقّد المشكلة بدلاً من ايجاد الحلول المناسبة لها. ولذلك يتوقع هؤلاء ظهور الكثير من المناورات خلال الاتصالات المتعلقة بالموضوع. وفي الواقع فإن قرار محكمة العدل الدولية، باعلان اختصاصها النظر في القضية، اسقط آخر مبرر يسمح لمجلس الأمن بوضع يده على القضية، وبالتالي استمرار المطالبة بتسليم المواطنين الليبيين الى الولاياتالمتحدة أو بريطانيا من دون الاستناد في ذلك الى أي قاعدة من قواعد القانون الدولي. لذلك فإن أي محاولة لاطالة المشكلة، من خلال تعقيد الاجراءات المطلوبة أو التلاعب بها، ستزيد الناقمين على الولاياتالمتحدة وسياساتها الدولية، وسيدفع المزيد من الدول الى خرق قرار مجلس الأمن 748 أياً تكن النتائج المترتبة على ذلك. * كاتب وصحافي لبناني مقيم في فرنسا.