ظل الفرنسيون والانكليز متآلفين ومتحالفين مع بعضهم البعض، وفي انسجام مع حلفائهم العرب، ولكن حتى اللحظة التي تم فيها الانتصار على الأتراك، أو - على الأقل - حتى اللحظة التي بدا فيها ان هذا الانتصار بات محتماً. وهكذا، في الوقت الذي وقعت مدن فلسطين وسورية وشرقي الأردن تباعاً في أيدي الحلفاء، ولا سيما تحت قيادة الجنرال الانكليزي اللنبي، حتى راحت الخلافات تتصاعد. ولئن بدت تلك الخلافات، بعض الوقت، تكتيكية تمس بعض القضايا العسكرية الثانوية، فإنها، في حقيقة أمرها، كانت خلافات سياسية جذرية تتعلق، ليس بما يحدث في تلك اللحظات الانعطافية، بل بما سوف يحدث بعد ذلك: مستقبل المنطقة وسبل تقسيمها، ومحاولة كل طرف من الأطراف الرئيسة "شد بساط" اتفاقيات سايكس بيكو الى ناحيته. ما ساعد على تفجر الخلافات في ذلك الحين، كان افتضاح أمر تلك الاتفاقيات. فمن ناحية مبدئية كان يتعين على نصوص الاتفاقيات وتفاصيلها ان تظل طي الكتمان، خصوصاً ان نقاطها الأساسية كانت تتعارض مع كل ما كان الغرب وعد العرب به لقاء تعاونهم معه ضد الأتراك. لكن قيام الثورة الروسية، الذي قلب الكثير من الأوضاع، أدى كذلك الى الكشف عن وجود تلك الاتفاقيات وعلى لسان تردتسكي. من هنا كانت المرحلة مرحلة شد وجذب طوال الشهور التالية. إذ، لأن كل شيء افتضح صار من الضروري للطرفين الحليفين الرئيسيين ان يحددا حيز تحركهما. وكان اللنبي أول من أدرك ذلك. لهذا، حين دخل القدس برفقة الجيش العربي، ثم حين راح يحتل المدن واحدة بعد الأخرى، كان أحرص ما يحرص عليه أن يفهم الفرنسيين أنهم طرف ثانوي في اللعبة. وكان لورانس يساعده في هذا على الرغم من الخلافات المستفحلة بينهما. لورانس واللنبي كانا يكرهان الفرنسيين ويحتقرانهم ويسعيان لكي تخرج فرنسا من المولد بلا حمص. ففرنسا، بالنسبة اليهما، تريد أن تطلع بحصة كبيرة في المشرق العربي من دون أن تفعل شيئاً. وكان هذا الأمر مدار خلاف بينهما وبين السلطات المركزية الانكليزية في لندن وفي المفوضية الانكليزية في القاهرة في الصورة اللنبي مع الأمير فيصل. لكن شؤون السلطات العليا، غير شؤون المسؤولين الصغار. لهذا وجد اللنبي لزاماً عليه، ذات لحظة، أن يقدم تنازلاً للفرنسيين لم يكن أكثر من اعلانه يوم 22 تموز يوليو 1918، أي قبل أسابيع قليلة من الهجوم الشامل الذي كان في طريقه لشنه على سورية ولبنان، عن أنه مستعد للتفاوض والتفاهم مع الادارة الفرنسية. كان ذلك من اللنبي موقفا جديدا للغاية تلقاه الفرنسيون بكل سرور. اذ حتى صباح ذلك اليوم كانت الادارة الفرنسية قلقة، وكان لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي المعروف العامل في ذلك الحين ممثلاً لبلاده في قيادة قوات الحلفاء التي دخلت القدس، ابلغ وزارة الخارجية الفرنسية ان اللنبي لا يفكر أبداً بالتفاهم مع الفرنسيين. ولكن في صباح ذلك اليوم تلقى مارك سايكس، ممثل الجانب البريطاني في المفاوضات الشهيرة، برقية من اللنبي يعلمه فيها انه بات الآن على أتم الاستعداد للاجتماع بمسؤولين فرنسيين مدنيين، ولكن فقط اذا تمكنت قواته من الدخول الى مدن ومناطق تقع تحت المسؤولية الفرنسية مباشرة، أي في مناطق تنص اتفاقيات سايكس - بيكو على خضوعها للنفوذ الفرنسي. والحقيقة ان البرقية لم تكن سوى رد على رسائل عدة كان سايكس بعث بها الى اللنبي يطلب منه فيها التعهد بالاجتماع بالمسؤولين الفرنسيين قبل مهاجمته المدن والمناطق التي يفترض أن "تعود الى فرنسا". وكان سايكس يتحرك في ذلك بناء على إلحاح زميله جورج بيكو، الذي يمثل الجانب الفرنسي في المفاوضات. وكان جورج بيكو أبلغ مارك سايكس والحكومة البريطانية، رسمياً، انه ابدا يستسغ الموقف الذي اتخذه اللنبي حين استولى على القدس ليتحدث هناك، ليس بوصفه قائداً لقوات تابعة للحلفاء، بل لقوات انكليزية - عربية مشتركة، مما يعني ان بامكان العرب أن يتصرفوا في مناطق النفوذ الفرنسية مستندين الى الانكليز وكأن الفرنسيين غير موجودين. كانت باريس شديدة القلق وهي تراقب تقدم الانكليز، بقيادة اللنبي في سورية من دون اذن. ومن هنا جاء اعلان اللنبي في ذلك اليوم ليطمئنهم، بل ليدفعهم الى التحرك على سجيتهم بعدما كانوا قبلا مكبلين بعض الشيء، ولم يكن ذلك في مصلحة عرب سورية بالطبع...