} النص الذي نقدّمه هنا بالعربية هو جزء من نص طويل نسبياً كتبه السفير العثماني في باريس مورلي سيد علي أفندي اثناء فترة سفارته الممتدة من 28 تموز يوليو من عام 1797 حتى يوم 16 تموز من عام 1802. ويندرج هذا النص في اطار نوع أدبي يمكن تسميته بالرواية الديبلوماسية، اذ هو مزيج من التقرير الاخباري ومن تسجيل الانطباعات والآراء والاحكام والتقويمات المختصرة من وصف المشاهدات والعوائد والتصرفات. المقطع الذي نقلناه من الفرنسية الى العربية كتب أصلاً بالتركية العثمانية وجرى نقله الى الفرنسية في كتاب صدر حديثاً عن دار "سندباد - أكت سود" في باريس في عنوان "عثمانيان في باريس في عهد الديركتوار والامبراطورية". والمقطع المذكور يدور على الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت على مصر وما ترتب عليها من مضاعفات داخل فرنسا واوروبا. وفي هذا المعنى يمكن اعتباره بمثابة وثيقة ذات دلالة مزدوجة، اذ ان دلالته الاولى تتصل بداهة بالتاريخ الديبلوماسي كما يتصوره ويكتبه سفير عثماني لا تنفصل روايته عن تصوره لموقع الدولة العثمانية وسلطانها في مرحلة مضطربة موسومة باشتداد النزاع بين القوى الاوروبية الساعية الى التوسع والتغلغل عالمياً. اما الدلالة الثانية فهي ذات طبيعة سوسيولوجية وثقافية، اذ انها تشي بصور وتمثيلات النخبة الادارية العثمانية لمكانتها وموقعها وتشخيصاتها للعلاقات المتعاظمة الاهمية بين اوروبا والسلطنة. وتجتمع هذه الوجوه - الصور المتناثرة في تضاعيف الرواية الديبلوماسية لتشكل ما يمكن تسميته بعقلية عثمانية سوف يتعرض جهازها البلاغي والتدويني المألوف الى اهتزاز وتأرجح بين وجوه التواصل ووجوه الانقطاع داخل ثقافة عثمانية عريضة. وقد وضعنا بين قوسين عبارات مختصره لتوضيح بعض الكلمات، مستعينين بهوامش وملاحظات مترجم النصوص الى الفرنسية ستيفان يراسيموس. نص لمورلي في اعقاب ذلك اي بعد القيام بالفرائض الدينية خلال شهر رمضان المبارك البادىء في 17 شباط /فبراير 1798، انكببنا على عملنا، وصرنا نذهب لحضور اللقاء الشهري المعتاد الذي يعقده المدراء الخمسة في ايام حكم الديركتوار وتحادثنا معهم غير مرة في بعض السهرات. في اثناء ذلك، كان الفرنسيون منشغلين بتجهيز اسطول بحري كبير في مدينة طولون الفرنسية، بعض التصرفات المريبة المتعلقة بتعيين اشخاص محددين أخذت في الظهور بين أولئك الذين كانوا يزعمون في باريس بانهم من ذوي العلم والاطلاع، وراحت الشائعات تنتشر يوماً بعد يوم بين السكان. نظراً لخشيتنا من خفايا المسألة وحين جاءت المناسبة كي نسأل رسمياً عن دواعي هذه التجهيزات، طلبنا توضيح مداخل ومخارج هذه الشائعات والجواب الذي أعطي الينا وضعناه وشرحناه بالتفصيل امام سعادة أسيادنا الجواب جاء من وزير الخارجية الفرنسي تاليران الذي قال كذباً للسيد علي أفندي بان التجهيزات تتعلق بحملة عسكرية ضد انكلترا. وقيامهم بهذا التصرف الذي لا يليق فحسب بدولة أو بجمهورية، بل حتى لا يليق بأمير دوق بسيط، اذ أظهروا فيه الغدر والكذب والدناءة، جعلهم يكشفون جهاراً نهاراً حقيقة اعمالهم المنافقة اذ هاجموا في صورة غادرة، مثل اللصوص، الديار المصرية المقدسة. نبأ نزواهم في مصر أبقاه المدراء الخمسة طي الخفاء. وقد خامرني الشعور بانهم سيعلنون النبأ خلال احتفالهم العتيد الذي يستمر خمسة ايام، وقام أركان الديركتوار بالفعل، وقبل يوم من الاجتماع المذكور، بالاعلان عن النبأ خطياً الى مجلس الخمسمئة، مضيفين القول بان الفرنسيين النازلين في الاسكندرية لم يظهروا ويعرضوا عداوتهم الا حيال بكوات مصر وبانهم سيظلون مقيمين وثابتين على صداقتهم مع الدولة العلية. وبما انه بات امراً خاطئاً ان نذهب الى مجالسهم، فاننا لم نعطِ اي جواب على دعواتهم لحضور الاجتماع المذكور ولا لحضور المأدبة التي نظمها المدراء الخمسة في مساء اليوم ذاته. وقررت الاعتكاف في المنازل التي أسكن فيها والامتناع عن الذهاب الى أي مكان لغير داعي الضرورة. الاجوبة المعطاة على الاستيضاحات الرسمية من قبل الوزير المشار اليه آنفاً، وتبعاً لتزايد انتشار الروايات في باريس عن هذه المسألة الكريهة، هذه الاجوبة وضعت هي الاخرى بين يدي العتبة الشريفة. بعد شهرين من ظهور الحدث المذكور، وطبقاً للامر الصادر عن "رئيس الكتّاب" اي وزير الخارجية العثماني، وطلبت إذناً بالمغادرة كي أعود الى المملكة الشريفة، الا ان طلبي هذا كان من دون طائل. بغية التوصل الى تفاهم والى تبادل، وبغية السماح في المقابل بالافراج عن اعضاء السفارة الفرنسية في اسطنبول، كتب الفرنسيون الى الباب العالي مقدمين شروطهم بهذا الصدد. وبانتظار الجواب، وصلت رسالة صادرة من رئاسة الكتّاب المذكورة متضمنة الامر بالاصرار على الحصول على الاذن بالمغادرة، وصلت بواسطة سفير اسبانيا في باريس. وبمقتضى الرسالة، طلب هذا الاخير عقد محادثة وتفاهم مع جمهورية فرنسا كي تقبل وساطته بغية اجراء التبادل. وتبعاًِ لمقتضيات مهمته، فانه يتوجب عليه ان يطلب خطياً ما ينبغي عليه ان يقول في هذا الشأن، وطلب ان يكون الجواب خطياً. مضمون الاسئلة والاجوبة جرى وضعه ونقله، في انتظار شرح القضية، الى العتبة الرؤوفة لسعادة أوليائنا، ونحن ننتظر صدور وظهور قرار سلطاني وإذناً علياً. عودة خادمكم الحقير اعتبرت غير متناسبة مع اعتبارات الحذر والحيطة، واذا كنا من خلال عرضنا شيئاً فشيئاً للوقائع والاحداث الطارئة في فرنسا وإرساله الى الحضرة العلية، قد قمنا بفرائض الطاعة، فانه من المناسب ان نعرضها ونصفها هنا باختصار. عندما قام الفرنسيون، بجهلهم وغدرهم، وهاجموا ديار مصر، خلافاً لآمال وتوقعات المدراء الخمسة، قامت الدولة العلية أدام الله ظلّها، وعلى جاري عظمتها وبهائها العليين، وردّت على الهجوم باعلان الحرب بغية تحرير الديار المصرية. وفي الوقت الذي كانت الاستعدادات للحرب والمعركة جارية على قدم وساق، وصل الى باريس النبأ بأن نلسون قائد الاسطول الانكليزي هاجم المراكب الفرنسية الموجودة امام شاطىء الاسكندرية ودمّر معظمها إشارة الى معركة أبو قير البحرية في الاول من آب / أغسطس 1898. أحدث هذا النبأ نوعاً من الاحباط والقلق لدى المدراء المذكورين، وألقى هؤلاء مسؤولية تدمير المراكب الفرنسية على ملك الصقليتين وهو فرديناند الرابع ملك نابولي وصقلية ومن ثم ملك الصقليتين تحت اسم فرديناند الاول، لانه استقبل في موانىء مملكته الاسطول الانكليزي خلافاً لنصوص المعاهدة، وأظهر المدراء نحوه العداء والخصومة. الملك المشار اليه راح يزعم بانه يقوم بخدمة الديانة المسيحية من خلال اعادته الى البابا ممتلكاته، وجهز نفسه للحرب قبل الأوان وفي المرحلة الاولى تحدّى وقتل الجنود الفرنسيين الموجودين على اطراف روما واشتهر اسمه عبر تحرير هذه المدينة. ولكنه بعد وقت قصير، واذ لم يقدر على مقاومة الهجوم الفرنسي وخشي انتفاضة أهل شعب بلده، فاستولى عليه الخوف والقلق، فانه التحق بالاسطول الانكليزي الراسي في الميناء وتوجه مع زوجته واولاده نحو صقلية. الملك المذكور كان صهر امبراطور النمسا وعمّه والد زوجته. ولم يكن الفرنسيون على وفاق مع الامبراطور المذكور، وبما ان التفاهم والاتحاد بات مستحيلاً داخل هيئة المصالحة المجتمعة مع امراء الامبراطورية في "رستات"، فان المدراء الغدّارين أعلنوا الحرب على الامبراطور وسرعان ما جهزوا ونظّموا الجيوش .... والحاصل ان المدراء الخمسة كانوا هم محرّك التآمر والمكر وخميرة الخديعة والدناءة. واذ كانوا غير مسرورين باستيلائهم وتملكهم للقسم الاعظم من عائدات فرنسا، فانهم لجأوا الى تقديم الوعود الباطلة بالخير والنعيم وأثاروا وشجعوا الشعب على الانتفاض، وبهذه الطريقة أقاموا في ولاية ايطاليا طغياناً وقهراً لا يوصفان. لم يكن غدرهم وظلمهم تجاه سويسرا والامم الاخرى المنقادة الى التعامل معهم، كبيرين وظاهرين فحسب، بل ان المدراء المذكورين تصرفوا وكأنهم زمرة من الافراد الجشعين القادمين من أسافل القوم، ومن الطماعين الجاهلين التدبّر في الشؤون الدولية، العديمي الاخلاق والموهبة، اذ سلكوا السنة الفائتة مسلك الخزي والهوان، كي يقوموا بدون عذر وخلافاً لتعهداتهم، ومتعللين بالحجج الواهية، باغتصاب الارض المقدسة لمصر. وقد ظنوا انهم يستطيعون اخفاء أفعالهم ونواياهم، بدعوى المفاجأة والتصرف بعجرفة، ونجحوا في اخفاء وتمويه اهدافهم ومقاصدهم عن الاشخاص المعنيين بهذه المسائل والمعتادين على شؤون البلاد والجمهوريات، وأظهروا التجاهل مستخدمين الأكاذيب والحيل الرخيصة، وهاجموا ديار مصر المحروسة، كاشفين بذلك عن غدرهم وخساستهم .... في الرابع عشر من شهر جمادي الاول من عام 1214 ه 1799م رجع الجنرال بونابرت الذي كان في الاسكندرية، وبفضل مكر بعض الضباط والفلاسفة وصل الى باريس، الامر الذي أفرح الكثير من الفرنسيين. منذ بعض الوقت، كانت طموحات واغراض عصابة اليعقوبيين تقوم على التآمر وتدبير المكائد أملاً في احداث الفوضى والشقاق. وفي اجتماعاتهم، وخصوصاً بين المدراء، ظهر الشقاق والخلاف بوضوح، فبسبب استطالة الحروب ظهرت كافة انواع البؤس وبدا ضرورياً توفير الخير والهدوء للفرنسيين، عن طريق عقد سلام عام غداة الانتصارات المتلاحقة. الا ان عصابة اليعاقبة، وهي من جنس جعل المكر مذهبه، ويجهل السلام والصداقة ومستعد للشقاق وإثارة الفتنة، كانت تنوي الانتقال الى حيز الفعل. و مع وصول الجنرال المذكور، قام المدراء الخمسة واتخذوا احتياطات حيال ممثلي المجالس الاخرى، عازمين على توجيه دولة فرنسا ووضعها على درب الاستقرار والتقدّم. في شهر جمادي الآخر من العام المذكور أعلاه، وطبقاً لمضمون الاعلان المنشور الصادر عن مجلس الشيوخ السينا، فان اعضاء المجلس والمدراء الخمسة جرى نقلهم الى القصر الملكي المعروف باسم قصر سان - كلو، والواقع بين باريس وفرساي. وهناك، وبعد عرض وشرح الامور جرى إبطال والغاء وظيفة المدراء الخمسة كلياً، إذ اعتبرت هذه الوظيفة مسؤولة عن الاضرار الكبيرة التي لحقت بالعباد والبلاد، وبات مطلوباً تعديلها وتبديلها في اطار النظام الجديد في فرنسا. وجرى علناً تعيين ثلاثة اشخاص بوصفهم "مفوضية قنصلية" وكان بونابرت واحداً من الثلاثة هؤلاء. ولئن كان الجنرال بونابرت راغباً ومصمماً على ان يكون هو صاحب الكلمة العليا، ومنقاداً الى غواية وتشجيعات عدد من الجمهوريين ومستمعاً الى نصائح ومناشدات أنصاره، فانه اضاف بعض البنود الى النظام الجديد، واضعاً قيادة شؤون الجمهورية في عهدة القناصل الثلاثة، وإذ قام بتوسيع ميادين نفوذ القنصل الاول، فانه عيّن نفسه في هذا المنصب. الشؤون العسكرية وامور الحرب والسلام في حالات الضرورة، والمسائل المالية والشؤون الخارجية اصبحت كلها من اختصاص وصلاحيات القنصل الاول. بات المذكور بونابرت مقتنعاً منذئذٍ بمواصلة التجهيزات الحربية واستدعى من المنفى المدير السابق، المدعو كارنو، وكلّفه من جديد بشؤون الحرب. كان هذا الاخير خبيراً جيداً في فن الحرب، واستطاع في وقت قصير ان يجهز الذخائر والمؤن لجيوش الرين وايطاليا. ولئن رأى بونابرت ان أهالي جنوى الجنود الفرنسيين فيها كانوا محاصرين براً من قبل النمساويين وبحراً من قبل الانكليز، وانهم كانوا منذ بعض الوقت يعانون من هذا الحصار وان حالتهم باتت مقلقة بسبب القحط والمجاعة، فانه سارع الى نجدتهم عسكرياً .... اما بالنسبة الى الدولة العلية - أدام الله ملكها - فانها كانت تجهّز قواها وقدرتها الساحقة من اجل تحرير الديار المصرية وبعون سيد العالمين مؤازراً الدولة العلية فان الديار المصرية جرى انتزاعها في وقت قصير وتحريرها بالقوة والاكراه من ايدي الاعداء. ومنذئذٍ، وبفضل وعون سيد الخلق فان الشروط القابلة لاقامة تسوية مع دولة فرنسا اصبحت مناسبة ومضمونة، وإذ صدر الاذن السامي بعقد السلام، فان خادمكم الحقير سُمح له بالعودة. * ترجم النص وقدم له: حسن الشامي