ليس فقط في مواجهة المتطوعين الذين تجمعوا في «أسطول الحرية» لكسر الحصار على الشعب الفلسطيني في غزة، ولكن في مواجهة العالم بأسره، قامت الدولة الإسرائيلية العنصرية باعتدائها الهمجي، خارقة بذلك كل قواعد القانون الدولي، ومحطمة الأعراف المتحضرة التي تقضي بحرمة الحياة الإنسانية، وخصوصاً بالنسبة الى المواطنين المسالمين في غير زمن الحرب. ومما لا شك فيه أن مجرمي الحرب من قادة إسرائيل، المسؤولين عن قرار المهاجمة المسلحة لسفن «أسطول الحرية» وما ترتب عليه من وقوع عشرات القتلى والجرحى واعتقال المئات من المتطوعين، ورَّط اسرائيل وأوقعها في مأزق دولي لا فكاك لها منه. ويشهد على ذلك الاستنكار العالمي الواسع النطاق، إضافة إلى العنف الشديد للتصريحات التركية التي دانت العدوان بأقسى العبارات واتهمته بأنه هجوم دنيء، على رغم العلاقات الاستراتيجية الوثيقة التي تربط تركيا بإسرائيل، والتي وصلت إلى حد إجراء مناورات عسكرية مشتركة تقرر إلغاؤها عقب العدوان الإجرامي. وعلى رغم تخاذل الموقف الأميركي ونكوص الرئيس أوباما عن الإدانة العلنية للعدوان الإسرائيلي، إلا أن دولاً أوروبية عدة استنكرت ما حدث، لأنه عبارة عن قرصنة همجية، لأن الاعتداء وقع على قافلة «الحرية» في المياه الدولية وعلى بعد 80 ميلاً من المياه الإقليمية الإسرائيلية. ولذلك لم يكن غريباً أن يأتي العنوان الرئيسي لجريدة «ليبراسيون» الفرنسية في عددها الصادر في أول حزيران (يونيو) الجاري على النحو التالي: «إسرائيل: الدولة القرصان»، والذي أضيفت اليه العبارة التالية، «إدانة عامة لإسرائيل بعد العدوان المميت لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي ضد البواخر التي كانت تحمل المتضامنين في طريقهم إلى غزة». ولم تكتف الجريدة بهذا العنوان، ولكنها نشرت تحقيقاً كاملاً عن العدوان من بين عناوينه :»الدولة العبرية تصرفت خارج القانون وبعيداً من الشرعية»، و»استخدام القوة الغاشمة في الماء كما هو الحال على الأرض». والتحقيق حافل بالإدانات الدولية للهمجية الإسرائيلية. ونريد في هذا المقال الذي نكتبه عقب العدوان الإسرائيلي على «أسطول الحرية» مباشرة أن نبيّن للقراء أن السلوك البربري الإسرائيلي في هذا العدوان الإجرامي له في الواقع جذور إيديولوجية في الفكر الصهيوني المعاصر. وسبق لنا في كتابنا «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر» (القاهرة- 2005، الطبعة الرابعة) أن حللنا بعمق تصورات الصفوة السياسية الإسرائيلية للشخصية العربية، وطرق التعامل مع العرب. وعنينا بعرض وتحليل تصور الصفوة الإسرائيلية التقليدية لطرق التعامل مع العرب، والتي ما زالت حية حتى الآن، وتبنى بعضها أعضاء النخبة السياسية المعاصرة. وسنعتمد في عرض هذه التصورات على مرجع أساسي ألَفه مايكل بريتشر، وهو أستاذ كندي في العلوم السياسية، يهودي الديانة. وأهمية بحث بريتشر ترجع إلى أنه لم يقنع بالتحليل النظري، وإنما أجرى مقابلات واسعة مع أعضاء الصفوة السياسية الإسرائيلية للحصول على بياناته، ومن هنا ثراء هذه البيانات وصعوبة العثور على مثيل لها في مراجع أخرى. وعلى رغم أن بريتشر يقرر في بداية عرضه لصورة العرب في ذهن الصفوة الإسرائيلية، أن «الصورة الإسرائيلية» عن العرب كعالم وكعقل وكمجتمع وكشعب وكعدو بالغة التحدد باعتبارها تحتل مكاناً مركزياً في «رؤية العالم» التي لدى صانعي سياستها العليا، إلا أن ما يسميه صورة العرب في ذهن الصفوة الإسرائيلية هو أقرب ما يكون إلى الاستراتيجيات المختلفة التي دعا إلى تطبيقها مختلف أعضاء هذه الصفوة تجاه العرب. ويقرر بريتشر أن ليست هناك صورة واحدة للعرب، بل صور متعددة متعارضة. وهذه الصور تعد حاسمة في فهم الصراع حول سياسة إسرائيل بين بن غوريون وموشي شاريت في الفترة من 1953 –1956. وهناك في الفكر الإسرائيلي تنميط ثلاثي ل «الصور الإسرائيلية عن العرب». وهذا التنميط يشتمل على ثلاث صور متمايزة، يطلق عليها على التوالي: البوبرية، والبنغوريونية، والوايزمانية، نسبة إلى الفيلسوف مارتن بوبر، وبن غوريون ، ووايزمان. والصورة الأولى يطلق عليها «البوبرية» وهي تعني التوافق مع العرب من خلال الحلول الوسط. وهذا الاتجاه نحو العرب أطلق عليه «البوبرية» نسبة إلى الفيلسوف اليهودي الشهير مارتن بوبر Martin Buber الذي حاول خلال السنوات التي قضاها في فلسطين – إسرائيل، التوفيق بين اليهود والعرب. وهذا الاتجاه في جوهره يمكن إجمال منطقه في ما يلي: أن اليهودية دين يتسم بمعايير أخلاقية عالية، وهناك ظلم وقع على العرب، وبالتالي فعلى إسرائيل أن تكفر عن أفعالها غير الأخلاقية. وليس هناك تعبير أكثر دلالة على هذا الاتجاه من هذه الفقرة التى وردت في كتاب لبوبر، عنوانها: The Samsonite: «حينما عدنا إلى أرضنا بعد عدة مئات من السنوات، تصرفنا وكأنها كانت خلواً من السكان، بل وأسوأ من ذلك، وكأن السكان الذين فيها والذين واجهناهم ليس لنا من شأن بهم وكأنه ليس علينا أن نهتم بهم، وبعبارة أخرى كأنهم لم يدخلوا في دائرة إدراكنا. ولكنهم دخلوا في وعينا، ولكن ليس بوضوح كامل. ليس بالوضوح الذى كان يمكن أن يتحقق لو كنا نحن الذين أدركنا وجودهم، ولو كنا نحن الأهالي، ورأينا أناساً آخرين أخذوا يتوافدون بأعداد متزايدة لكي يقيموا في الأرض. لم يكن إدراكنا لهم جليا، ولكنه كان واضحاً بالقدر الكافي، وكان طبيعياً أن تتسع دائرة الوضوح من سنة إلى أخرى ولكننا لم نلق بالاً إلى ذلك، ولم نلق بالاً إلى أنفسنا. ليست هناك سوى طريقة واحدة للتصرف في ضوء هذا المشهد الصارخ، وهي أن نتعاون بشرف مع العرب، وأن نشركهم في تنمية البلد. وفي عملنا وفي ثماره. ولهؤلاء الذين أشاروا إلى الحركة القومية العربية التي يتصاعد نموها وازدهارها، أجبنا أنه لا ينبغي المبالغة في شأنها، وأننا نستطيع أن نتعامل معها». والسؤال هو: من هم الذين رآهم العرب يلعبون دور الغرباء Philistinesالذين تسللوا إلى بلدهم، البريطانيون أم نحن؟ هذا السؤال يمكن أن يظل معلقاً بلا جواب، غير أن الفرض الذي أقدمه هو: أن كلا البريطانيين ونحن كأننا طرف واحد». وهذه الصورة التي تبنتها المجموعة القديمة التي تدعو للثنائية القومية (Ihud) التي كان يتزعمها بوبر Buber وماغنس Magnes مع حزب «المابام» Mapam، وكذلك تبنتها بعض الأصوات المتناثرة في الجامعات وبعض العناصر في وزارة الخارجية وأماكن أخرى، تؤدي منطقياً إلى سياسة تقوم على التنازلات. وقد اختلف مضمون هذه التنازلات بحسب الجماعات وباختلاف المراحل، غير أن جوهر هذه السياسة كان تجاه تقديم تنازلات من أجل السلام. والصورة الثانية هي البنغوريونية وتعني (التوافق مع العرب من خلال استخدام القوة الفائقة). هذه الصورة التي تنسب إلى بن غوريون تحتل مكانها في أقصى دائرة الطيف، ويمكن أن تصاغ كما يلي: «نحن اليهود قد اضطهدنا لفترة امتدت ألفي سنة، وأخيراً لقد استعدنا هذه البقعة من الأرض في وطننا التاريخي، وكان ينبغي على العرب أن يستقبلونا بحرارة، باعتبارنا أبناء عمومة، ولكنهم على العكس، فإنهم يحاولون أن يخلقوا لنا غيتو آخر عن طريق المقاطعة والحصار». إن جوهر «البنغوريونية»، أو صورة «قطعة الأرض الصغيرة»، يتمثل في الاعتقاد أن العرب غير قادرين على قبول التعايش السلمي في هذه الحقبة التاريخية. ولذلك فإسرائيل لا بد أن تظهر قبضتها وتلوح بها بين حين وآخر. وكانت النتيجة هي اللجوء المتكرر الى استخدام القوة التي وجدت التعبير النموذجي عنها في سياسة الردع في ظل حكم بن غوريون ودايان خلال الأعوام 1955 – 1956، وفي الفترة التي أعقبت حرب الأيام الستة أخذت شكل «عدم التنازل عن بوصة واحدة من الأرض العربية المحتلة». وهناك عنصر آخر في الصورة وهو أنه إذا استطاعت إسرائيل أن تحتفظ بصورتها وبالحقيقة التي مبناها أنها ستظل هكذا لا تقهر، فذلك سيؤدي إلى تغيير جوهري في نفوس العرب. والصورة الثالثة هي «الوايزمانية» وتعني (التوافق من خلال البحث العقلاني للحصول على حلول معتدلة). والمسلمة الرئيسية لهذه النظرة التي تنسب إلى وايزمان أن المواجهة العربية – الإسرائيلية ليست صراعاً دولياً شاذاً، بل هي نزاع حاد ومستمر، ولكنه يقع داخل دائرة «السواء»، وينبغي النظر إليه كذلك. وأبعد من ذلك، فالصراع لا يمكن حله عن طريق حل واحد مفرد، ولكن عن طريق سلسلة من التدابير غير الجذرية التنى تنفذ عبر الزمن. ووجهة النظر هذه أن حل الموقف يتمثل في تغيير المناخ، وتخفيض المستوى العام للتوتر عن طريق الأعمال البنائية. ويمكن القول أن إسرائيل، على رغم أنها وقعت معاهدة سلام مع مصر بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وبعد ذلك مع الأردن، ما يدل على أن صورة الحلول المعتدلة مع العرب تغلبت على غيرها من الصور، إلا أن السلوك الإسرائيلي في السنوات الأخيرة وخصوصاً اعتداءها على لبنان وعلى الشعب الفلسطيني ومحاصرة غزة، تؤكد عودة النخبة الإسرائيلية الحاكمة لتبني «البنغوريونية» أو فكرة أن العرب لا يعرفون إلا لغة القوة والعنف. غير أن الاعتداء الإجرامي على «اسطول الحرية» يؤكد أن ثمة تجديداً لحق بهذا التصور، وهو أن العالم كله وليس العرب فقط لا يعرف إلا لغة العنف والقتل والإرهاب والاعتداء على المدنيين المسالمين! لقد خسرت إسرائيل معركتها، لأنها لم تكن موجهة فقط ضد الفلسطينيين المتضامنين، ولكنها كانت موجهة ضد الإنسانية ذاتها! * كاتب مصري.