لا توجد مقولة سيطرت على ذهنية المثقفين والكتّاب العرب في العقود الأربعة الماضية أسوأ من مقولة "مهمة الكاتب في تغيير المجتمع والحكومات". وهي، كمطلب أريدَ به الألتفاف على عملية الابداع وتوظيفها لخدمة الحركات السياسية، ساوت بين الجميع في مجال يشترط مستويات مختلفة في الوعي والنوعية والاهتمام. وترتب على هذه المهمة المفتعلة والمستحيلة اندفاع الكاتب الى التهويل، واللجوء الى مقولات خاطئة انفعالية تركت، بمرور الزمن، تأثيراً سيئاً في ذهنية المتلقي وشوهت في الوقت نفسه مهمة الكتابة. وداس على قشرة الموز هذه عدد كبير من الادباء، وعدد أكبر من المفكرين نسبة الى قلتهم. وما زال معظم الكتّاب يحملون معاول التغيير من غير أن يفهم أحد ما الذي يريدون تغييره، وهل أسبابهم مخلصة وموضوعية أكثر من هذا وذاك؟ هل هم يحملون في ذواتهم الاستعداد النفسي للتغيير حتى يطلبوه من الجموع التي يناشدونها؟ هذه الأسئلة وردت على خاطري عندما انتهيت من قراءة مقالة الباحث اللبناني علي حرب "الحياة" 15/6/1998 ، وفيها يمكن للقاريء أن يعثر على أفكار هادئة، ولمسات تشخيصية مفيدة، وسط ركام من التحليلات ذات النَبر التوجيهي، الاستعلائي، التي يسودها التعميم والمصطلحات الفلسفية الرنانة، ما يضعها على مسافات بعيدة عن جوهر القضايا التي تحاول معالجتها. فمنذ سارتر والبير كامو اللذين قرّبا اللغة الفلسفية من الوعي المتوسط والعام، أصبحت القضايا الفكرية تُعالج، ما دامت خارج المؤسسات الاكاديمية، بأساليب وأدوات تحليل حديثة. وتهتم، أولاً، بتبسيط الحالة موضوعة الدرس الى مستوياتها الدنيا، ثم اشباعها بالتحليل للارتفاع بها ومعها الى مستويات فكرية راقية، بحيث ساهمت كتاباتهما في خلق تيارات حديثة للوعي، وعملت على تبصير القارئ - المواطن وتعزير ثقته بخياراته عندما يواجه موقفاً ما، شخصياً كان أم عاماً. ما يفعله الكتّاب العرب الآن أنهم نقلوا أدوات التحليل الاكاديمية الى الصحافة، وقدموا قضايا العرب ضمن تهويلات مشدّد عليها، ثم أغلقوا بوجهها أي أمل أو طريق للحلّ، باستثناء ما تعثر عليه عواطفهم الشخصية من حلول، فأتخموا الصحف بكتابات سريعة وعظية تعتمد مفاهيم مقولبة تحوّلت بمرور الزمن الى شفرات عاطفية ذات أبعاد نفسية - عصبية، تتزلّف المشاعر العامة التي خلخلتها الشعارات السياسية الكاذبة على مدى نصف القرن الماضي. وبما أن العربي عنيد بطبيعته، وهذا ما لا يتطرق إليه المفكرون العرب، لأن هذه النقطة، برأيهم، لن تؤثر في استنتاجاتهم النهائية، فقد تحوّل عدد كبير من المقولات الخاطئة في ذهن القاريء والمثقف أيضاً الى ما يشبه الدعامات الخرسانية. إن مقولة "مسؤولية الكاتب في التغيير" تعني بالدرجة الأولى مسؤوليته في التغيير السياسي. وهذه النغمة سادت المنطقة العربية في العقود الأربعة الماضية، وعملت على تدمير مستوى النشاط الثقافي والابداعي فيها، بحيث إن كلمة الاستاذ الجامعي الفرنسي ميشيل دوسرتو "وقّع على عريضة احتجاج وستكون مثقفاً" الكرمل 54، ترجمة كاظم جهاد أصبحت مفتاحاً للتأهيل الثقافي في المنطقة العربية في تلك الفترة، تخرجت من ثقبه الواسع جيوش من المثقفين، زحفوا بعد ذلك على الصحف والمجلات. إلاّ أن المشكلة لا تكمن في ظهور هذا السيل الثقافي العكِر، ولا في استسهال عملية الكتابة الآن من قبل الجميع من دون اهتمام بشروط الابداع من عمق وجدة، بل في ما يتردّد في كتابات المفكرين ويعيد ترداده المثقفون من مفاهيم خاطئة احتلت مكانة اللافتات السياسية القديمة، تزرع في عقل القاريء اطمئناناً مريحاً الى سلامة حالته بالإجمال، وفي الوقت نفسه تعمل على إرباك توازنه الداخلي، لأنه يجد نفسه أمام شكوى دائمة من تخلف موقعه الحضاري، بينما هو، في المقال نفسه أو المقال التالي، متفوق على الجميع في العادات والقيم الانسانية والتأريخ والثقافة واللغة. إن معظم كتّاب الفكر العرب كتّاب سياسة أكثر منهم محلّلون يلتزمون اختصاصهم الاجتماعي أو الأدبي، لذلك تراهم يقيسون جميع استنتاجاتهم "الفكرية" بالوضع السياسي للعرب في هذا الفترة أو تلك، وليس بالحالة الأجتماعية في جوانبها الاقتصادية والأخلاقية ومستوى الوعي الفردي والجماعي. وتجدهم متحفزين على الدوام لأي تفسير أو نعت يُطلق على المجتمعات العربية التي تشترك، كخليط من البشر، مع بقية المجتمعات في عدد كبير من الظواهر الايجابية والسلبية. فتراهم ينبرون في سرعة وبلغة قاسية، عاطفية ومهتاجة، الى أية اشارة تحاول التعمق في فهم طبيعة النفسية العربية. وعلى رغم أن معظمهم خلدونيون، إلاّ أنهم لا يرقون في تحليلاتهم الى الملاحظات الشجاعة التي توصل إليها ابن خلدون عن طبائع الانسان في المجتمعات العربية. وبدلاً من ذلك تغلّب النعرة "الفكرية" على الواجبات العلمية لكتّاب الفكر العربي الحاليين، فساهموا في اشاعة الكثير من المفاهيم الخاطئة، ما جعل كتاباتهم تسيء الى العرب وقضاياهم القومية والاجتماعية أكثر مما يسيء إليها أي تحليل يصدر عن كاتب غربي مغرض. ذلك أن تحليلات الكتّاب العرب تخدع وتطمئن فلا تشجع الفرد على مراجعة جوانب الخلل في نفسيته وسلوكه اليومي، ولا على امتلاك الوضوح اللازم لقياس ومعرفة موقعه الحقيقي في الحياة. والمفكرون العرب ذاتهم قليلو الصبر، عندما ينفد صبرهم يحمّلون الشعوب العربية مسؤولية القصور عن إداء ما يسمونه دورها القومي المطلوب. وهذا الدور المطلوب تقرره دوافعهم الذاتية، ما يعني أنهم كانوا يتعاملون مع كتاباتهم، بلا وعي منهم، كبيانات سياسية مهمتها تهييج المشاعر العامة، وليس تشخيص أعراض التخلف المتبقية في السلوك العام. فالعربي، وبسبب تفوقه المذكور آنفاً حسب تقييمات المفكرين العرب، مطالب يومياً باللحاق بالحضارة الغربية. وهذا لن يكفي، بل وتجاوزها أىضاً، وإلاّ فأن وجوده يفقد مبرره، ويتبع ذلك تلاشي الأصول العربية عن آخرها في غضون فترة يحددها المفكرون أنفسهم، امعاناً في تأكيد دقة تنبؤاتهم العلمية! هذه مقولة أخرى تتردد في كتابات المفكرين، حتى تكاد تسمع جعجعة الصراخ الذاتي بين السطور عمّا ينتظر العرب من عقاب تأريخي بسبب تخلفهم. وهي في حقيقة الأمر مقولة بائسة تخفي وراءها حالة عصابية لدى قائلها، لكن خطرها أنها تعقّد الإنسان العربي وتزرع في نفسيته الشعور بالعجز والنقص، لأنه قد لا يخطر له، وبالذات للقاريء ذي الوعي المتوسط أو البسيط، أن التحضر لا يصنعه نداء سياسي أو فكري مهما كانت قوته البلاغية. إن دفع الشعوب العربية إلى اللحاق بحضارة الغرب التي تطلبت أربعة قرون أشبه بهلوسة اللحظات الأخيرة من النوم. فالحضارة تصنعها شروط وظروف معينة أحدها، وأقلها في الأهمية، ظهور مفكرين تخلصوا، قبل مجتمعاتهم، من الازدواجية والأوهام. والعرب الآن يتحركون، كمجموعة بشرية، باتجاه التطور ضمن امكاناتهم ومعطيات واقعهم، ويتعلمون من أخطائهم، مثل بقية الشعوب، ليقللوا خسائرهم في المستقبل على رغم أنهم لم يتخلصوا كلياً من آثار فترة التخبط الايديولوجي السابقة، وعلى رغم مواجهتهم للتعصب الاصولي الحالي. وهذا يعني أن عروقهم لم تجفّ كما تقترح، أو تتنبأ، التهويلات "الفكرية". الآن سوف أتطرق الى مثال واحد عن المفاهيم الخاطئة التي ينثرها المحلّلون العرب في كتاباتهم الصحافية، ويرددها المثقفون من دون تأمل في مضمونها أو مستوى انطباقه على الواقع. أغلب المفكرين والمثقفين العرب حينما يتناولون الأعمال الأدبية الغربية، التي تهتم برصد معاناة الإنسان من الوحدة أو وحشته في الوجود، ينتهون الى أن أزمة الانسان الغربي تكمن في فقدان تلقائيته نتيجة الحياة العصرية التي تركّز على الفردية فتسحق انسانية الفرد وتعزله ضمن وحدة كئيبة تبعث على المرض، بينما تلقائية الشرقي وتمسّكه بالروح الجماعية تحميانه من الوحدة وما ينتج عنها من عذابات نفسية مرضية. هذا التشخيص الذي يخلّف الشعور بالرضا عن النفس ووجد طريقه، أو لهذا السبب وجد طريقه، بسهولة الى رأس المثقف العربي، ومن ثم الى القاريء، ينطوي على تعميم مخادع ومُفسد لأن التلقائية موجودة لدى عدد كبير من الغربيين وتمارس في حدود معقولة لا تضايق الآخر أو تسطو على وقته، كما هي موجودة لدى معظم الشرقيين، وبنسبة تفوق الضرورة، لأسباب خاصة بطريقة العيش ونوعية العلاقات السائدة في المجتمعات الشرقية. فالتلقائية في الشرق مدمرة في أغلب الأحيان لأنها مبرر للكسل، وتوطّد نوعاً من النفاق الاجتماعي داخل المدن بشكل خاص. والتلقائية في الأرياف، ولدى سكان الصحراء، مطلوبة لأنها تعزز روابط التعاون الجماعي، وهي مقبولة حيث تتوافر كثرة في الأفراد وقلة في واجبات العمل. بَيدَ أن "نعيم" التلقائية في المدن دائماً يكون على حساب الآخر إذا لم تضبط في حدود معقولة. أما حالات التلقائية الأخرى فجميعها تُمارس من قبل أفراد يعانون من وقت فراغ كبير، لا يعرفون كيف يملأونه، أو لا يجدون وسائل عامة فنية وعلمية وأدبية ومهنية يتعود الفرد على ارتيادها لتنمية قابلياته الخاصة بعد أوقات العمل. مثلاً: إن إسلوبي التلقائي في الحياة يحملني في الساعة العاشرة ليلاً ، أثناء عودتي من النادي أو المقهى، إلى بيت أحد الأصدقاء لأطرق بابه. وقد دفعني إلى هذا السلوك اشتياق مفاجيء، وجئت مشحوناً بالرغبة في السهر وتبادل الحديث. فتنفض العائلة بوادر النعاس من عيونها، ويبدأ الحديث الذي لن يتضمن على الاطلاق اكتشاف لون جديد في الرسم، ولا اسلوب مختلف في الكتابة، لينتهي في الساعات الأولى من الصباح، ويخلّف تأثيره السيء في اليوم التالي على شكل ضعف بدني وذهني. وتتكرر زياراتي المفاجئة للأصدقاء والأقرباء في أوقات عملهم، في الوظيفة أو في البيت، وبالمقابل أتلقى زيارات مبعثها التلقائية والاشتياق المفاجيء الى صحبة الآخر، أهبُّ لها بحرارة، سواء كانت في النهار أو في الليل. فكم لوحة مهمة أستطيع انجازها كفنان، وكم نصّاً ناضجاً يخرج من بين يدي ككاتب في السنة الواحدة، مع جولات تلقائية من هذا النوع؟ إن الإنسان الغربي المحروم من "نعيم" التلقائية التي يتمتع بها الشرقي يرفض هذا النمط من الحياة الذي يتسم بالعشوائية، ولا يضحي بوحدته مقابل علاقات استلابية تؤدي الى انفجارات نفسية تنتهي بالخلافات وقد تتطور الى عداوات وأحقاد. وسعادة الشرقي تتحوّل، ما إن يبلغ الأربعين، الى شعور حزين بضياع العمر من دون تحقيق انجاز يتناسب مع الأحلام والطموحات التي زحمت خياله في فترة الشباب الأولى. وتقتصر حياته بعد الخمسين على الثرثرة واجترار الأحاديث، وتنمو في نفسيته مشاعر الغيرة والحسد وما ينتج عنها من تصرفات اجتماعية رديئة، أبسطها رغبة التدخل في شؤون أولاده وزوجاتهم. وراقبت،ُ من مسافة معقولة، مجموعات وشللاً تمتهن الثقافة، وتفتخر بالتلقائية، وتسخر من حرص الفرد على عمله الوظيفي أو انكبابه على الانتاج الكتابي، وتسم حياته بالعزلة، وتحزن على وحدته، وتعتبره فاشلاً من الناحية الاجتماعية. فوجدتُ أن أفراد هذه الشلل تربطهم الى بعض علاقات يشوبها التوتر الخفي والنفاق والطعن بالآخر أثناء غيابه، وتسود لقاءاتهم اليومية أحاديث عادية للغاية، أبرز ما فيها الغيرة، بمستواها الشعبي الرخيص، والحسد والتنافس الذاتي، والرغبة في الكيد وتسقط أخطاء الآخر لتحطيم سمعته. إن مقولة التلقائية الشرقية هي واحدة من مجموعة كبيرة من التعميمات والمغالطات التي تزخر بها الكتابات العربية، التي تتناول الثقافة والتراث والماضي والعرق واللغة والقيم والعادات، ويحاول المفكرون من خلال ابراز جانب واحد منها والتعمية على الباقي، إقناع أنفسهم، قبل القاريء، بقوة تَميّزها ومن ثم اعتبارها عاملاً من عوامل التحفيز على التقدم. لكن اضافة الى كونهم يراهنون على جياد مريضة في سباقهم مع حضارة الغرب، فأن العزف الدائم على هذه الأفكار يلصقها في أذهان الناس ولاوعيهم بالطريقة النفسية ذاتها التي تعتمدها شركات الاعلان. أما مقولة "مسؤولية الكاتب في التغيير" فهي تمثل أكبر اعلان دعائي قدمته الحركات السياسية للثقافة منذ الستينات الى يومنا هذا، حيث ما زال عدد كبير من المؤسسات الثقافية، ممن توقف تفكير مرؤوسيها عند نقطة معينة من الزمن، تعمل بموجب هذه المقولة، فتمنع وتحارب أي عمل ابداعي يخرج عن نظرتها المشلولة الى التقدم، وهنا ينطبق وصف الاستاذ علي حرب لدورها، في أنها تجرّ المجتمعات العربية الى الوراء، كلما حاولت التقدم الى الأمام. إن التباس مهمة الكاتب، بتحميله مسؤولية هي من اختصاص الحركات الاجتماعية، أربك المبدع والناس، ونقل أساليب السياسة المضلّلة الى العمل الكتابي، الفكري والأدبي. وفي لقاء ممتع ومفيد، أجراه مقدم البرامج الانكليزي جون ديمبلبي مع الكاتب الأميركي نورمان ميللر، كان السؤال الذي أضحكتني اجابة ميللر عليه طويلاً هو حوّل موقف هذا الروائي من الحياة الأميركية، التي يتناولها عادةً بقسوة في رواياته: ميللر، أنت تتناول فقط الجوانب السلبية عن الحرية والفردية في المجتمع الأميركي، سأل ديمبلبي. ألا توجد جوانب ايجابية يستفيد منها المواطن من الليبرالية؟ ابتسم ميللر ثم ضحك بقوة لهذه الملاحظة، وأجاب بعدها: - إن الكاتب مثل الطبيب، فالطبيب لا يزور الأصحاء، إنما يذهب الى المرضى ليعرف أسباب مرضهم وطريقة علاجه. لا أعتقد بأن الفكر السياسي، في الشرق أو في الغرب، سيقدم تفسيراً دقيقاً عن مهمة الكاتب، كما فعل ميللر في سطر واحد، وفي غمرة المرح