42% نمو بالإنتاج الزراعي بالباحة    الأسهم السعودية تغلق على تراجع طفيف    البطاطا تقود ارتفاع المنتجات الزراعية خلال أكتوبر    3 ملايين مخطوطة تتصدر حديث ثلوثية الحميد    تحرك أمريكي روسي جديد لبحث مقترح سلام ينهي حرب أوكرانيا    حصيلة ثقيلة للفيضانات في جنوب آسيا    ترامب: أي دولة تهرب المخدرات لأمريكا معرضة للهجوم    ولي العهد يستقبل الأمراء وجمعاً من المواطنين في قصر الخليج بالدمام    عنف إسرائيلي متصاعد وسط تمدد البؤر الاستيطانية    انطلاق فعاليات القمة الخامسة لرعاية العيون بمشاركة نخبة من الكادر الطبي    الأخضر يقهر عمان في كأس العرب    مصدر هلالي: لا صحة لعرض نونيز على ريفر بليت    متخصص في الاقتصاد الدولي : الميزانية العامة للدولة تعكس إدارة الدين العام وتحقيق التوازن المالي    تعليم الطائف يتأهل بتسعة طلاب إلى المعارض المركزية لأولمبياد إبداع 2026    السفراء الجدد يؤدون القسم أمام ولي العهد    التعادل يحسم مواجهة مصر والكويت في كأس العرب    حين أوقدت منارتي نهض الصمت فنهضت به    أبها المدينة الصحية استعدادات وآمال    جدة تستضيف الجولة الختامية من بطولة السعودية "تويوتا للباها 2025"    مساعد وزير الإعلام يبحث مع سفير موريتانيا التعاون بالإذاعة والتلفزيون    فيصل بن مشعل يرعى توقيع مذكرة تعاون بين إسلامية القصيم وجمعية التنمية الأسرية    بوتين: الهجمات على ناقلات النفط قرب تركيا «قرصنة»    احتفال نور الرياض يقدّم أول تجربة ضوئية في محطات القطار    أمير تبوك يطلع على تقرير عن منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    رجل الدولة والعلم والخلق الدكتور محمد العقلاء    أمير الشرقية يستقبل الدوسري المتنازل عن قاتل أخيه    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة توجيهية لمنسوبي القوة البحرية بجازان    انطلاق معسكر العمل الكشفي التقني البيئي المركزي 2025م بمنطقة الرياض    أكاديمية الأمير سلطان تنظم حملة تبرع بالدم    مركز الفلك الدولي يوثق بقع شمسية أكبر من الأرض بعشر مرات    "الشؤون الإسلامية" تنفذ أكثر من 47 ألف جولة رقابية في المدينة المنورة    طرح 21 مشروعا عبر منصة "استطلاع" لاستقبال المرئيات حولها    انطلاقة مشروع "رَواحِل" بجمعية التنمية الأهلية بأبها    المركز الوطني للعمليات الأمنية يتلقى (2.720.218) اتصالًا عبر رقم الطوارئ الموحد (911)    اعتداء جديد للمستعمرين يعطل مصادر المياه في «رام الله»    طالب جامعة شقراء بتعزيز جهودها في التحول.. «الشورى» يوافق على تعديل مشروع نظام حقوق المؤلف    في قمة الجولة 15 من الليغا.. برشلونة يواجه أتلتيكو مدريد لتأكيد الصدارة    سمو أمير قطر يفتتح كأس العرب    خربين يقود المنتخب السوري للفوز على نظيره التونسي    تفاصيل صادمة في مقتل المؤثرة النمساوية    هنيدي خارج السباق الرمضاني    التعالي الصامت    «مركز الموسيقى» يحتفي بإرث فنان العرب    وزير الطاقة يطلق منتدى الاستثمار المشترك.. السعودية وروسيا.. مرحلة جديدة من التعاون الشامل    الديوان الملكي: وفاة صاحب السمو الأمير عبدالله بن فهد بن عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود    افتتح معرض هانوفر ميسي..الخريّف: المملكة محرك رئيسي للتحول الصناعي العالمي    علماء الآثار الروس يكتشفون آثارًا فنلندية وقطعًا معدنية عربية في منطقة إيفانوفو    «التخصصي» ينقذ طرف مريض بالجراحة «ثلاثية الأبعاد»    البكتيريا المقاومة للعلاج (2)    البروفيسورة حياة سندي تنضم لجائزة Galien    محافظ الطائف يلتقي رئيس مجلس إدارة جمعية أسر التوحد    الكتابة توثق عقد الزواج عند عجز الولي عن النطق    عد الأغنام لا يسرع النوم    تقنية تعيد تمييز الروائح للمصابين    دورة علمية للدعاة والأئمة والخطباء بجزيرة لومبوك الإندونيسية    القيادة تعزي الرئيس الإندونيسي في ضحايا الفيضانات والانزلاقات الأرضية ببلاده    الداخلية: تخريج 99 ضابطاً من دورات متقدمة وتأسيسية    أمير منطقة جازان ونائبه يطمئنان على صحة مدير عام التعليم ملهي عقدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعر جودت فخر الدين في قلب اليومي
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 2017

منذ إطلالاته الأولى على ساحة الكتابة الشعرية في نهاية سبعينات القرن المنصرم استطاع جودت فخر الدين أن يثبت أنه صاحب تجربة متميزة وصوت شعري فريد، إذ يمكنك حين تقرأ قصيدة له، أن تتعرف إلى هوية كاتبها حتى ولو كان اسمه مغفلاً. لكأن القصيدة والاسم توأمان أو لكأن الشاعر ونصه هويتان تتعرف كل منهما بالأخرى وتعرِّف بها. وفي ذلك برهان دامغ على صدق التجربة وأصالتها.
يعيش جودت فخر الدين الواقع شعرياً، يستولد الدهشة من اليومي، فيستحيل الحدث العابر بوابة عبور نحو الأعمق والأبهى في الذات وفي العالم. في «حديقة الستين» القصيدة التي عنون بها ديوانه الأخير يتفجر الشعر من حادثة محض عادية: هو الشاعر يتعثر في مشيه يكاد يصاب بكسر في ركبته، لكنه ينجو فيقف على قدميه، ليطل من شرفة الستين على ما اختبره من تجارب فيتبدى العمر حديقة تتنوع ألوانها والأشجار، تتناوب عليها الفصول، فتزهو ربيعاً، وتخبو خريفاً، وتثمر صيفاً، وتعصف بها الريح شتاءً، لكنها في شتى حالاتها تغري بالتأمل والنظر. وما العمر إلا رحلة اكتشاف للذات ومساراً واضح الاتجاه: «سرت كثيراً هنالك في الناس/ كانوا غبار المسيرة مني إليّ، فشقّ عليّ اجتياز المسافة».
تبلغ تجربة الشاعر الوجودية كامل نضجها فيبدو له كل شيء صغيراً، يتجاوز التناقضات، يتصالح مع نفسه، ومع الله والبشر، فتسكنه تلك الطمأنينة التي لا يملكها إلا الذين تحرّروا من زيف العالم وبريقه الكاذب، ونفذوا إلى جواهر المعاني المتخفية في أعماقهم، وتحت قشرة الكائنات من حولهم. يرصد علامات السنين في ملامح وجهه ويلحظ آثارها في سمعه الذي صار خفيفاً وفي هشاشة العظام وفي جسد لم تعد تحركه الرغبة وقلب لم يبق له من الحب وإمكاناته سوى الكلام، فلا تنتابه حسرة أو ندم بل على العكس، يغمره شعور بالامتلاء والاستكانة والرضى، كيف لا وامرأة واحدة شاطرته العمر تغنيه عن كل النساء، والأذن التي خفّ سمعها تحررت من صخب الأصوات لتلتقط صوتاً واحداً هو صوت الحقيقة الصامتة داخل الذات: «بات سمعي حارساً، / يجعلني أسمع ما ينساب مني:/ من لساني، أو فؤادي، أو شرودي».
ثمة كلمات- مفاتيح تتردد كاللازمة في معظم الدواوين التي يشكل كل واحد منها لبنة في بناء واحد متماسك، مرصوص، لا ينفك يتطور عمقاً واتساعاً على وقع التجربة. الغيم كلمة مفتاح، والحور، والسماء، والأشجار والحديقة. الغيم لغة للغموض والالتباس، ووعد بمطر القصيدة، أو بالضوء المتخفي وراءه، والحور توأم الشاعر ونديمه، والسماء غيب يتربص بالبشر، والأشجار في رحلة بين أرض وسماء تصبو الى فوقٍ لا يُطال ويشدها إلى تحت التراب، هي الأشجار شامخة حتى لو عصفت بها الريح، تموت واقفة تماماً كالشعراء يقاومون الموت بقاماتهم المنتصبة في القصيدة التي تميتهم لتعيدهم في خلق جديد.
وطأة الزمن
«حديقة الستين» بمقاطعها الثمانية هي كون مصغر، يختزل التجربة التي إذ تتنوع تجلياتها في قصائد الديوان الإثنتي عشرة، يبقى أساسها واحد هو الإحساس بوطأة الزمن وتقدم العمر فيتعمق الوعي المأسوي للوجود الإنساني. لكنّ للشاعر ملاذين يقيانه السقوط في مهاوي الحزن والتشاؤم: الطبيعة والشعر.
بين الطبيعة والأنا علاقة تماهٍ لكأن الذات تذوب في ما حولها من عناصر الطبيعة أو لكأن هذه العناصر هي من مكونات الذات، إذ تفعل الواحدة في الأخرى وتنفعل بها. ولا نبالغ إن قلنا أن جودت فخر الدين يعيد ابتكار الرومانسية شأنه في ذلك شأن الشاعر الفرنسي أبولينير في علاقته مع الغنائية حين توسلها ليبتدع لغة للدهشة والتجاوز. يتقن الشاعر فن قلب المعادلات بين الأشياء، ينطلق من مدركات الحواس ليقيم بينها علاقات غريبة تفتح الباب على السؤال وتضفي على القصيدة بعداً رمزياً يترك للقارئ حرية التجوال في ما بين السطور وما توحي به الصور. ولنا شاهد في هذا المقطع: «تعرف الشمس مقعدها في الحديقة/» تجلس بين الظلال كظلٍ خجولٍ / توزع بين الظلال خيوطاً لحيرتها/ تتهيأ لي كي أفيء إليها، تحرك في داخلي نسماتٍ تغور عميقاً... / هي الشمس تعرف مقعدها، وأنا- حين تجلس – أعرفها،/ أستجير بها» (ص21). تتنكر الشمس لمعناها القاموسي لتصبح رمزاً للقصيدة وينجح الشاعر في تجاوز المشهد الطبيعي الذي تلتقطه العين المجردة إلى مشهد مختلف هو ولادة القصيدة التي لا تنفك تدهشه حين تخرج من بين أصابعه براقة على الصفحة البيضاء.
يعيش الشاعر في برزخ بين عالمين ولغتين يبتدع بينهما الجسور. مرهف الحسِّ هو، ثاقب النظرة، تستهويه العزلة، ويعشق التأمل في مظاهر الحياة من حوله، يتقن فن الإصغاء لوشوشاتها في أغصان الشجر، وفي نسمات الهواء، ويفهم لغة الحجر. يجمع الشفافية والغموض، يسكب نفسه في الحبر ويكتبها على الورق فتلبس ثوب الالتباس تنسجه لغة توحي ولا تشي، فيزدوج المعنى ويفتح الباب واسعاً على الاحتمال. هكذا نقرأ الحديقة حديقة البيت وحديقة العمر وحديقة الذات في آن معاً، والبيت في وسط الحديقة هو بناء للإقامة شُيد بعرق الجبين عقوداً تلو عقود، لكنه كذلك البيت في القصيدة، أو قلب الشعر الذي يبعث في حديقة الذات الحياة ويعطي للوجود معناه. هو بيت في سفر دائم، سكانه منذورون دائماً للرحيل والتشرد بحثاً عن مجهول يغريهم: «بيت أقمناه حتى نقيم،/ فلم نستطع، وهو لم يستطع/ وأقمنا معاً في المتاهة.../ لكنه هو قلب الحديقة». تنزاح الكلمات عن مدلولاتها المألوفة لتتولد منها صور تقارب بين العناصر المتباعدة فيفتح التشبيه نافذة على المجاز، ويرتسم عالم في موازاة العالم، يتكثف فيه الزمن لتصبح البرهة الخاطفة وعاءً لأبدية لا تقاس بمقياس الوقت، بل يلتقطها الحدس في اللحظة الخاطفة. إنه زمن الإبداع تؤلفه برهات هي «بقع تفرّ من الزمان، / تطير بي، لأرى المكان معانقاً/ سحر الشموس وقد غدت موجا». هكذا يعيش الشاعر العمر مرتين، في قلب العالم مرة، ومرة ينسحب منه ويخلو لنفسه ليحيا في القصيدة ولها وبها. تصبح القصيدة بديلاً عن العالم بل جوهرَه وحقيقتَه.
محطات ومنعطفات
هكذا يتأرجح الشاعر بين حدين: توق إلى أفق يغري بالسفر لكنه يبقى بعيد المنال، تتبدى زرقته كبرق خاطف لا يكاد يشع حتى يختفي، وحضور في المكان والزمن الحاضر حيث يتبدى المشهد حزيناً، محبطاً، مخيباً للآمال: دماء تسيل، وحروب يستعر أوارها، في أرض النبوات التي أنكرت وجهها. إنه الخراب يجتاح المكان فلا يترك فيه حتى الطلل. في قصيدة رائعة عنوانها «لم أخاطب سوى الليل في حضرموت» مما يشي بتجذر في التراث الثقافي العربي، من جهة، وينبئ من جهة أخرى بأن الزمن العربي يدور حول نفسه في عملية تكرار عقيمة، من جهة أخرى، يردم الشاعر الهوة بين الأمس واليوم، بين ماضٍ غابر وحاضر ثقيل مستحضراً لامية امرئ القيس في لعبة صوت وصدى فيزداد المشهد مأسوية: «أيا صاحبيَّ قفا. / هل أقول «قفا»؟ ... لا أقول قفا،/ بل أقول انظرا:/ تريا شفقاً جاثماً، / يخطف السهل، والسفح، والقمم العالية.»
إلى ذلك في الديوان بعض من سيرة ذاتية تكشف محطات ومنعطفات في العمر تركت أثرها في النفس. في قصيدة «قبر أبي» يطل علينا وجه الإبن المحب البار كاشفاً عن علاقة تتناقض مع نظريات التحليل النفسي التي جعلت من القتل الرمزي للأب شرط تحقق الذات. على عكس ذلك، يتماهى فخر الدين مع أبيه، يستحضره من وراء الغياب ويدخل في حوار مؤانسة معه فتتحول زيارة القبر إلى موعد جميل بين الموت والحياة. في قصيدة أخرى بعنوان «تلطف» تتحول تجربة المرض الذي أصاب الزوجة إلى مواجهة مع الموت تنتهي بانتصار الزوجين بقوة الحب الذي يبلغ التعبير عنه مداه في «قصيدة... أو أجمل». إنه اكتمال الحب بالشراكة والصداقة والتفهم والتفاهم، فتصبح الأنا هي أنت، وتصبح النحن هوية ثنائي لا يمكن الفصل بين عنصريه.
في الديوان رصانة ونضج، وإيمان عميق بالله والإنسان يشفّ عن نزعة وجودية مؤمنة. وفيه تعبير عن مشاعر صادقة وتجربة وجدانية أصيلة، وفيه موقف من الحياة يقوم على مجموعة من القيم التي أصبحنا بأمس الحاجة إليها في عصر ينحو باتجاه مادية مفرطة تهدد بسلب الإنسان بعده الروحي الذي يميزه عن سائر الكائنات. فالشعر حين يولد في النفس الإحساس بالجمال، إنما يخرجها من سجن العادة والمألوف ويطلقها في فضاء الحرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.