أياً كان صاحب الرأي القائل بحق المفكر والسياسي والكاتب، بنقد سياسات بلده في داخل البلد وبواجب الامساك عن هذا النقد في الخارج، فمن الواضح ان هذه المقولة لقيت هوى وقبولاً واسعاً وحملت على محمل الوطنية، حتى تحولت لدى البعض الى ما يشبه الميثاق والقاعدة والمسلمة، دون ان تنال فحصاً وتمحيصاً وحتى اعادة نظر. والنقد المقصود وهو أداة صاحب الرأي ووسيلته الى الكشف والاقتراح والمعالجة، ليس من قبيل الدعوة وعلى شاكلة التأليب ومماشاة خصومات خارجية والسير في ركابها، مما يخرج صاحب النقد عن نزاهته بل عن سويته ويدرجه في عداد اصحاب الابواق وصغار المتعيشين بأسوأ مهنة وأقذع سلوك، اذ ان مدار القصد والاستهداف هو الدفاع عن الرأي والمعتقد والمصلحة الاجتماعية والتعريف بأوجه القصور وجوانب المشكلات، وهذه عرض من اعراض حياة المجتمعات والسياسات العامة وتقلبها بين الخطأ والصواب، وبين التجريب الفج وموازنة الخيارات، والمراوحة بين روائز الماضي والاعتراف بتحديات الحاضر وتطلعات المستقبل. وليس هناك في سلوك المجتمعات الديموقراطية ما يضع قيداً على النقد الذاتي بصوت مسموع دون تمييز بين ما هو داخل الحدود القومية وخارجها، وكم استهوت البعض، مظاهر الجهر بالنقد الذي يطال المجتمعات الغربية والتي تبدر عن سياسيين ومفكرين ومن هم "أدنى" منهم ممن ينتمون لتلك البلدان، مما اعتبر طعناً بتلك المجتمعات وشهادة عليها، دون احتساب لحيويتها وجرأتها على تعريض الذات والأوضاع القومية للهواء والشمس، وللتفاعل مع تجارب الآخرين والحوار والتواصل معهم، دونما حساسيات او انتفاخ قومي، وبلا خشية او وجل من النقد كأحد حقوق او واجبات العقل البشري. لقد شكلت تلك المقولة الرائجة قيداً ذاتياً وخارجياً على صاحب الرأي، وحملته على الازدواج بين ما يظهر في الداخل ان اظهر وما يبطن في الخارج، وأسندت اليه اداء مهمتين متعارضتين تقوم احداهما على المشاركة والبوح، والاخرى على الاستنكاف والصمت بما يتبع ذلك من توليد مركبات الخوف والعزلة. ومن الطريف وليست الطرافة باطلاقها محببة ومرغوبة ان يؤدي الاخذ بهذه المقولة واعتمادها الى اجازة الخوض في تجارب الآخرين وإنعام النظر في ما وراء الحدود ووراء الشمس! او الانكباب على شؤون النظرية ومجردة من مناحي الفكر. ولئن كان ذلك دأب المفكرين وأصحاب الرأي والنظر، فإن الحاجة تظل قائمة للاهتداء بالخبرات الخاصة والتشخيصات المعيوشة والتجارب المحلية، وهو ما يعف عنه الآخذون بمقولة تجنيب مجتمعاتهم عيون الآخرين الفاحصة، وبدعوى ان هذه محظور مناقشتها على الملأ امام الغير، واتباعاً لأمثولة الامتناع عن "نشر الغسيل الوسخ" وأي غسيل هو هذا الذي يظل على وسخه. واللافت الآن ان الرأي بتفادي اذاعة الانتقادات في الخارج، قد شاع في البلدان العربية جنباً الى جنب مع القول بوحدة الاقليم العربي وبوحدة الآمال والهموم "والارهاصات" وكان حرياً وفق هذا المنطق عدم احتساب الخارج القومي وراء الحدود القطرية خارجاً او دول اجنبية تتطلب ان يسلك المرء فيها سلوكاً مغايراً لما يسلكه في دياره مما يكشف الخطل الذي يعتور فكرة الوحدة حين تقوم على تعميم وتوحيد واقع الانكفاء ورفع الاسوار والتبرم بتعدد الآراء وعلنيتها. والغالب ان من يضيقون بالرأي مذاعاً ومعلناً في الخارج، يبدون مثل ذلك وأكثر منه في الداخل، وحيث السياسة الخارجية امتداد للسياسة الداخلية وفق مقولة لا تخلو من الوجاهة. وسيكون الأمر مدعاة للملاحظة والاستغراب، حينما تعتمد قاعدة الكف عن ابداء النقد في الخارج لدى تجارب الديموقراطية العربية الناشئة، وحين يجري تصوير الأمر بأن الديموقراطية قابلة للاستعمال في الداخل ولكنها محظورة في الخارج، والتقسيم المكاني على هذا النحو اشبه بتقسيم الأزمنة، كأن يحظر النقد في النهار ويباح في الليل وأو يتم جوازه في الشتاء وتحريمه في الصيف. وبعيداً عن هذه الدعاوى التبريرية فإن هذا المذهب بما ينطوي عليه من نازع التستر على العيوب والمثالب وعدم الاستعداد لمواجهتها، يضرب صفحاً عن المستجدات التي تعصف بعالمنا، ومن أهمها ان السياسات الداخلية باتت محكومة بمعايير وزوايا نظر عامة وكونية وهي التي تتيح مثلاً اجتذاب المعونات من الهيئات والمنظمات الدولية، ودعوة رؤوس الأموال للاستثمار فضلاً عن ان وسائل الاتصال الحديثة لم تعد تعرف الحدود والقيود، امام التدفق الميسور للمعلومات وتبادلها مما يجعل التخفي داخل الحدود امراً شبه مستحيل وفي أضعف الحالات فإنه لا يثير الاعجاب ويطفئ الاهتمام.