الكتاب: "مشتهيات" الكاتبة: سهام بدوي من ضمن سلسلة "أصوات أدبية" العائدة الى "الهيئة العامة لقصور الثقافة" في القاهرة 151 صفحة، نوفمبر تشرين الثاني 1997 الخروج الى الحياة العامة لم يملأ الا صفحتين أو ثلاث من سيرة الحياة التي تقرب من ان تكون كاملة. في العمر الذي تخطت به الثلاثين، وقد تزوجت خلاله فريدة وأنجبت وطلقت وتمكنت بعد ذلك من العيش مع ابنها بمفردها، في ذلك العمر تبدو الحياة كما لو انها اكتملت أو تمّت. كأن لا شيء مما سيحدث بعد ذلك قابل لأن يُروى. ذلك الاستقرار الذي توصلت اليه فريدة جعل الحياة اشبه بسطح واحد لا علو فيه ولا انخفاض. لقد حصلت على شقة تقيم فيها بمفردها مع ابنها، وربما حصلت على عمل ايضاً ستذهب اليه من الشقة كل يوم، ثم تعود اليها منه كل يوم ايضاً، وهكذا حتى تمتلىء فسحة الزمن الممتدة المستوية على شاكلة سطح الحياة المستوي. ما هو قابل لأن يُروى من الحياة سبق حصوله: الطفولة، الأب، الأخوة الصغار، الموت، الزواج والخيانة والإنجاب، ثم الألم من ذلك كله. الألم ايضاً، شأن الرواية، سبق حصوله وبات في الماضي المرويّ. وهذا يحصل في داخل البيوت وليس في خارجها. في الصفحتين أو الثلاث التي تخرج السيرة فيها الى الحياة العامة يبدو الاجتماع الحزبي مثلاً كأنه منعقد في لا مكان. أما مداره فأساسه الكلام الذي يتردد بين المتخاطبين في حوار الرواية من دون فواصل. هكذا، كأنه كلام لا يستحق التأمل السردي الذي به يرتفع الراوي عن الكلام المقال لينفعل به أو ليحلله أو ليرده الى سياق حياته الداخلية. كأن المشاركة في العمل الحزبي، أو كون المرأة عضواً في حزب، ليس إلا من نوافل الحياة ومكملاتها. لم يبق كثير من ذلك في حياة فريدة وآلامها. بل ربما كان الأدب أبقى من الحزبية إذ هو ملازم للألم ومكمّل له. في اوقات من حياتها كانت فريدة تنفرد بنفسها من اجل ان تكتب، لكن من دون ان تكون غاية ذلك معاودة الخروج، بالكتابة، الى الحياة العامة. الكاتبة سهام بدوي تكمل اتجاهاً كان قد بدأ في الرواية العربية منذ السبعينات قوامه قلب المجال الروائي الى البيوت والحياة البيتية. مع هذا الاتجاه الذي شارك فيه كتاب مثل عبدالحكيم قاسم في الأخت لأب ومحمود الورداني، ويوسف ابو رية بعد ذلك، لم تعد الرواية هي "سفر الخروج" أو سيرته. في كتابات نجيب محفوظ كان الميل، في مرحلة الستينات، نحو الابتعاد عن البيتية التي ظهرت في "الثلاثية" و"بداية ونهاية" وزقاق المدق"، والذهاب نحو الموضوعات العامة التي وسمت مرحلة محفوظ التالية في روايات "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" وحتى "اولاد حارتنا". سنوات الستينات كانت سنوات ادخال السياسة الى الكتابة بل هيمنتها عليها. صارت الدولة والمجتمع موجودان كمجالين أساسيين ومجرّدين الى حد ان روايات كثيرة أجرت تقسيمات رمزية على المجتمع المصري فمثلت شخصيات طبقات كاملة ونابت منابها. ولم يقتصر ذلك على الرواية المصرية فقط بل وسم الكتابات العربية جميعها، بنثرها وشعرها بميسمه ذاك. في الموجة العالمية تلك بدت الحياة العربية وكأنها تؤخذ من سطحها لا من قاعها، سطحها المصنوع من الخطابة والتخيّل والافكار التي لا جذور قوية لها. سهام بدوي في روايتها تكمل ذلك الاتجاه الذي عادت فيه الرواية الى قاعدة كانت لها سابقاً في الرواية العربية، وإن لم تكن متعيّنة أو مسمّاة فيه، في اتجاه الكتابة من داخل البيوت وحميمياتها. كان عليها ان تذهب الى أعمق لكي تجد محلا لها في ما تكمل فيه. في سنة صدور كتابها، 1997، كتبت في التلمساني رواية ذهبت هي الاخرى الى عمق حميمي غير مسبوق. في رواية دنيازاد للتلمساني لم يبد ان حائلاً يمكن ان يعترض الكتابة. الأكثر حميمة والأقرب الى صلة المرأة بنفسها هو جسمها الذي، فيما كانت كاتبة دنيازاد تمعن في وصف ما أصابه من جراء عملية الولادة الدموية والفاشلة في الوقت نفسه، بدا كأن محرماته وممنوعاته ترفع عنه. وقد استطاعت التلمساني ان تشخصن ذلك الجسم، اي ان تجعل له ذاتاً روائية. وهي، الى ذلك، رفعت آلامه وجراحه ومخاضاته دليلا على آلامه وأوجاعه فقط، هكذا من دون ان يكون لذلك مؤدّى اجتماعياً أو جنسيا بمعنى التمييز بين جنسي الرجل والمرأة سهام بدوي تذهب الى مشاهد واوصاف اخرى من هذه الحميمية. هنا، في روايتها، لا نقرأ عن فكرة الموت بل نقرأ عن الموت نفسه. لا عن الخيانة بل عن فعلها الذي لم يعد ارتكابه نهاية الأرب بل أوّله. وما يحصل بين المرأة والرجل في مخدعهما المغلق يُرى هنا في الرواية ويُشاهد حتى وإن انفصل الرجل بذلك ونأى بنفسه جانباً ليكون، في ذلك، بمفرده. أحسب ان هذه الدرجة من "التجرؤ" لن يقاربها، بخلاف ما قد يكون معتقداً، الا الكاتبات. شيء ما يجعلهن قاصدات ان يعدن بالرواية الى البيوت وهو انهن يبدين به كأنهن يأخذن الرواية الى حيث هنّ. أو الى حيث افتُرض لهنّ ان يكنّ. أي ان ذلك، على حميميته، لا يخلو من عقيدية. انها أخذ الرواية الى البيوت، وفي الوقت نفسه، تعيين ذلك بداية. كأن الكاتبات يقلن ان ما يكتبنه ليس واحداً من التنويعات الجارية في الرواية بل هو بدؤها. بدؤها الحقيقي إذ من هنا تنطلق البدايات، من حيث يبدأ المرء، أو من حيث يولد. انها حياة كاملة تلك التي بدت سهام بدوي كأنها تعيد جمعها بإلصاق نُتف منها الى جانب نُتف. الحياة الكاملة التي، إن أزحنا الشهوة والولادة وحاجة الجسم الى ما يحتاجه، لا يبقى منها شيء كثير على أي حال. وهذه، للنساء العائدات الى البيوت بعد خروج قليل منها، وقد تولّد احتجاجاً بيتياً بديلاً من الاحتجاج العام الذي يبديه الحزبيون المنخرطون في الحياة العامة. من شخصيات سهام بدوي لم يبق رجل بمنحى من الغضب واللعن: الزوج والعشيق، وحتى الأب المتراوح بين نوازع الرغبة والكراهية. من غفرت لهن الرواية، من جعلتهن قريبات متضامنات برغم اختلافهن، هن نساء الرواية جميعاً. ليس الأم والأخت فقط بل ايضاً زوجة الاب وأم الزوج، هاتان اللتان، في العادة، لا تستقيم حياة الا بعزلهما وإبعادهما