1 حتى ولو كان الحال لا يقبل بالصمت، فأنا، هنا، مع الصمت، ولأجله. كلمات معدودات. تجنبني الكلام. متجهة رأساً. الى طبقات الصمت، وهي تتألف. هادئة. عبر محطات لا أعرف عنها شيئاً. وذلك ما يُحبّب لي الصمت. مقاطع من الصمت، التي أود ان ترافقني. في حياة أصبحت مشوَّشَةً. الى حد مزعج. ومن ثم فإن الصمت الذي أرغب فيه يتطلب شجاعةً في المضي اليه. خروجاً على أيام لست متأكداً من أنها ستتغيّر كثيراً. فيما لو أبقيْتُ على ما يعارض أنفاسي. ذلك الصمت. البعيد. المرنان. المتخلص من الحاجيات التي تستدعي الكلام. هو ما أرغب في الاقتراب من طبقاته. كما لو كانت تشيِّد بيْتاً من غُرف. والغرف. كلها فارغة. عندما أدرك الحاجة الى الصمت فمعناه أن ما بيني وبين العالم أصبح مُهدَّداً. وأن لا بد من الجلوس قريباً. من شخص يشبهك. وتحس مع ذلك انه منفصل عنك تماماً. تجلس لتتفرّس في تقاسيم الوجه. وحركات اليدين. وهيئة الجسد. متمدّداً. أو متكئاً. على وسادة. هناك ما يدفعك لتترك العينين حُرّتين. ما يبتغيان الوقوف عنده. هو تلك اللحظة التي لا يعود الجسد فيها يحتاج للكلام. اللحظة التي تغشى الجسد غمامة زرقاء. ومن كل ناحية تصفو الزرقة. فلا كلام بعدها. ولا أمامها. تبحث عن الجهات فلا تبصر إلا اللون. وأنت قريب من الجسد الذي يشبه جسدك. حركات بطيئة لا تدلّ على وَلَع بمغادرة المكان. هدوء في المفاصل. وفي عظم الأمشاط دبيب. تحسه يتدفق. إذن. لك هنا ما أنت تسعى إليه. تسميه الصمت. في كلمات. لا تختلط عليك. الصمت. نعم. ص.م.ت. وتلك الحروف تكفي لأن تفتتح الطبقة السابقة على مرحلة الدخول في الصمت. ألست داخلاً الى بيت. وللبيت غرف. وطبقات؟ لا تنْسَ أبداً أنك ستحُلّ ضيْفاً على الصمت. وأنك لأجل ذلك تهيأت من قبل. عندما داهمك المشوش. في حياة. يومية. تعجز عن السكون إليها. إنك ترفض ذلك تماماً. رغم ما تتظاهر به. لحظتُك. الأولى هي الصمت. فيه نشأتَ وفيه تأخذ على عاتقك أن تضاعف الطاقة. خشْيةَ أن تصبح الحياةُ المشوشَةُ هي آخر ما يتبقّى لك. دليلُك على ما تخشاه هو هذا المآل الذي لا يستطيع آخرون الانفكاك منه. وإني لأعجب من تحمل حياة مُشوَّشَة. رغم أننا لا نجد. ما يسمح لنا بمقاومتها. ننصاع للهدير اليوميِّ. وفي العلاقات المنشبكة بيننا وبين غيْرنا. أو بيننا وبين الأشياء. تضيع فرصةُ ان ننصت الى ذاتنا. وهي ترغب في صمت. لا تتخيل أين يمكن له أن يتحقق. في غرفة. في ركن حديقة. في خلاء. في عيادة طبيب. في مقصورة قطار. في الدرج الأخيرة من سلّم الطابق العلوي. لا تتخيلُ بسهولة. والفرصة تضيع. لكي لا تتجدد. هكذا. الأيام تمضي سريعة. وفي كل مرة لا تدرك أن ما ضاع من أيامك لن يعود فيما هو لم يكتب أيُّ معْنىً. عشْتَ تقولُ. ولا تتأكد من كونك عشت. حقّاً. وثائقُك ناقصة. دائماً. لتدل على عيشك. في زمن. سرعة ما مضى. هي سرعة ما سيأتي. وفي الحالين معاً. تفتقد مُتّسعَ الوقتِ الذي فيه تصبح سيّدَ جسدِك. تتأمله. أو تتفرس في تقاطيع تشبه تقاطيع وجهك. وأنت لا تكترث. 2 ليس الصمت. رغبةً. بلْ هو ضرورةٌ. الصمت يقابله الكلام. كلام المثقفين. عادة. ولماذا الكلام؟ اعتقد أن مهمة الكاتب هي الكتابة. أما الكلام. فمهمة مختلفة. ولا شأن للكاتب بها. عليَّ أن أكون واضحاً. بهذا الشأن. غالباً ما أجد نفسي. محْشوراً في ما أنا لا أعرف كيف أتصرف. فيه. ولا أتقنه. الكلام. أنت في حالات متكررة. مُطالب بأن تتكلم. عمّا تكتب. عمَّا لا تعرف. أو لا ترغب فيه أصلاً. الكلامُ. عن أيِّ شيء يبدو لغيرك أنه مما يلزمك به عملُك. الكتابةُ. يأتي صحافي. ويشرع في إرغامك على الكلام. عما لا علاقة لك به أصْلاً. حتى ولو كان ما تكتبه. ذلك هو منطق اللقاءات الثقافية التي تفاجأ فيها بأنك كائن منذورٌ للكلام. لا للكتابة. من هنا يبدو لي الصمت ضرورة. بمثل هذه الضرورة. يصل كاتب. الى التمييز بين أرضه وبين لاَ أَرْضِه. وهذا طبيعي جدّاً. في ممارسة الكتابة. ومعرفة حدود ممارسة الكلام. لماذا أكون كل مرة مُجبراً على الكلام؟ أليس هناك ما يتناقض وما عليَّ أن أفعله؟ أسأل نفسي. ولا أتهاون في تأنيبها. كلما تورطتُ فيما هي تنكره. أصْلاً. بدءاً من الجلوس في مكان لا يسمح بالحرية الشخصية الى التقيد بما يرغمك الآخرون عليه من الموافقة. ولو بهزِّ الرأس. في سياق تنفر فيه من العالم الذي يحيط بك. يخطف الحواس. السمع. البصر. ولا تفكر إلا في النزوع الى صمتِكَ. الصّمْت. نتجنّب تناول قضايا كنا من قبل مفزوعين بها. الكلام في القضايا السياسية. تلك كانت وضعيّتنا. في أكثر من نصف الكرة الأرضية. قبل عشرين سنة. فالأنظمة السياسية. كانت متنوعة تخشى حرية التعبير السياسي. حتى في الولاياتالمتحدة. التي تقدم نفسها نموذجاً للحرية الليبرالية. تبيّن أن مراقبة الكلام السياسي. تفوق مراقبة أنواع الجرائم التي تُهدِّدُ الحياة العامة للناس. لا يظن أحد بأن مراقبة كهذه قد تمَّ الغاؤها. ولكن هناك ما تغيّر. في مجتمعاتنا. في العالم. أيضاً. وهناك دون أن ننسى وسائل. لم تكن متوفرة. في السابق. على أن هناك أنظمة تبيّن لها أن مراقبة بعض الفئات الاجتماعية لا تفيد. وأن فعلها ضغطٌ نفسيٌّ. لم تعد لها به حاجة. بهذا الاعتبار يصبح الصمت. الذي أتناوله. يعني ما يناقض. منْعَ حرية التعبير. في الأمكنة العامة أو في العلاقات الشخصية. من قبل كانت الدعوةُ الى الصمت يمكن تأويلُها كابتعاد عن كل ما يدفعك للسقوط ضحية ما تتكلم عنه. بصيغة واضحة. أو ضمنية. أحياناً. ولنقُلْ بأن ذلك العهد قد تولَّى. إلى حد بعيد. لك اليوم أن تسمع كلاماً. كان من قبل يُعتبَر دليلاً على معارضة سياسية. فإذ هو مجرد تعبير عن رأي لا يثير حساسية زائدة. بحجم الكلمات. وبدلالتها. ما تغيّر ضَبطَ حدودَ الكلام. مثلما. جعلَ المتكلّم لا يشعر بالضيق الشديد. وهو يعبر عن رأيه. 3 ذبذبات الصمت. وهي تنشأ. بهدوء. في جسدك. يمكنك أن تتخيل أين أنت تجلس أو تقيم. في حقل من أشجار الزيتون. ومنحدر بطيء يغريك بالنزول الى نهايته. في الوادي. في الصباح الباكر. أو بعد تراجع حرارة منتصف النهار. طريق يسهل أن تقطعها. وحيداً. بين أشجار الزيتون. وطبقات الصمت. هناك. مثلاً. وغير هناك. أيضاً. يصبح الصمت مادة ينتجها المكان. تنتجها الطبيعة. كما تنتجُ مواد غيره. وأنت تطوف بحرية في شساعة المكان. وبين أشجار الزيتون. التي تزداد كثافةُ خضرةِ أوراقها. هناك تتأكد من أن العالم يمكن أن يكون بصيغة مغايرة. وأنه يمكنك أنت الآخر أن تعيش زمنَك. كاتباً. لا متكلِّماً. وبدخيلتك أشجارُ زيتونِك. وشساعتُك التي تنشئها لنفسك. لهذا الصمت لغةٌ مجهولة. إنها تبتعد عن لغة الحنين التي مارسها رومانسيون في نهاية أحلامهم. اللغة المجهولة التي يجود الصمت بها علينا هي لغة لا نعرف مبتدأها الا عندما نكون أصبحنا منفصلين عما يشوّشُ الحياة. شرْحُ ذلك لا يفيد. دائماً. إنها ملاحظة. لا نتوقعها. خاصة إن نحن لم نكن نجرب ما معنى الحاجة الى الصمت وألا يدلنا شيء. كالكتابة. على ما للصمت من فاعلية في فتح مغالق الكتابة. هذه اللغة المجهولة نكتشفها وهي تنبعث في الجسد. حاملة معها شكْلاً حيّاً للوجود. إنه التأمل الذي لا يترك فرصةٌ تمضي من غير أن يستثمرها في اعادة النظر في الأشياء المحيطة بنا والعوالم الخفية فينا. ولعل البعد الاستكشافي للصمت هو ما يجعله عسيراً. فنحن ننْفرُ منه لأننا نادراً ما نعتقد في الكشف عن المجهول فينا. نفضل ما نلهو به تزجيةً للوقت. أي ابتعاداً عن الدخيلة التي تُحرق ما تبقّى من الكلمات اللامعنى لها. أو هي تختار طريقة خاصة في التعامل مع العالم. فنحن في الصمت لا نعالج ما ينصبُّ عليه اهتمامنا بالطريقة التي نختارها. تلك هي اللغة المجهولة التي يفاجئنا بها الصمت وهي في حضرة الصمت. كل مرة نتخطى العتبة الأولى للصمت نحس بسلسلة من الحالات التي تخترقنا وتقودنا الى ما لا نتوفر عليه في الحياة المشوَّشَة. كي ننفذ الى المجهول الذي هو ما لسنا ندري. وفي كل مرة أفكر في الفرق بين الحالين. ما قبل الصمت. وفي الصمت. تنتابني رعشة أحسها تسري في كامل أعضائي. وأنا لا أتحكم في شيء منها. هل كل ما يحدث للجسد في لحظة كهذه هو ما أجرب فيه إمكانية أن أسمعَ وأُبصر؟ لكأنّ كل سمع وكلَّ بصر في لحظة أخرى لا يعوّلُ عليهما. وعندنا تزداد الرغبة في معاودة اختبار مدى تأثير الصمت في الجسد واللغة معاً. وتلك حكمة أن تبحث عن صمت كريم. 4 قد ترى السماوات تمرُّ سريعة. في شريط سينمائي. وأنت تتفرّس في كثافة الصمت. لا تأسفْ كثيراً على ما أنت فيه بل احملْ جسدَك على أنفاسك الحرة وامض به الى هناك. لا أقصد مكاناً بعيداً عن المكان الذي أنت فيه. بل. إلى. حالتك. التي. انتظرتها. ولم تتردد في الافتتان بها. وأنت تعلم أن بينك وبينها جسراً صغيراً. أو بين العالم المشوش والصمت مسلكاً يخفَى على العابرين الذين لم يتمرسوا على ترك الطرق الكبرى واتخاذ المسالك الخفية طريقاً لبلوغ ما لا يعرفون. لأجل ذلك الجسر. أو ذلك المسلك. غالباً ما يمر الجسدُ بتجاربَ لا مفرَّ منها. كي يرتقيَ قليلاً. مدارجَ. الصمت. وأنت لا تخشى جسْراً ولا مسلكْاً. إنك بهما. فيهما. تقيم. من أجل الصمت الذي يكسوك برحمة. هي كل ما تترجّاهُ. في حياة يتضاعف طُغيانها. تجلس عند الجسر تنظر تهيُّؤَ الجسد كي ينحل في الصمت. ذائباً. من شدة إرادة أن ينتقل الى حالة مناقضةٍ لما هو عليه. لا مسرعاً. بل ذائباً. وهو يدخل الفضاء الجسدي. مغموراً بغمامة زرقاء. هي الإسم. والحالة معاً. وأنت لا تصدق كيف انتقلت من هناك الى هنا. عبر جسْر صغير. أو مسلكٍ. في طريق عمومية. ولا شيء يحجب عنك هذا الصمت الذي اختبره السابقون عليك. أمواتاً. وأحياءاً. على لسانك: شاهدُون. 5 مَنْ تذكّرتَ الآن وأنتَ تتأمل صمتَك. الصمتَ؟ لو سألتُ نفسي السؤال ذاته لما تبينت معنى لما أنا سائلٌ عنه. وها أنا أنظر الى كل حرف من حروف السؤال. وهو يجتمع بضده. ويتآلف معه في اكتشافب المعنى المحيِّر. للتذكر في الصمت. تذكُر مَنْ؟ بيني وبين نفسي السائلة فراسخُ تتراءى لي وكأنها مسافة تفصل الواقعي عن الخيالي. بدون تمييز بين ما هو واقعي وما هو خيالي. رعشةٌ تخترق الأعضاء. وفيها تسمعُ من كنت تتذكّرهم. واحداً. واحداً. هؤلاء الذين لم يفارقوا الصمتَ. خشْية أن تفقد الكلمات معانيها. في صدورهم. وهم يستنطقون المجهول الذي كان سيدهم، سيبقى. لهم. وحدهم. في حالات الصرخة. البكاء. الابتسامة. الغناء. هي جميعها تتقدم منهم. وهم في حالة الصمت ينشئون العالم الذي هُوَ لَهُمْ. علاماتٍ وأدلةً. فما الذي جعلوك تنصت إليه؟ وبأي صمت قطعتَ الجسْر إليهم. في صمتِكَ. الصّمْت