1 لعل البوح أقصر الطرق الى الجريرة. ذلك هو ما نفيده من حياتنا الثقافية. والاخلاقية العامة التي تسيجنا في مجتمع. عربي. لم يتعود بعد. على ما لدلالة الشكوك من قوة في بناء الافكار. اي في هدم ما يتراءى لنا حقيقة وهو. ليس كذلك. مجرد تخمينات ألفناها في ممارساتنا او مجرد فرضيات. أعلينا من شأنها. دون ان نكون بالضرورة. من منتجيها. لا نتشبث منها بالمبدأ. بقدر ما نمجد النتائج. وهو ما علينا ادراك الفروقات في صياغته والتعبير عنه او تمجيده. هي خلاصة لها الشمول في ما نتداوله. فكراً وسلوكاً. مرغمين انفسنا على تطبيق ما لم نختبر مقدماته. وما لم نعش الطرق المؤدية اليه. في انتاج الافكار وتعميم السلوكات. مهما كان نمطها. ومهما كان حقل تشخيصها. بهذا المعنى احاول ان أتقدم. عبر حوادث الكلام. من المناطق المعتمة في الكلمات. وهي تأخذ احجاماً متزايدة من الشكوك في نفسي. هل هو الحدس وحده ما يقود خطانا نحو المعرفة؟ انه هو وليس هو. في آن. بمعنى ان الحدس يفتح للعلم ما لا نعرفه من قبل وفي الآن ذاته يحتاج للسند المعرفي المفضي الى القناعة او الشك. وتلك بديهية تكاد تتردد على لسان كل المشتغلين في حقل المعرفة. باتساع مداراتها. حوادث الكلام. أقول. وأنا أقصد ما يتعرض له الكلام من عوارض وأعطاب في الانتقال من اليقين الى الشكوك. وفي ذلك عبرة لي. على الأقل. وأنا أنظر الى ما لا علم لي به بنوع من اليقظة. رغم ما يمكن ان يدفع اليه من تأويلات. يبتعد عنها خطابي. او خطاب المعرفة وهو يتشكل في عبارات. تعصف احياناً بكل ما لدينا من تراكمات المعرفة. ولم لا؟ اواجه نفسي. ان حوادث الكلام من احسن ما تجعلنا المعرفة نصطدم به. كلما حاولنا ان نسأل. بل ان السؤال ذاته من حوادث الكلام. في جوهر النطق والتفكير. بل في أسس الحساسية أيضاً. عبر نوعيات الانتاج الابداعي الذي يتسع ويتنوع. لفظاً وإشارة وأدوات. انها جميعها تلتقي في الاصطدام بالعام والمجمع عليه، في فترات تمر بها المجتمعات كما تمر بها الممارسات الفنية والخطابات العلمية. دونما اغفال لأهمية الذوات المبدعة نفسها. امثلة لنا في الثقافات وفي تاريخ المجتمعات والافكار. من الآداب والفنون الى الديانات والمعارف والنظريات. وليس بعد. هذا ما يحتاج ابداً الى التبني او التأكيد عليه. لأنه واقع مثبت في تاريخ لن يتخلى عنا حتى ولو رغبنا في نبذه والقذف به الى الجحيم. ذلك المسعى الحر. الموسوم بالفوضوي من قبل من لا خيال لهم. هو من تجسيده الحيوي. ملازم للانسان. ولننظر قليلاً الى ما تعلمناه كآراء وأفكار نهائية ثم ما لبثنا ان تنازلنا عنها لفائدة ما لم يكن لنا به علم. مغامرة محمومة بها كبرنا ونحن نتمرس على الاعتقاد ونفي الاعتقاد. في غيبة عن وعينا. احياناً. ولربما كنا نكتفي بعبارات موجزة تدل على ان ما كنا نعتقده مجرد هراء. او مجرد افكار بالية. بهذا وغيره من التعابير تعاملنا مع تداول الافكار وتهيأنا لحساسيات. وعشنا سلوكات. لا تخشى شيئاً ايها المقيم في الشك وأنت تنظر الى التاريخ اكثر مما تلتفت الى ما سيحاكمك به اهلك. وليكونوا أقرب الناس اليك. وهم لا يدركون انهم انما يصدرون عن افكار اكتسبوها. في الدفاع عما يناقض شكوكك ولا معرفتك. 2 لا علم لي. وأنا هنا لا اخلط بين اللاعلم. وبين الجهل. هذا ضروري قبل ان استأنف ما أود طرحه امام نفسي. وهي تتأمل في نهاية قرن ونهاية افكار. في اليومي وفي الفني. في الفكري وفي العلمي. في السياسي وفي الاخلاقي. الا اخلط بين اللاعلم وبين الجهل يفصلني عن الذين يحرفون المعرفة. المعارف. عن مقاصدها من اجل تبرير إحلال الجهل محل المعرفة.. وانطلاقاً من موقف كهذا يشرعون في جز رؤوس العباد. علانية. بأحكام الشريعة او احكام المعارف. فجز الرؤوس واقعياً لا يقل بشاعة واجراماً عن جزها رمزياً. لأن الجهل في الحالين هو ما يقود الى اعتبار الاحكام من غير ادراك لأسسها. فضلاً عن الضحايا الذين يسقطون وحيدين ليموتوا وحيدين. عدم الخلط. إذن. ولا بد لي من الخروج الى مساحة تبتعد عن الجهل كي اعلن راقصاً. انا الأمي. الساكن في مناطق الشك. شطحة لا تعبأ بالأخلاق العامة. المتعلقة بالحديث عن الأمية كنقيصة. وكنقيض لما يجب ان يتصف به المثقف. كما يقولون. ومن أدراهم اني مثقف؟ تلك صفة لم تعد تحمل لدي ما كانت تتزيا به في عهود البداهة. والبداهة ليست من شأني. هناك في السديم. أقيم. باحثاً أبداً. مسافراً أبداً. قلقاً. أبداً. حتى لا أرض اطأها الا ومن تحتها النيران تلتهب. في عز الجلال. نعم. انني أراني هناك. مغموراً بطبقات الصمت. وفي كل كلمة من كلماتي. احس الأموات يكلمونني. بدفء لساني. توضيح يعنيني كثيراً. في الفرق بين اللاعلم وبين الجهل. عدم التوضيح قد يؤدي الى جزر الرأس. رمزياً. على الأقل. على مرأى ومسمع المجتمع الثقافي. عندما يصبح بدوره مؤسسة لها قوانينها. ولها العتبة التي بدونها لا نستطيع الدخول الى عالم الثقافة. حيث الافكار والقيم موزعة على الفاعلين الثقافيين، عبر عصور يمكننا ان نعيشها في لحظة واحدة. هي اللحظة التي نوجد فيها. منجذبين الى زمننا والى الفعل الثقافي ذاته. لأن تاريخ الثقافة حي على الدوام. في كل ما نفعل وكل ما نكتب وننتج. وهذا ما يضاعف من أهمية الواقع الثقافي ومن التعامل معه في آن. 3 انها لعبة بالكلمات. ولكنها لعبة مسؤولة. فأنا لا املك الا الكلمات. بها يتحدد وجودي ومصيري. من قبل كنا نقرأ ان الكاتب او الشاعر مالك للغة. وله ان يفعل بها ما يشاء. وهذا. باعتقادي مناقض للمسؤولية. تماماً. في الاختبار المتواصل للعلاقة مع اللغة. يبدو لي هذا الامر عبثياً. وهو يدل. قبل كل شيء على ما كان الكاتب والشاعر يتوهمه من سلطة لا حد لها على اللغة. ان اللغة وديعة. تسلمناها من السابقين لكي نسلمها بدورنا للاحقين. وهي بذلك وديعة لا ملكية. فالوديعة تتطلب مسؤولية الامانة على الوديعة. في لعبة مسؤولة. بكلمة. بكلمات. لأن ادعاءنا اللعب بكل الكلمات. يكاد يبدو لي مستحيلاً. قد نحرك جسد حرف. جسد. حركة. او جسد تعبير. هذا او ذاك هو مصدر الطاقة التي نجدد بها اللغة وبها نبتعد عن قتل اللغة. الوديعة. لعبة مسؤولة. اذن. والتفريق بين اللاعلم وبين الجهل يندرج ضمن هذه اللعبة. التي تسائل تاريخاً بكامله لكلمة الأمية. مثلاً. في تراث مخصوص. هو العربية. متجنبين الترجمات التي عادة ما تحرف اللعبة عن مسؤوليتها. تلك هي اهمية الغيب كما تتحدد في اللغات. بعكس ما نود ان نختزل اليه اللغة الى وسيلة للتعبير. فتتساوى اللغات في استعمالنا لها. وهي ليست كذلك بمجرد ما نقدم على ممارسة لعبة مسؤولة. أي عندما ندرك خطورة كلمة الوديعة وندرجها في سياق التعامل مع اللغة ومع القيم في آن. بعيداً عن التقنوية التي تنتصر في محيطنا الثقافي. وتخضعنا، شيئاً فشيئاً الى قانونها. أي باختصار الى قانون الاستهلاك. لا علم لي. تعبير يتنصل من البداهة المعممة. يتخوف من الزج بالفعل الكتابي في محيط الاستسلام. ثم لا شأن لنا. بعد ذلك بالاسئلة المقلقة لزمننا. حيث كل شيء يفترض عملية التفكير الجدي. المسؤول. في الكتابة وفي علاقتنا بالكتابة. هل الأمر موقوف على قوانين قبلية. سابقة على الممارسة ذاتها؟ لا اعتقد في ذلك. وما يدفعني اكثر الى الاحتراس في الموافقة على المتداول هو ما احسه. احساسي بالأشياء وبالعالم. سابق على المعرفة. تلك هي الحكمة التي حصدتها من حياة في الكتابة. لا أتخلى فيها عن مساءلة ما اكتب، في الكتابة ذاتها. من فترة الى فترة. حيث الاموات لا يفارقون السؤال عما افعله باللغة. وأنا اليهم أنصت أحياناً. وأحياناً. اعجز عن استيعاب ما يقصدون. فلا اخطف من كلماتهم سوى اشارات تفضي الى الشك. وتلك نعمة ان اكتب. وأن ارحل. حتى لا عودة. مطلقاً. 4 كلام مجرد. كلام معمى. كلام. وليكن. من يصف خطاباً كهذا بالتجريد او بالتعمية. يطالبني. تأكيداً. بما يريده هو. بما يراه محسوساً. واضحاً. وله الحق تماماً. في المطالبة بالتخلي عن مثل هذا المسلك في كتابة الآراء وعرضها على الناس. اني انصت جيدا لهذا الاعتراض. دون الحرص على الادلاء بجواب مقنع. فالدخول في مجال الاقناع هو بحد ذاته خروج على منطق العمى. منطق السديم. الفرق الموجود. بيننا وبين القدماء هو ان زمننا اصبح موسوماً بحرية التعبير. او بالاحرى بالدفاع عن حرية التعبير. فيما الامر قديماً كان يفصل بين خطاب العامة وبين خطاب الخاصة. اتقاء الشرور التي يهيئها المسؤولون لكل من ينادي بالكلام المجرد او المعمى. ولنا ان نكتسب قليلاً من الشجاعة. في الاعلان عن افكارنا. ولو كانت عديمة الاغراء. ولو كانت تبدو وكأنها لعبة لا مسؤولة. فيها يستطيع كل متلاعب ان يستلم حق الكلام ويفعل في اللغة ما يشاء. عبثاً. متواصلاً. والأمور. على نحو كهذا لا يمكن ان تساعد في رج القناعات. والخروج على ما نقدمه باستمرار كطريقة مثلى. وحيدة. للتعبير عن الافكار. سواء كانت صادرة عن المفكرين ام عن الادباء. ان نضع حدوداً بين الاثنين لا يعود الى الخطابات. بل يعود الى تراتبيتها وتصنيفاتها. من لدن مؤسسة الثقافة. وارثة القوانين. التي بها نميز الخطأ من الصواب. الشجاعة التي اقصدها هي بالذات تلك التي لا تخضع للتصنيفات المعمول بها في تداول الخطابات. وهي تلك التي لا تفرق بين خطاب الخاصة وخطاب العامة. ولكل شخص ان يبحث بحريته عن الخطاب الذي يعتقد انه خطابه. او التعبير عنه. ان شئنا التدقيق. لا علم لي. تعبير مجرد. وهو في الآن ذاته يبدل الرؤية الى المثقف الذي عليه ان يعلم. كل ما عليه ان يعلم. من معارف زمنه. الثقافي. ولكن ما هو زمني الثقافي؟ بهذا السؤال احاول الجدل. منطقياً. اوجهه لنفسي وهي تجادلني في الاقدام على تمجيد. العمى. السديم.الفراغ. الأمية. ماذا تريدين اكثر ايها النفس القلقة؟ ان الخشية من البوح بمثل هذه الكلمات يرعبك. ربما. لأنك لا ترغبين في ازعاج المطمئنين. ومن يطالبون بالاطمئنان. نفس قنوعة بما يتهيأ لك من كلام. في العلن المباح. وأنت هناك. تجوبين اراضي لا اعرف حدودها. سمات اولى تأتي وتذهب. بين الكلمات. 5 بهدوء أتأمل ما أفكر فيه. منذ سنوات. قليلة. وفي هدوئي اسمع اصواتاً تناديني. من قريب. من حنجرتي تصعد. تختلط فيها اصوات الاموات بأصوات الاحياء. وفي الدخيلة صراع لا يتوقف بين ان اقول وأن لا اقول. بين أن أبارك العلم. الذي به تتحدد المواضعات الثقافية. الادبية. الشعرية. وبين ان أترك ما يتدفق متدفقاً. على جسدي. املس في الصباح. صراع عبر عن نفسه حينا بضحكات. وأحياناً بصمت. لا ادرك اغواره. اللانهائية. لا علم لي. لغة بها اتعلم كيف استنطق زمني في الكتابة. وهو ينحفر. سديماً. فراغاً. عمى. لن امجد شيئاً لا يعثر على مستقره في الدخيلة. اي في المهاوي السحيقة. حيث لا يعطى الا لمن يستحق ان يأخذ. وهو دائماً هناك. في الرحيل الابدي. زمن يتقدم وزمن يمضي. امواج متعامدة تشطر اللسان. وفي كل مرة. لا علم لي. رحيل. في الاصلي. نسغ اسئلة الكتابة.