الأميركيون، مثل غيرهم من الشعوب، منهمكون عادة في مشاكل حياتهم اليومية - العمل، كلفة تعليم الأطفال، القلق على المعاش - إلى حد لا يترك مجالاً للتفكير في الدور الكبير الذي تلعبه بلادهم في شؤون العالم. الصحيح أيضاً ان هذه القارة بعيدة تاريخياً وجغرافياً عن مشاكل أفريقيا وآسيا وحتى أوروبا. انها كتلة أرضية هائلة تعزلها المحيطات عن بقية العالم، لا تكاد غالبية سكانها تجد علاقة مباشرة بالخطوات التي تتخذ بإسمها في الخارج. واذا كان السكان يجهلون غالباً ما يجري، فإنهم عندما يعرفون لا يجدون سوى المعلومات التي يوفرها نظام اعلامي ايديولوجي مهمته ابقاء تصور ل "أميركا" يضفي عليها هالة من الطهارة وإنكار الذات ويعتبرها مصدراً لكل ما هو خير. من هنا لا مجال للتساؤل عن الأهوال التي توالت وتتوالى بانتظام، وتتمثل بأعمال الغزو والإبادة ودعم الديكتاتوريات والتدخل المخاتل كما في السنين الثلاثين الأخيرة التي انفردت فيها الولاياتالمتحدة بدعم سوهارتو وبطانته. بل ان كل هذا يعتبر أساساً لإشاعة العدل في عالم مكوّن من دول صغيرة مشاكسة أو قوى تشعر بالغيرة مثل فرنسا والصين اللتين تحاولان سرقة "نفوذنا". لا غرابة إذاً ان نجد خلال دورة كأس العالم الحالية موجة الابتهاج العالمية بخسارة الولاياتالمتحدة مباراتها مع ايران، واضطرارها الى الخروج من الدورة حاملة صفة الفريق الأسوأ في العالم. ان هناك في انحاء العالم موجة عاتية من العداء لأميركا، يطلقها سلوك واشنطن الذي يجمع ما بين العجرفة والشراسة واللاجدوى. لكن المفارقة هي ان حتى الدول الأوروبية، ناهيك عن الدول العربية ودول مثل الهند وباكستان ودول اميركا اللاتينية وغالبية آسيا وأفريقيا، لا تحاول الدخول في حوار على اساس التكافؤ مع الولاياتالمتحدة. خذ مثلاً عادة واشنطن المشينة في فرض العقوبات على الدول التي لا ترضيها، او التي تسمها بالدول "الارهابية" أو "الخارجة على القانون" أو "المنبوذة". انها قائمة تطول يوماً بعد يوم، والكثير منها السودان، سورية، ايران، العراق دول مسلمة، فيما تعتبر واشنطن قسما آخر منها، مثل الهند وباكستان، التي فرضت عليها العقوبات من طرف واحد في فورة من النزق، دولاً أقل قدراً تعاني من التأخر وليست تماماً "مثلنا" في الرقي. أما العراق فيخضع منذ 1991 لأقسى عقوبات عرفها العالم، أدت الى قتل مئات الألوف من الأبرياء، فيما تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها تريد، بعنجهية بشعة، إبقاء العقوبات الى الأبد. جوهر هذه السياسة هي السادية وليس ضمان الأمن، لأن حتى أقرب الجيران الى العراق، الذين لهم ما يكفي من الدوافع ليخافوا نظام صدام حسين البشع، لا يقولون انه يشكل خطراً عليهم. مع ذلك تستمر الولاياتالمتحدة في طرح اعتراضاتها على أية محاولة لتخفيف العقوبات، بلا مبالاة وتناسٍ كاملين لسجلها كالبلد الذي سبب القدر الأكبر من الدمار في التاريخ. خلال ذلك تستمر واشنطن في مساندة النظام الجزائري، وهو بالتأكيد مسؤول عن انتهاكات واسعة لحقوق مواطنيه، بغض النظر عما إذا كنا نرى أنه يحاول الحفاظ على القانون والنظام أو انه نفسه يقوم بأعمال القتل لإدامة وجوده المريض. لكن للجزائر نفطها، وهذا هو ما يهم الشركات الأميركية القوية، وهي الآن شريكها التجاري الأكبر، ومن هنا فهي ليست "دولة منبوذة". بالمقابل فرضت الولاياتالمتحدة عقوبات اقتصادية من طرف واحد على الهند وباكستان بعدما اجريتا تجاربهما النووية اخيراً. وجاء هذا على رغم أن أميركا هي الدولة التي اجرت خلال ال 55 سنة الماضية العدد الأكبر من التجارب النووية، وهاجمت اليابان بالسلاح النووي وقتلت هناك مئات الألوف من المدنيين. لكنها ترفض حتى الاعتراف بعملية الابادة البشعة تلك. وعندما اراد معهد سمثسونيان اقامة معرض عن هيروشيما وناغازاكي، من ضمنه القاذفة "اينولا غاي" التي ألقت السلاح النووي، ثارت عاصفة من الاحتجاج في الكونغرس ومن المجموعات "الوطنية" في انحاء البلاد وأجبرت المعهد على إلغاء المعرض. واعتبر منتقدو المعرض أنه يشكل هجوماً على أميركا. إن شعارهم هو "بلادي، سواء كانت مخطئة أم مصيبة"، أي أنها دوماً على صواب. إنها ظاهرة تنفرد بها الولاياتالمتحدة، على رغم ان غالبية الدول بالطبع تحاول ان تزرع في اذهان مواطنيها أنها الأفضل وأن ثقافتها وتقاليدها هي الأنبل. وبفضل حجمها فاقت أميركا كل ما سبقها من الامبراطوريات في التدخل في انحاء العالم. على سبيل المثال، رفضت واشنطن انتخاب آربينز رئيساً لغواتيمالا في 1954 معتبرة انه شيوعي، وأشعلت المعارضة تحت رعاية اميركا المباشرة حربا أهلية قضت على نحو عشر السكان. كما تحاصر الولاياتالمتحدةكوبا اقتصادياً منذ اربعين سنة، ليس بسبب خطرها على أميركا - وكيف يمكن ذلك وهي جزيرة صغيرة ضعيفة الاقتصاد مقارنة بالعملاق الأميركي - بل لأن السناتور جيسي هيلمز وزملاءه من فلوريدا يكررون دوماً "نريد اخراج كاسترو من هناك"، وكأن ليس من معنى لوجود كوبا، أو أي بلد آخر، سوى الخضوع لرغبات الولاياتالمتحدة. لكن ما تمتاز به الولاياتالمتحدة هو وجود آلية لمحو الذاكرة في الحيز العام لم تخضع حتى الآن لتفحص كافٍ من جانب المثقفين، وهم في غالبيتهم، مع استثناءات مهمة، يتفقون مع الفكرة السائدة وهي ان أميركا بلد فريد من نوعه له مهمة خاصة في العالم. وهكذا فإن خطايا اميركا تبقى دفينة في ذاكرتها، ويعاد دفنها كلما تمكن من نبشها باحث أو فريق حريص على الحقيقة. يتماشى مرض النسيان في الذاكرة العامة هذا مع طقوس للاعتراف بالذنب والتعبير عن الندم نشهدها بين حين وآخر. من بين هذه كان العرض الذي قدمه وزير الدفاع الأسبق روبرت مكنمارا، وهو من المخططين الرئيسيين لكارثة فيتنام، تلك المجزرة الكبرى التي ارتكبتها الولاياتالمتحدة من اجل "إثبات الذات" ليس الاّ، وقتلت فيها، مستعملة احدث تكنولوجيات تعرفها الحرب الى ذلك الحين، وعلى مبعدة الوف الأميال من شواطئها، نحو ثلاثة ملايين فلاح في جنوب شرق آسيا واحرقت أراضيهم ودمرت بلداتهم وقراهم. فقد أصدر مكنمارا قبل سنتين كتاباً اعترف فيه، مع الكثير من مظاهر ممجوجة للندم وعذاب الضمير، بأنه كان على خطأ. هكذا، بكل بساطة، فإن مقتل ملايين الفيتناميين وما يزيد على خمسين ألف عسكري أميركي لم يكن سوى "غلطة". المثير للانتباه، اذا وضعنا جانباً اكتفاءه المشين بالاعتراف كان الأجدر به ان يسلم نفسه الى السلطات كمجرم حرب، ان الكتاب اعطاه فرصة غير محدودة للظهور على شاشات التلفزيون لكي يستعيد بالتفصيل كل أكاذيبه وقراراته السيئة. الأبشع في كل هذا كان اصراره على ان "خطأه" كان مخلصاً لاحظ: هذا الخطأ المرتكب بحسن نية، لكن الذي استمر 15 سنة وعبر ادارتين. تأثير طقوس الاعتراف هذه، اضافة الى اعطاء مكنمارا فرصة طرح اكاذيبه وتبريراته، كان تأكيداً أن سلوك اميركا الاجرامي كان بدوافع نزيهة مثل تخليص العالم من الشيوعية... الخ، وليس طرح السلوك والدوافع على التساؤل. عندما نأتي الى اسرائيل تاركين اندونيسيا ولاوس وكمبوديا والبوسنة وتشيلي وايران وغرانادا وبنما والكثير غيرها من الأماكن التي تتحمل اميركا فيها مسؤولية ارتكاب الارهاب الدولي فهناك شعور متعالٍ بأن الولاياتالمتحدة تساند جانب الحق والعدالة والأخلاق والسلام، وكل تحدٍ لذلك هو ارهاب. لكن الارهاب ليس ارهاباً عندما ترتكبه اسرائيل. من هنا فان اعمالاً مثل قصف جنوبلبنان والاحتلال العسكري وضم الأراضي وسلب شعب بكامله، لا تستحق اهتماماً من جانب اميركا، التي تصر على انها وحليفتها اسرائيل تكافحان من اجل السلام والعدالة، ولا شيء غير هاتين الفضيلتين الأميركيتين الأصيلتين. المشكلة هي اننا كعرب لا نبدو أبداً راغبين في مواجهة الولاياتالمتحدة فكرياً واخلاقياً في أشكال تسلط الضوء على الجرائم التي ارتكبت ضدنا. اكرر منذ مدة ان الجهل الفاضح بالولاياتالمتحدة في العالم العربي - الجهل خصوصاً بنظام الاستغلال الأميركي ووحشيته المنظمة ضد غير البيض في العالم - وهو ما يتركنا عرضة للوهم القائل بأن اميركا هي الحكم الوحيد، وهي القوة العظمى الوحيدة، القادرة تبعاً لذلك على اعطائنا حقنا. جوهر صعوبتنا هو الانقسام المؤسف للعالم العربي، حيث يفكر الحكام انطلاقاً من اضيق المصالح ولا يولى أي اهتمام للطريقة التي تُستخدم بها الدول العربية ضد بعضها بعضاً وتتعرض للانتهاك والسرقة والتلاعب بشكل مستمر. وفي منظور المؤسسة الحاكمة في اميركا لا نزال اولئك "العرب"، الذين يبدون مثل كتلة بشرية غير مميزة من البدو الذين يرتدون العمائم ويميلون كثيراً الى التطرف والعنف. اننا نطوّر غرائزنا الاستهلاكية اكثر من تطوير مواهبنا الثقافية والعلمية، ونُظهر قدراً كبيراً من العجز وعدم الكفاءة، كما يتجلى في اجتماعات قمة نعلن عنها من دون انقطاع ودولة فلسطين الجديدة ومخاطر جديدة لتفجر الوضع، لدرجة اننا نعجز عن التعامل جدياً حتى مع انفسنا. لا يمكن التصدي لأميركا بشعارات جريئة وبشراء مزيد من الاسلحة الجديدة منها. فمثل كل شىء في عالمنا العلماني هذا، يجب ان تواجه الولاياتالمتحدة بشكل تفصيلي وتُفضح سياساتها وتُرفض مواقفها. ما الذي يعنيه الاستجداء غير اللائق الموجّه الى الولاياتالمتحدة كي تواصل "عملية السلام" المتعفنة، بعدما احال نتانياهو والولاياتالمتحدة الامر كله الى وضع يُرثى له كما كانا يريدان دائماً، وما الذي تمثله هذه المناشدة المشينة لاحياء العملية سوى أنها اعتراف مزرٍ بالعجز والاذعان؟ لماذا لا تعلن الدول العربية خطة سلام خاصة بها - يتفق معها العالم كله - وتبرهن للعالم كله ان أي قدر من خداع اميركا أو وحشيتها لن يحرفنا عن تصميمنا؟ احسب ان الانتظار إلى حين التوصل الى قرار كهذا يشبه انتظار ان يتوصل القادة العرب ومن في معيتهم من مخططي السياسة وصناعها الى الاستنتاج بانه اذا كنا نحتاج الى شيء الآن فهو اعادة تقويم كاملة لسياساتنا تجاه الولاياتالمتحدة، بدءاً بتحليل نقدي لاوغاد على شاكلة هنري كيسنجر الذي يتوق أي عربي اليوم الى التقائه وتناول الفطور معه. ولكم ان تتخيلوا أحدهم وهو يقول بطريقة مضجرة: "كما ابلغني كيسنجر أمس ونحن نرتشف فنجان قهوة". * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا