بينما كانت وزارة العدل الأميركية تهيئ دعواها القضائية ضد شركة مايكروسوفت على أساس مخالفتها أحكام القوانين الأميركية التي تحرّم الاحتكار، عملت الشركة على تجنيد عشر شخصيات ينشطون في الضغط على الأوساط الحكومية المعنية، ونظمت مؤتمرات صحافية ولقاءات احتجاجية، وأصدرت شجباً حاد اللهجة أكثر من مرة لما تنوي الحكومة الأميركية فعله. وباختصار شديد شنت الشركة ما يعادل حرباً شعواء من وجهة نظر الصناعة التكنولوجية على الحكومة الأميركية. وبالمقارنة مع هذا كله، أصدرت شركة "انتل" الشهر الجاري، رداً على قيام مفوضية التجارة الفيديرالية الأميركية بإعداد دعوى قضائية ضدها بتهمة مخالفة أحكام القوانين التي تحرم الاحتكار، بياناً بسيطاً مؤدباً مهذباً قالت فيه: "نتعاون مع الحكومة وسنواصل التعاون معها. فالحكومة تقوم بما يتعين عليها القيام به ونحن نحترم حقها في ذلك". وخلال الأسابيع التي مرت منذ رفعت الحكومة الفيديرالية دعواها القضائية ضد انتل، واصلت أكبر شركة في العالم كله تصنع الشرائح التمسك بأهداب الصمت اجمالاً وتمنعت عن الدفاع عن نفسها أمام الجمهور الأميركي العريض إلا لماماً وبعبارات مبسطة مقتضبة. وفيما كان ممثلو مايكروسوفت يضغطون باندفاع وبما يشبه العدوانية على الكونغرس والإدارة الأميركية، لم يستطع أحد أن يرى أثراً لانتل إلا في مقر مفوضية التجارة الفيديرالية. قصف ويقول أحد كبار المساعدين لأعضاء الكونغرس الأميركي، الذي عادة ما يكون هدف "القصف" الذي يوجهه ممتهنو الضغط لصالح أصحاب المسائل المرتبطة بمكافحة الاحتكار: "لم أتلق أي شيء من انتل. وفرغت لتوي من تنظيف حقيبة وارداتي ولم أجد فيها أي شيء من هذه الشركة". ويفسر تشاك مالوي، الناطق باسم انتل، الذي قررت إدارة الشركة أن يكون صوتها الوحيد المتحدث عن موضوع دعوى الحكومة ضدها، هذا الصمت من شركته فيقول: "لا نعتقد ان اقامة حوار عام علني تفيد أية جهة في هذه القضية". لكن محادثات أجريت وراء الأبواب الموصدة مع كبار المسؤولين في انتل، ومقابلات مع محللين يتتبعون شؤون الشركة، توحي بأن الصمت مدفوع بأسباب وعوامل معقدة. ومن هذه العوامل ان كبار العاملين في انتل يعتقدون ان حملة مايكروسوفت العدوانية أو المندفعة الصاعقة في مجال العلاقات العامة أخفقت وكان لها مردود عكسي أو سلبي. ويقول مايكل سليتر، رئيس تحرير نشرة "ذي مايكروبروسيسر ريبورت"، المتخصصة في شؤون صناعة الشرائح: "يعتقد كبار العاملين في انتل ان مايكروسوفت أضرت بنفسها بمقدار ما أحسنت لنفسها وللآخرين، وخلفت مايكروسوفت انطباعاً عاماً لدى الناس مفاده أنها متعجرفة صلفة". ويقول درو بيك، أحد محللي شؤون التكنولوجيا لدى شركة "كووان اند كومباني": "تعلمت أنتل من مايكروسوفت وأدركت ان كثرة التعرض للأضواء تقلل من الخير الذي قد يعود عليها في الأخير". ويتفق أحد كبار العاملين في أنتل مع هذا التحليل. فبعيد قيام مايكروسوفت بتنظيم "حشد شعبي" في نيويورك في مطلع أيار مايو الماضي، تحدث فيه وليم غيتس وآخرون من كبار العاملين في الشركة حاضين الحكومة الأميركية باندفاع وقوة على عدم التدخل في شؤون صناعة البرامج، تساءل هذا الناشط الكبير في انتل بضحكة خافتة شبه ازدرائية: "هل بوسع أحد ان يتصور أندي يقف ليفعل ما يفعله غيتس"؟ وكان الرجل يشير بذلك إلى أندي غروف، كبير المسؤولين التنفيذيين في أنتل وقتها، الذي يحظى باعجاب كبير واسع النطاق واحترام في صناعة الكومبيوتر، على اعتبار أنه ينافس بحدة وبشدة ولكن بنفس سمحة وبذوق سليم. ولا يعني هذا ان أحداً يقول إن كبار العاملين في أنتل متواضعون ويؤثرون الغير على أنفسهم، أو يؤثرون البقاء في الظل على الظهور في دائرة الضوء، أو يؤثرون العمل الدؤوب الصامت على التباهي بما يفعلون والاشارة الدائمة إليه. ويقول ريتشارد شيفر، أحد كبار المسؤولين في شركة "تكنولوجيك بارتنرز"، الناشطة في مجال الأبحاث في صناعة الكومبيوتر: "يتباهى كبار العاملين في أنتل بأنفسهم وبشركتهم بالمقدار نفسه الذي يتباهى به كبار العاملين في مايكروسوفت بأنفسهم وبشركتهم، ويتمسكون بغرورهم وبطاووسيتهم بالمقدار نفسه أيضاً، ويغالي كبار العاملين في أنتل في شعورهم بأنهم على حق بالمقدار نفسه الذي يغالي به كبار العاملين في مايكروسوفت في شعورهم بأنهم على حق". لكن شركة أنتل لا تُظهر إلا القليل من هذا أمام الناس. ويقول سليتر: "لا تحب أنتل أن تتحدث عن أي شيء آخر سوى الانتاج والمنتجات". أهمية حاسمة ويقول محامو أنتل إنهم يعتبرون ما تنتهي إليه دعوى مفوضية التجارة الفيديرالية ذا أهمية حاسمة بالنسبة لمستقبل الشركة. ويذكر أن الحكومة الأميركية تتهم أنتل بأنها تهدد ثلاث شركات تنتج أجهزة الكومبيوتر وتلحق ضرراً بهذه الشركات بغية إجبارها أو من طريق اجبارها على التخلي عن حقوق ملكية فكرية خاصة بها، وذلك بواسطة تمنعها عن اعطاء هذه الشركات معلومات فنية عن آخر ما تنتجه من شرائح. وتصر أنتل على أن لها الحق كاملاً في إبقاء سيطرتها كاملة "ناجزة" على ما تبتكره من تكنولوجيات. ولهذا ستواصل ردها على دعوى الحكومة القضائية إلى المحكمة الأميركية العليا إذا دعت الضرورة. لكن عدداً من المحللين يشترك مع كبار المسؤولين في أنتل في لفت الانتباه إلى ان الشركة تواجه تهديدات أكبر من تهديد دعوى الحكومة الخاصة باتهامها بمخالفة أحكام القوانين التي تحرم الاحتكار. ويقول بيك: "تحاول الشركة معالجة وضع شائك جداً لم تشهده صناعة الأجهزة الشخصية من قبل، وهو وضع يتمثل في التسعير" في سوق الأجهزة الشخصصية التي يقل ثمن الواحد منها عن ألف دولار. وفي هذا المجال يحرز منافسو أنتل تقدماً كبيراً فيما تشهد أسهم الشركة كساداً كبيراً منذ فترة من الزمن، فقد أغلق السهم الواحد من أسهمها الجمعة الماضي على 1875،76 دولار، أي بتراجع نسبته أكثر من 25 في المئة عما كان عليه من قمة منذ اثنين وخمسين أسبوعاً. ويقول بيك: "بالنظر إلى التحديات الأخرى التي تواجهها الشركة حالياً، لا تشكل الدعوى القضائية رأس الأولويات. وأنا لا اعتقد أن أنتل ترغب في أن تكون ضحية اختبار المسائل المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية". ويكتفي مالوي بالقول: "لقد قررنا أن تنظر المحاكم وحدها في هذه المسألة". ومنذ عشرة أيام ردت الشركة على المحكمة قائلة إن الشركات المذكورة في الدعوى القضائية، وهي كومباك وديجيتال واكويبمنت وانترغراف، هي شركات زبونة وليست منافسة، ولهذا فهي ليست متضررة بموجب القوانين الفيديرالية التي تحرم الاحتكار. ولا يقبل مالوي ما يقال من ان استراتيجية أنتل هي رد فعل مباشر على طريقة مايكروسوفت في معالجة الأمور. وكانت أنتل أصدرت بياناً صحافياً في الرابع والعشرين من أيلول سبتمبر معلنة فيه ان مفوضية التجارة الفيديرالية أعلمت الشركة أنها فتحت تحقيقات وذلك قبل قيام وزارة العدل الأميركية برفع دعوى قضائية ضد مايكروسوفت بعدد من الأسابيع. وكانت لهجة ذلك البيان الصحافي هادئة هدوء البيانات والتعليقات الصادرة أخيراً عن الشركة. وجاء في البيان الصحافي: "قالت الشركة إنها ستتعاون إلى أقصى حد ممكن مع مفوضية التجارة الفيديرالية في تحقيقاتها". وخلص البيان بعد ذلك إلى قول ما أثبتت الأيام انه كان تفاؤلاً في غير محله، إذ جاء فيه: "في 1993 وبعد تحقيقات مماثلة، خلصت مفوضية التجارة الفيديرالية إلى أن نتائج التحقيقات لا تسوغ القيام بأي تدابير اضافية، ولهذا اغلقت هذه التحقيقات، وتتوقع أنتل من التحقيقات الجارية حالياً ان تنتهي إلى ما انتهت إليه التحقيقات السابقة".