أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    أمريكا تختار الرئيس ال47.. ترمب أم هاريس؟    مقتل 37 فلسطينياً.. مجزرة إسرائيلية في قطاع غزة    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأّس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    الولايات المتحدة تختار الرئيس ال47    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل كان من الممكن التراجع عن وعد بلفور ؟. سياسة وزارة المستعمرات البريطانية في فلسطين 1921 - 1923 1 من 2
نشر في الحياة يوم 02 - 05 - 1998

تركز هذه الورقة على الدور الذي لعبته "دائرة الشرق الأوسط" في وزارة المستعمرات البريطانية في تشكيل سياسة فلسطين من بداية عام 1921 حتى أيلول سبتمبر 1923، حينما بدأ سريان مفعول الانتداب على فلسطين. وتعرض الدراسة جهود الدائرة لتحييد "المعارضة من الداخل" أي المعارضة التي كان يقودها تيار من السياسيين وأعضاء البرلمان والصحافيين في داخل انكلترا التي كانت آخذة في التصاعد ضد سياسة الوطن القومي اليهودي. وتبرز هذه الدراسة أيضاً التناقض بين معاملة دائرة الشرق الأوسط للوفود العربية المتعاقبة وحرية الدخول المتميزة التي منحت للصهيونيين، وتخلص إلى أنه إذا كان ثمة أوقات خلال هذه الفترة كان يمكن فيها إسقاط تلك السياسة المؤيدة للصهيونية، فإن جهود دائرة الشرق الأوسط كانت مسؤولة إلى حد بعيد عن استمرارها في دعم تلك السياسة. وتنشرها "الحياة" في مناسبة احتفالات حكومة بنيامين نتانياهو بذكرى مرور 50 عاماً على اعلان "دولة إسرائيل".
على رغم تبني حكومة لويد جورج الثابت لسياسة وعد بلفور كسياسة رسمية، اتسمت السنوات الأولى من الحكم البريطاني لفلسطين بقدر كبير من الشك. فبعد عام من الهدوء، أظهرت أعمال الشغب التي وقعت في يافا في أيار مايو 1921 مدى معارضة العرب لسياسة الوطن القومي اليهودي الذي دعا وعد بلفور إلى انشائه في فلسطين.
كان الجيش البريطاني، الذي بقى في فلسطين كقوة لحفظ الأمن عقب انشاء الإدارة المدنية في تموز يوليو 1920، مناهضاً علانية للسياسة الصهيونية. أما الصحافة البريطانية، التي أيدت من البداية سياسة الوطن القومي اليهودي، أصبحت منذ وقت مبكر من العشرينات أكثر نزوعاً إلى الشك إن لم تكن معادية بقوة، وكانت هناك حركة معارضة لوعد بلفور داخل البرلمان البريطاني آخذة في تحقيق نجاح ملحوظ. وحينما تولت حكومة من حزب المحافظين الحكم، على هذه الخلفية، مع نهاية عام 1922، بدا ان ثمة امكانية حقيقية لنقض السياسة المؤيدة للصهيونية، واستمر سيل من التحقيقات الحكومية في تلك السياسة حتى وقت متأخر من عام 1923، بيد أنه في أيلول سبتمبر من تلك السنة دخل الانتداب على فلسطين - الذي كان وعد بلفور جزءاً لا يتجزأ منه - حيّز التنفيذ، وأصبح قانوناً حين صدقت عليه عصبة الأمم. وهكذا، أياً كان التأثير الايجابي الذي حصل في بريطانيا من أجل تغيير السياسة الصهيونية في فلسطين، فإنه انتهى فعلياً مع بداية الانتداب.
ويتناول المقال جانباً من هذه الفترة المبكرة تجاهلته الدراسات السابقة عموماً، وهو الدور الذي لعبته دائرة الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات في استمرار ودعم السياسة البريطانية المناصرة للصهيونية، على الرغم من المعارضة الشديدة التي لقيتها من سياسيين ومسؤولين انكليز في لندن وفلسطين.
دائرة الشرق الأوسط
انشئت دائرة الشرق الأوسط Middle East Department في شباط فبراير 1921 بمبادرة من سير ونستون تشرشل، الذي أصبح لتوه وزيراً للمستعمرات، للاضطلاع بمسؤولية المناطق الناطقة بالعربية التي باتت خاضعة للحكم البريطاني غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى. ولما كانت تلك المسؤولية قسمت في السابق بين وزارة الخارجية Foreign Office فلسطين، مصر، الحجاز، وعدن ووزارة شؤون الهند India Office العراق وشبه الجزيرة العربية، اعتبر انشاء دائرة واحدة في وزارة المستعمرات Colonial Office تطوراً مهماً من وجهة النظر الإدارية. ومهما يكن، فإن الانتقال، بالنسبة لفلسطين، من كنف وزارة الخارجية إلى وزارة المستعمرات، كانت له نتائج سياسية سلبية: ففي حين كان وزير الخارجية اللورد كيرزون العضو الوحيد في وزارة لويد جورج الذي لديه تحفظات قوية للغاية على سياسة الوطن القومي اليهودي، وكافح لتطبيق أكثر التفسيرات تقييداً على وعد بلفور، كان تشرشل مؤيداً لا يلين للصهيونية. وعلى رغم شكوك اللورد كيرزون ومعارضته، حظي وعد بلفور بالتأييد في مؤتمر سان ريمو في نيسان ابريل 1920 وبرز في معاهدة سيفر Sevres الموقعة في آب اغسطس 1920 عاهداً إلى بريطانيا رسمياً بالانتداب على فلسطين - بانتظار تصديق عصبة الأمم عليه. وتم دمج وعد بلفور أيضاً في وثيقة الانتداب، وكانت مسودات متتالية من وثيقة صك الانتداب ما تزال، وقت إنشاء دائرة الشرق الأوسط، خاضعة لإعادة النظر.
وفي ما يتعلق بفلسطين، كانت مهمة دائرة الشرق الأوسط مراقبة وتنفيذ سياسة بريطانيا، والعمل كحلقة وصل بين صنّاع السياسة في لندن وبين الإدارة المدنية في فلسطين. كانت الإدارة المدنية انشئت تحت رئاسة هربرت صامويل كأول مندوب سامٍ بريطاني في فلسطين في تموز 1920 لتحل محل الحكم العسكري القائم في فلسطين منذ الاحتلال البريطاني في 1918، وعهد إلى الإدارة المدنية الجديدة تحديداً بتنفيذ وعد بلفور بشأن انشاء "وطن قومي يهودي". وعن طريق تعيين صامويل - الذي ساعد الصهيونيين في الحصول على وعد بلفور وقام بتمثيلهم في مؤتمر السلام في باريس في كانون الثاني يناير 1919 إلى جانب الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن - كان لويد جورج رئيس الوزراء اختار "عمداً" كمندوب سام في فلسطين يهودياً صهيونياً متعاطفاً "وذلك بهدف العمل على تحقيق النجاح للمشروع الصهيوني".
وعلى العكس من الإدارة المدنية في فلسطين، التي كان أهم ثلاثة مناصب بها يشغلها صهاينة يجاهرون بهذه الصفة، غصت دائرة الشرق الأوسط بموظفين مدنيين تقليديين محترفين جرى استدعاؤهم من دوائر حكومية متنوعة. وجلب تشرشل لرئاسة الدائرة الجديدة السير جون إيفلن شكّبره Shuckburgh من وزارة شؤون الهند بعد أن عمل هناك لمدة 21 سنة. أما هيوبرت يونغ، وهو مستعرب وخبير في شؤون الشرق الأوسط لدى "الدائرة الشرقية" Eastern Department في وزارة الخارجية وعمل مع توماس ادوارد لورنس، فكان من الناحية الرسمية سكرتيراً مساعداً مشاركاً Joint-Assistant Secretary، إلا أنه في الواقع كان يعد "الثاني في القيادة"، وانضم لورنس نفسه إلى الدائرة كمستشار سياسي. وجاء آخرون من وزارتي الخزانة والحربية ومن قسم بلاد ما بين النهرين بالعراق لدى وزارة شؤون الهند ووزارة الخارجية. ومن بين كبار الموظفين كان الكولونيل ريتشارد ماينرتزهاغن Meinerzhagen الذي عين مستشاراً عسكرياً في دائرة الشرق الأوسط، هو وحده الصهيوني المجاهر بصفته هذه، وكانت عاطفته قوية إلى حد أن لجنة بالين التي شكلت للنظر في أسباب أعمال الشغب التي وقعت في القدس في عيد الفصح عام 1920، رأت أن من الملائم ان تخصص فقرات طويلة له في تقريرها النهائي في تموز 1920. ووصف التقرير، بين أمور أخرى، ماينرتزهافن بأنه "الدعم الرئيسي للصهاينة" و"مرشح الدكتور وايزمن الذي يكشف تحامله التام المعادي للعرب وتحيزه لمصلحة الصهيونية عن أنه كعميل، مهما كان قادراً على أداء الأعمال الجيدة في مجالات أخرى، فإن وجوده غير ملائم في الشرق بشكل لافت للنظر".
تفاخر ماينرتزهاغن في ما بعد بأنه حالما انضم إلى دائرة الشرق الأوسط نجح في تحويل هيوبرت يونغ وجون شكبره من مستعربين إلى مؤيدين للصهيونية، وهو زعم كان يمكن لكليهما بالتأكيد أن يجعلاه مثار نزاع. مع ذلك، فإنه من الصحيح أنه في صيف عام 1921، وفي غضون أشهر من انشاء الدائرة، صاغ يونغ مذكرة قام تشرشل بتوزيعها على أعضاء وزارته، اقترح فيها، ضمن سياسات أخرى مؤيدة للصهيونية، إبعاد كل المسؤولين المدنيين المناهضين للسياسة الصهيونية من إدارة فلسطين. وفي الوقت الذي كان من الواضح أن يونغ تأثر بقوة أثناء زيارته لفلسطين في ذلك الخريف بما بلغه الفلسطينيين من فقدان كل ثقة في "نزاهة" الحكومة البريطانية، إلا أنه استمر حين عاد إلى لندن في الضغط بقوة باتجاه السياسة التي وصفها من قبل بأنها غير شعبية إلى حد بعيد.
أما شكبره، فلم يكن صهيونياً وإن جرفه من البداية اعتقاد بأن الواجب يفرض على بريطانيا أن تستمر في مساندة سياسة وعد بلفور، مصراً على أن هذه السياسة لن تؤدي إلى انشاء دولة يهودية. وكانت تلك مبادئ مخلصة بلا شك، غير أنه مما لا جدال فيه أيضاً أنه كان يجري استمالته ببراعة من قبل وايزمن، الذي كان حاضراً في كل مكان وزمان خلال السنوات المبكرة إلى حد أنه كان هو الذي أبلغ موظفي وزارة الخارجية في برقية ارسلت من مؤتمر سان ريمو بقرار بريطانيا إحلال إدارة مدنية محل الإدارة العسكرية في فلسطين. وبشهادته نفسه، كان شكبره يرى وايزمن "باستمرار" حين كان الأخير في انكلترا. ويتحدث كاتب سيرة وايزمن عن "اذعان شكبره غير العادي له". إذ لم يكن على وايزمن إلا أن يهدد فقط بالاستقالة من المنظمة الصهيونية، وبذلك يترك الحركة بين أيدي "العناصر المتطرفة" حتى يقدم شكبره كل ما يمكنه من المساعدة لإفساح الطريق له.
تقارير ميدانية من فلسطين
سواء أكان الأمر وليد اقتناع أم مجرد وسيلة للتغطية، بدت دائرة الشرق الأوسط من البداية عاقدة النية على التهوين من شأن التقارير الميدانية المتعلقة بغضب العرب واستيائهم، التي كان يأتي معظمها من قيادة الجيش البريطاني نفسه. وهكذا، ففي الوقت الذي كانت فيه الاستعدادات تجري لإنعقاد مؤتمر القاهرة الذي دعا إليه تشرشل في آذار مارس 1921، وكانت فلسطين على جدول أعماله إلى جانب العراق وشرق الأردن، كانت دائرة الشرق الأوسط مصرة على أنه ليس في فلسطين ما يستدعي الاهتمام. ومع ذلك، فإن الدائرة كانت متهمة بالاطلاع على تحذيرات عديدة بشأن خطر الاضطراب الوشيك، بما في ذلك التقرير الذي ارسله مدير العمليات العسكرية في شهر كانون الأول ديسمبر 1920 إلى وزارة الحربية وتحدث فيه عن احتمال وقوع أعمال شغب في القدس ويافا وحيفا ونابلس.
انفجرت أعمال الشغب في يافا بعد شهرين فقط، وصدمت بحدتها السلطات المدنية، وحين سأل يونغ الجنرال كونغريف قائد القوات البريطانية في مصر وفلسطين أن يعلق على الموقف في فلسطين، كتب في تموز 1921 يقول إن أعمال الشغب لم تكن منظمة ولا متعمدة، وأنه "ما لم يتم الاصغاء إلى أماني العرب ولجم الاماني الصهيونية بشدة"، فلن يكون من المدهش ان تتطور الأمور إلى ما هو أخطر. وبعد أن لاحظ ان المندوب السامي سير هربرت صامويل "رأى وسمع فقط ما أراد أن يرى ويسمع" واستاء أي صامويل في الواقع من التحذيرات من السخط العربي المتزايد، خلص الجنرال كونغريف إلى أن: "الحقيقة التي يتعين علينا مواجهتها في أنه مادمنا قد أصررنا على سياستنا الصهيونية، فلا بد ان نُبقي على جميع قواتنا الحالية فلسطين بهدف فرض سياسة ممقوتة من جانب الأغلبية الساحقة".
وتلقت دائرة الشرق الأوسط في الوقت نفسه رسالة ممائلة من نائب ماريشال سلاح الطيران الملكي سالموند Air Vice Marshal Salmond، كما حذر تقرير آخر للاستخبارات في شهر تموز من أن هيبة الحكومة تتدهور بسرعة وان تجدد الاضطرابات الوشيك قد يحدث في أي لحظة من جراء "أي تصرف" من جانب الحكومة.
وبدا أن دائرة الشرق الأوسط كانت تنظر إلى تقارير كهذه على أنها نوع من التدخل السافر في عملها. واتهم ماينرتزهاغن الجنرال كونغريف، ارفع قائد عسكري بريطاني في الشرق الأدنى، معتبراً اياه "محرضاً منحازاً" Partisan Provocateur. بل أن ت. إي. لورنس، المستشار السياسي للدائرة، خامرته فكرة وجود "تحيّز شخصي وراء آراء كونغريف".
في مذكرة بتاريخ 24 أب كتب جيرارد كلاوزن، من موظفي دائرة الشرق الأوسط، معلقاً على تقرير آخر للاستخبارات العسكرية، أفاد ان الإدارة المدنية في فلسطين "غير شعبية"، يقول: "إن مما يثير أشد اعتراض انتاج غاز سام من هذا النوع في فلسطين ووصوله إلى وزراء الحكومة الآخرين من دون أن تراه هذه الوزارة أو حكومة فلسطين أولاً"، وما لا يثير الدهشة ان تقرير كونغريف وصف بأنه "غير دقيق" وطواه النسيان بسرعة. واتهم ماينرتزهاغن الاستخبارات العسكرية بعد شهر واحد ب "التجسس عملياً على الحكومة"، مضيفاً إلى ذلك أنه "كلما جرى الاسرع بجعل دائرة الاستخبارات العسكرية فرعاً من الإدارة المدنية، كان ذلك أفضل". وكان يونغ أوصى سلفاً بفصل القوة البريطانية العسكرية في فلسطين عن الجيش البريطاني في مصر.
وبلغ التوتر مع قيادة الجيش مداه حين سلم صامويل إلى تشرشل نسخة من نشرة مؤرخة في 29 تشرين الأول اكتوبر 1921 موجهة من القائد العام للحملة العسكرية المصرية إلى قائد قوات الجيش البريطاني في فلسطين، ولاحظت النشرة، بين أمور أخرى، أنه في الوقت الذي يفترض فيه رسمياً عدم الشغال الجيش بالسياسة، "فإنه في حال فلسطين، فإن هذه المشاعر المتعاطفة من جانب القوات البريطانية هي بصورة واضحة مع العرب، الذين ظهروا حتى اليوم للمراقب المحايد ضحايا سياسة ظالمة، مفروضة عليهم من جانب الحكومة البريطانية".
ولاحظت النشرة أيضاً أنه مهما كانت عدالة أو إجحاف هذه السياسة، فإن نوايا الحكومة صادقة، واعتبرت دائرة الشرق الأوسط تلك اللهجة هجومية للغاية. وأراد ماينرتزهاغن إثارة المسألة مع وزارة الحربية. أما وايزمن، الذي حصل على نسخة وبعث بها إلى رئيس الوزراء لويد جورج، وعلق بمرارة قائلاً: إنها كانت الأسوأ من بين كل الأمور "الشريرة" التي تعرض لها الصهاينة في الشهور الستة الأخيرة. ويذكر ان شكبره أوصى بعدم مواجهة وزارة الحربية بهذه المسألة، لأن "من المؤكد ان هذه الأخيرة ستسألنا عن الفقرات المحددة موضع اعتراضنا وعن الأسباب الدقيقة لهذه الاعتراضات"، وأضاف: "لست أظن ان الاجابة ستكون سهلة جداً".
على أية حال، كانت تلك هي الأيام الأخيرة للمعارضة العسكرية البريطانية للسياسة المؤيدة للصهيونية، فبعد ذلك بوقت قصير، دعا تشرشل وزارة الطيران لتحمل مسؤولية الدفاع عن فلسطين، وهي خطوة حالت دون أي احتكاك في ما بعد بين الجيش والإدارة المدنية. وأبلغ نائب ماريشال سلاح الطيران سالموند فعلاً من قِبَل يونغ بضرورة أن يكون "حريصاً جداً على عدم السماح لضباطه بالتدخل على نحو غير ملائم في الشؤون السياسية".
أول وفد عربي في لندن
في أعقاب أعمال الشغب التي حدثت في يافا في شهر أيار وأثر الخطاب المهم الذي أدلى به صامويل في 3 حزيران يونيو 1921 في القدس وأكد فيه أن وعد بلفور لم يكن يعنى أن فلسطين ستنتزع من عرب فلسطين و"تعطى للغرباء"، توجه وفد عربي برئاسة موسى كاظم باشا الحسيني إلى لندن على أمل إحداث تغيير ما في السياسة.
لكن شكبره، رئيس دائرة الشرق الأوسط، أوضح بجلاء حتى قبل وصول الوفد في مذكرة مؤرخة في آب 1921 الاسلوب الذي سيتبع في التعامل معه. فالعرب، لا بد أن يقبلوا كقاعدة لكل نقاش" أن لدى الحكومة البريطانية "نية ثابتة" للوفاء بتعهداتها في مسألة إنشاء وطن قومي لليهود.
وليس من المدهش، بالنظر إلى هذه القاعدة، عدم إحراز تقدم كبير في المحادثات. وتدلنا الوثائق الرسمية على طريقة تفكير شكبره التي انعكست على تعاملاته مع عرب فلسطين. ففي مسودة لتصريح رسمي واف Statement مؤرخ في 7 تشرين الثاني نوفمبر 1921 كان مقرراً أن يتبناه تشرشل لكن لم يوافق عليه، أكد شكبره أنه ما دام العرب اخفقوا في إدراك أن التخلي عن وعد بلفور "أمر غير وارد"، فإن أي مناقشة معهم في لندن كانت "محض اضاعة للوقت". قيل للوفد العربي مرة بعد أخرى: "إن السياسة الحالية كانت قضية منتهية" Chose Jugee، ولاحظ ان الحكومة "كانت قد تعهدت للصهيونيين تعهداً وثيقاً وأوضحت للعرب دائماً أنه ليس ثمة أمل في تحولنا عن هذه الغاية". وأضاف شكبره في مذكرة خاصة قائلاً إن التجربة برهنت على أن الوفد العربي كان "هيئة لا أمل في التعامل معها": فأولاً، إن أياً منهم بالكاد يتكلم الانكليزية، ولا بد من ترجمة كل شيء. ثانياً، كانوا بطيئي الفهم جداً، وربما كانوا ميالين للشك في ما بينهم"، وكانوا بعد حديث كثير غير مقنع، "يعودون إلى فندقهم وينتظرون إلى أن يأتي أحد مستشاريهم الانكليز ويخبرهم بما يقولونه". وانتهى شكبره إلى أن: "الوقت قد حان للكف عن الجدل وللإعلان بوضوح وبصورة رسمية عما نقترح عمله. ولكونهم شرقيين، فسوف يفهمون كلمة الأمر Being Orientals they will understand an order، وما أن يدركوا اننا نعني ما نقول، حتى يكون من المتوقع أن يذعنوا". وتكشف مذكرة شكبره المؤرخة في 7 تشرين الثاني 1921 التباين الصارخ بين تعاملات دائرة الشرق الأوسط مع كل من الصهاينة والعرب. فبعتد أن استبعد مخاوف العرب من "سيطرة سياسية يهودية" باعتبارها لا أساس لها، امتدح المؤتمر الصهيوني الأخير في كارلسباد "مشيداً بأسلوبه الحكيم ذي الحنكة السياسية". وإذ ألمح إلى التصريحات "الأقل شعوراً بالمسؤولية" الصادرة عن بعض الصهاينة، إلا أنه أضاف، في عبارات تذكرنا بشكل لافت للنظر بالأسلوب الذي ساد قرابة ثلاثة أرباع القرن اللاحقة ولا سيما التصريحات التي نسمعها هذه الأيام على ألسنة بعض وزراء الخارجية الغربيين: "إن اللغة الاستفزازية ضارة، لكن أعمال الاستفزاز أفدح ضرراً، وعند هذه النقطة أقول كلمة واضحة للزعماء العرب: إنكم جميعاً تعلمون أن أعمال عنف جديدة تفجرت في فلسطين مؤخراً، بعد مرور ستة شهور على اضطرابات يافا. إن أعمال العنف هذه لا بد أن تتوقف، ولا بد لي أن اعتبر الزعماء العرب مسؤولين عن ايقافها".
ومن ناحية أخرى، كان شكبره مستعداً لاسترضاء العرب بأمور تافهة، فحينما فاتحه اثنان من أعضاء الوفد بشأن موضوع يتعلق ببطريركية اليونانيين الارثوذكس في القدس، دوّن في مذكرة له أنه يجدر بالاهتمام نقل اقتراح العرب سراً إلى السكرتير المدني في فلسطين، إذ كلما كان بامكاننا استمالة هؤلاء الناس بأمور ثانوية، كان ذلك أفضل".
أما معاملة الدائرة للصهيونية فكانت مسألة مختلفة تماماً حقاً، كانت هناك شكاوى عن "ابتزاز" صهيوني. وفي بعض الأحيان كان يقع هياج في دائرة الشرق الأوسط بشأن تسريب أسرار، كما حدثت ازعاجات متكررة بسبب ميل "العناصر المتطرفة في الحركة الصهيونية" علاً إلى الاعلان عن نيتها في إنشاء دولة يهودية. وقد اشتكى شكبره في المذكرة المشار إليها اعلاه بتاريخ 7 تشرين الثاني نوفمبر من أنه "ما يكاد البريطانيون يعطون للعرب وعوداً أكيدة عن عدم نية بريطانيا انشاء دولة يهودية في فلسطيني، حتى يهب شخص ما في المؤتمر الصهيوني ويتحدث عن الموقع المتميز لليهود في دولة يهودية، محيداً بذلك تأثير لغتنا ومعطياً العرب سبباً للاعتقاد بأن بياناتنا المدروسة ليست سوى لغة جوفاء".
ومع ذلك، كان ثمة تدفق مستمر للمعلومات من دائرة الشرق الأوسط إلى الصهيونيين. ففي الوقت الذي كان شكبره يتعامل بصرامة بالغة مع الوفد العربي، كان "يطلع وايزمن سراً على المعلومات ويلح في الحصول على وجهات نظره حول الطريقة التي ينبغي أن ترد بها وزارة المستعمرات على المطالب العربية. وحين اقتضى الأمر، خلال خريف 1921، اجراء إعادة نظر لسياسة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ارسل شكبره سراً إلى وايزمن مذكرة خاصة بوزارة المستعمرات تلخص نتائج تقرير عن الهجرة أعده مدير دائرة الهجرة في فلسطين البرت هيامسون، وكان هذا الأخير قد رفض اطلاع الصهاينة عليه.
نجحت اللجنة الصهيونية The Zionist Commission في القدس في الحصول على نسخة بطريقة ما، وارسلتها فوراً إلى مكاتبها في لندن، لكن وايزمن كان في موقع المطلع على بواطن الأمور، ويبدو أنه شارك فعلاً، بناء على دعوة شكبره، في مراجعة وزارة المستعمرات لسياسة الهجرة منذ بدء الإدارة المدنية. والواقع ان مشروع المذكرة اعطي إلى وايزمن "للتعليق" عليه حتى قبل ارساله إلى المندوب السامي صامويل.
إن الطريقة التي استطاع بها شكبره أن يوفق بين سلوكه وادعائه المخلص، على ما يبدو، ب "الحياد التام والتجرد" يمكن العثور على مفتاحها في مذكرة 7 تشرين الثاني نفسها. وكتب فيها يقول إن السياسة البريطانية في فلسطين ترمي ليس إلى "تعزيز مصالح قسم معين من الشعب"، وإنما الفلسطينيين ككل، ف "الفلسطينيون" يفهم منها أنها تعني "ليس فقط أهالي فلسطين الحاليين، بل أيضاً مواطني البلاد في المستقبل الذين وعدهم تصريح بلفور بوطن قومي".
نجح الوفد العربي خلال شهور المحادثات العقيمة مع وزارة المستعمرات في تنمية اتصالات مكثفة مع أعضاء السلطة الحاكمة البريطانية، ومن جهتها فعلت دائرة الشرق الأوسط كل ما في وسعها لعرقلة هذا النوع من التفاعل، فبعثت برسائل عدة إلى كبار السياسيين البريطانيين الذين سعى العرب للاتصال بهم، وعلى سبيل المثال، تم ارسال خطابين في نهاية تشرين الأول 1921 إلى اللورد روبرت سيسل، الوكيل البرلماني للشؤون الخارجية Parliamentary Under-Secretary for Foreign Affairs، ودوق أتول Duke of Atholl لشرح حال الجمود في المفاوضات مع الوفد العربي، وكيف أنه في الوقت ذاته "كان الوفد يستطلع آراء أشخاص من ذوي النفوذ والاتجاهات المتنوعة على أمل الحصول على مساعدتهم وتأييدهم"، ولم ينصح تشرشل بمنح اعضاء الوفد "أية مقابلات كما يطلبون". وحمل خطاب إلى اللورد ساشبره Lord Southborough الرسالة نفسها.
وفي ذلك الوقت تقريباً، وبعد قصة نشرتها صحيفة "التايمز" في 16 تشرين الثاني 1921 عن حفل غداء أقامه الوفد العربي وقال فيه اللورد سيدنهام Lord Sydenham: "إنه ليس لليهود من حق في فلسطين أكثر مما لدى سليلي الرومان القدامى في هذا البلد". ارسل ماينرتزهاغن المستشار العسكري في دائرة الشرق الأوسط مذكرة إلى شكبره سجل فيها اسماء ضيوف الغداء وجميعهم من كبار الضباط ورجال الإدارة البريطانيين، ثم علق: "إن مما لا جدوى منه ان نفترض أنهم لم يكونوا على علم بالمغزى السياسي لحفل الغداء، حيث شكل حضورهم عملاً من أعمال التعاطف مع الوفد العربي، كما أنه يشكل في الحقيقة عملاً معوقاً لسياسة الحكومة".
أما شكبره، ففي الوقت الذي لاحظ في مذكرة ارسلها إلى وزير المستعمرات عدم وجود "شيء جنائي في قبول دعوة الغداء"، أضاف ان حضور ضباط كبار "لما كان، في الواقع، اجتماعاً للاحتجاج على سياسة حكومة صاحبة الجلالة إنما هو بالتأكيد أمر يؤسف له ولا يمكن إلا أن يعطي انطباعاً غير مرغوب فيه".
* ترجمة مقال نشر في Journal of Palestine Studies. Volume 27 Number 2,
Winter 1998 pp. 23-41
"Was Balfour Policy Reversible? The
Colonial Office and Palestine, 1921-1923"
** حائزة على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة مانشستر، وتعمل حالياً مديرة إدارة النشر في "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في الكويت. والمقال مقتبس من فصل في كتابها "ثقة منتهكة: هربرت صامويل، الصهيونية والفلسطينيون" 1920-1925 "A Broken Trust: Herbert Samuel, Zionism and the Palestinians" 1920-1925 ويصدر قريباً عن I.B. Tauris.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.