هناك عقول تستريح اليها وتلجأ الى ظلالها المثمرة وأنهارها العذبة، عقول تشبه الواحات وسط صحراء محرقة لا ماء فيها ولا حياة. وهناك عقول اخرى كالارض الخراب التي تحدث عنها ت. اس. اليوت في قصيدته الشهيرة. عقول ارضها خرائب يسكن فيها البوم وتهيم في ارجائها الاشباح والوطاويط. ولقد قيل في الامثال القديمة ان الله حين وزع الارزاق اعتقد معظم الناس بأنهم يستحقون أكثر... فلما وزع العقول رضي كل واحد بعقله! وما زلنا الى اليوم نرى الناس لا ترضى عن رزقها المادي وان رضيت كل الرضا عن رزقها من العقول. هي فتنة تصيب الانسان حين يرضى عن قلة ما اكتسبه من معرفة وعلم، معتقداً بأنه ليس في الامكان ابدع مما كان ولا أفضل ويترتب على هذه المعادلة ان الناس بسبب عدم رضاها عن رزقها المادي تكد وتكدح لزيادته. وبسبب رضائهم عن عقولهم لا يحاولون زيادة حصيلتها من الثقافة والمعرفة... وأحياناً يبلغ بهم الرضا حد الافتتان بعقولهم. يحدث هذا في البشر، وفي الانظمة الحاكمة التي يؤول اليها حكم البشر. ان انصار النظام الشمولي في الاتحاد السوفياتي السابق يعتقدون بأن نظريتهم بخير، وكل ما في الامر ان تطبيقها هو الذي اساء وخرج عن الخط، ولولا هذا لما تفكك النظام كله وهوى. أما انصار نظام السوق الحرة والديموقراطية فإنهم لا يعترفون أبداً بوجود مثالب في الرأسمالية ، وبالتالي فإنهم لا يستطيعون تفسير هذه الاشباح التي تظهر في اسواق المال والبورصات ويترتب عليها انهيار في الاسهم والسندات والعملة والبنوك. ان الاكتئاب العظيم الذي وقع سنة 1929 وسنة 1930 في اميركا ظل حتى اليوم بغير تبرير مقنع. إن النظام المصرفي يعتمد على الثقة، وأي بنك لو اطلقت عليه إشاعة بأنه خسر مثلا في مضاربات الذهب بلايين عدة، وأنه اصبح خاوياً وبلا نقود... هذا المصرف لو ذهب المودعون لسحب ودائعهم كلها في يوم واحد فسوف يسقط البنك ويعلن افلاسه. وعامل الثقة الذي يميز النظام المصرفي ليس عاملاً صلباً ولا واضح المعالم، وأحياناً تهتز الاسواق والبنوك والعملات بسبب مجيء حاكم جديد أو خروج رئيس قديم. أي أن تقلبات السياسة تؤثر في تقلبات العملة. واذا كان النظام الشمولي او الاشتراكي، كما شاهدنا في تجربة الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، قام بتوزيع الفقر على الجميع بالتساوي... فإن النظام الرأسمالي يزيد من غنى الاغنياء وفقر الفقراء. واتساع الفجوة هذا ليس في صالح الاستقرار الاجتماعي لأن الذين لا يجدون شيئاً يتحولون- على رغم أنفهم - طبقاً لقوانين الحتمية الى قوى مدمرة في المجتمع.. إن اسبوعاً من المظاهرات الثائرة في اندونيسيا كلف هذه الدولة بلايين من الدولارات كخسائر. لقد اشعل الفقراء - مستغلين ثورة الطلبة - النيران في المحلات وكانوا يحملون ما فيها ويشعلون فيه النار او يهربون به الى بيوتهم. وصرنا الى زمن اعلنت فيه الشيوعية عن افلاسها، واخفت فيه الرأسمالية عدم قدرتها على علاج الأزمات. اما النظام الوحيد المرشح لحل مشاكل البشرية، فهو نظام يعتبره الغرب العدو الاول بعد انهيار الشيوعية. والحق ان النظام الاقتصادي المقترح لم يستكمل شكله النهائي بعد، وما زال هلامياً، كما ان اصحابه لا يشجعون احداً على تقليدهم او الأخذ عنهم او التأسي بهم. هل يكشف العالم حلا لهذه الاحجية في القرن القادم. هناك من يتنبأ بسقوط الرأسمالية بعد نصف قرن، فهل يصل العالم الى حل قبل هذا السقوط أم يظل يتخبط بعده في الازمات كما يفعل سكان روسيا اليوم؟