قال الكاتب المسرحي فاسلاف هافل الذي صار رئيساً لجمهورية تشيكيا بعد انهيار النظام الشيوعي الذي قاومه: "قبل قرن ونصف القرن كان شبح الشيوعية يخيِّم على اوروبا - اما الآن فان شبح مرحلة ما بعد الشيوعية هو الذي يخيم على اوروبا". يقتطف هافل - كما لا يخفى على فطنة القارئ - من الصفحة الأولى في "البيان الشيوعي" الذي نشره كارل ماركس وفريدريك انغلز عام 1848 داعين عمال العالم ليتوحدوا ومتنبئين بحتمية زوال النظام الرأسمالي لتحل محله الاشتراكية. كان ذلك البيان الشرارة الفكرية التي افضت الى انتصار الشيوعية في روسيا والصين واوروبا الشرقية ثم اخفاقها المريع عند التطبيق العملي وانهيار قلبها النابض الاتحاد السوفياتي الذي كان تجسيداً للخطر أو الشبح المرعب للرأسمالية. بيد ان اخفاق الشيوعية وزوال شبحها لم يفض الى اعادة ترتيب تعادل في رسوخها مستوى النصر التاريخي الذي احرزته الرأسمالية. وهذا هو ما يشغل بال فاسلاف هافيل، فالخطر لم يعد من الشيوعية بل من نتائج زوالها. ومن الذين شغلتهم هذه المفارقة الاستاذ الجامعي وخبير ادارة الاعمال في عدد من الشركات الدولية تشارلس هاندي. ادرك هاندي من تجربته الشخصية الواسعة ان مرحلة ما بعد انهيار الشيوعية لم تؤد الى تزايد الاقتناع بمزايا الرأسمالية المنتصرة بل فرزت الكثير من الشك في جوهر الرأسمالية كما تطبق وتمارس الآن. فهو يؤمن الآن بخطأ ما درسه في الولاياتالمتحدة التي سافر اليها بعد تخرجه بتفوق في اكسفورد من ان هدف الشركات في النظام الرأسمالي هو: "تحقيق اقصى ربح لكل سهم". فالربح لا ينبغي ان يكون الهدف الوحيد كما لا ينبغي ان يكون غاية في حد ذاته. يذكرنا هاندي بأن آدم سميث لم يكتب عن "ثروة الامم" ومزايا النظام الرأسمالي فحسب بل كتب في "نظرية العواطف الاخلاقية" ان "التعاطف" - اي "منح الاخرين الاعتبار المناسب" هو اساس المجتمع المتحضر. ثم يستنتج هاندي ان الدول الرأسمالية الكبرى اخذت نصف افكار آدم سميث واهملت النصف الآخر، فوضعت تحقيق الارباح فوق مصلحة المجتمع والمواطنين. يكتب هذا الايرلندي/ البريطاني - الذي يعتبر من ابلغ الملتزمين بالدفاع عن الرأسمالية - عن رحلته من "اليقين" الاعمى بالرسمالية الى الشك المتزايد في منهج تطبيقها ثم الدعوة الى اصلاحها. ويقتطف كلمات قالها ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس سوفياتي لرونالد ريغان: "لدينا سلاح سري. سنتوقف عن معاداتكم!"، ويخلص الى ان ما قاله غورباتشوف كدعابة صار حقيقة واقعة وغير متوقعة اذ لم تعد روسيا خطراً على الغرب. لكن الغرب ارتبك عند زوال الخطر ولم يكن مهيأ بخطط مدروسة، فاحتار رغم انفراده منتشياً بالساحة. ما اورده تشارلس هاندي في كتابه "ما وراء اليقين" جدير بوقفة تأمل. فهو لا يأتي من اليسار المتحجر الذي لا يزال يحلم بعودة "الاتحاد السوفياتي العظيم"، ولا من اعداء الغرب والدول الغربية، بل من خبير حكيم يحب الرأسمالية ويدافع عنها. ولا ريب ان وجود الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية دفع الدول الغربية الرأسمالية الى اتخاذ سياسات داخلية وخارجية كثيرة "كترياق" يدرأ الخطر المحدق ويصد العدوى. ومن ذلك التسامح ازاء النقابات العمالية واسلوب التعامل مع دول العالم الثالث في القروض والاعانات والاحساس بخطورة البطالة وكبح جماح الاحتكارات. فلما زال التحدي الماثل والبديل المواجه بدأ الشعور يتزايد بأن "كل شيء يجوز". وهذا ما يدفع امثال تشارلس هاندي الى دق اجراس الخطر. فهو يدعو في مقابلة اجرتها معه مجلة الادارة "بيبول مانجمنت" في تشرين الأول اكتوبر الماضي الى تغيير خط السير والتوجه نحو "رأسمالية مهذبة". ويجاهر بأنه قلق من الآثار الجانبية السيئة و"العواقب غير المقصودة لرأسمالية السوق الحر". ويتساءل مشفقاً وحزيناً: "هل يرضينا ان يتزايد ثراء بلد مثل الولاياتالمتحدة في الوقت الذي يزداد فيه ثلث سكانه فقراً؟ وينادي بأن تصير الرأسمالية رحيمة ويتحدث بحماسة عن مشروع ابتكره يؤخذ في اطاره مديرو الشركات الكبرى الى المسارح لمشاهدة العروض ثم يلتقون لمناقشة القضايا الاجتماعية والنفسية التي تعالجها المسرحيات. ويقول ان المشروعات النظيرة لهذا مثل تشجيع مديري الشركات على مطالعة الشعر والاهتمام بالفنون والابداع ضرورية لأنها تضفي بُعداً قد يترك اثره في القرارات الادارية العليا التي تؤثر على مصائر الناس. فهو يريد ان يرى كما اكد في مقابلة تلفزيونية اجرتها معه قناة ال "بي. بي. سي الثانية في 14/9/1997 رأسمالية "ذات ضمير" يحس ومسؤولية اجتماعية. ويضرب مثلا بشركة ربطت اعمالها "بالاستثمار في المجتمع" الذي تعمل فيه في جنوب افريقيا، فوثقت عراها "بصندوق نيلسون مانديلا لرعاية الاطفال"، الأمر الذي ازال الحواجز بينها وبين المواطنين الذين ادركوا ان لهم نصيباً في نجاح الشركة لأنها تأخذ وتعطى. ان الشد والجذب في مؤتمر كيوتو بين جناحي الرأسمالية المنتصرة اوروبا والولاياتالمتحدة أكبر دليل على اهمية ارتفاع اصوات عاقلة مثل صوت تشارلس هاندي، لا سيما وان انهيار الشيوعية لم يعقبه - في الغالب الاعم - تحسن في احوال الناس بل تفشت الجريمة المنظمة والبطالة والفقر المدقع في روسيا واوروبا الشرقية في ظل ما اطلق عليه الاقتصادي البولندي/ النمسوي آدم زفاس "الرأسمالية المتخلفة". اخرج انهيار الشيوعية للانسانية شبحاً يخيم على المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم الآن. والسؤال هو: انتقالية في اي اتجاه؟ يسعى امثال تشارلس هاندي الى تعريف الاتجاه بأنه تصويب للانحراف وانشاء لرأسمالية ذات وجه جميل: تستهجن البطالة وتضع الضوابط امام البورصات وتعنى بحماية البيئة وتكون رفيقة - في لحظة انتصارها - بالدول الفقيرة.