هي إذن حرب افريقية جديدة، تلك التي اندلعت منذ أواسط أيار مايو الماضي بين اثيوبيا واريتريا، تضاف إلى تلك المسلسلة الطويلة من النزاعات التي ما انفكت تدمي القارة السوداء، وتمتد إلى مختلف أرجائها، أهلية بين شعوبها وإثنياتها المتعددة المتعادية، أو دولية بين كياناتها البائسة الهزيلة الإمكانات والمقومات في الغالب. وهي حروب غالباً ما يلفها النسيان والإهمال واللامبالاة، في زمن الاتصال بامتياز، هذا الذي نعيش، فلا تحظى باهتمام من وسائل الاعلام، وببعض المساعي الديبلوماسية، إلا إذا ما بلغت أوجاً من الفظاعات معلوماً. كما لو أنه يُشترط في النزاعات الافريقية كوتا من الضحايا والجرائم وأعمال التقتيل الهمجي محددة حتى تحظى باهتمام الساهرين على إعلامنا، وإلا بقيت نسياً منسياً. والحرب الجارية حالياً بين اريتريا واثيوبيا تبدو، للوهلة الأولى، من طينة مثل تلك النزاعات الافريقية ومن مصافها: إن هي إلا نزاع حدودي جديد، غامض، في نظر المراقب الخارجي على الأقل، قليل الشأن، لا يتقاطع مع أي من الملفات الدولية الكبرى، وهو ما قد يجعله مرشحاً للاستمرار طويلاً، إن تمكنت الدول الكبرى من احتوائه، ومن اتقاء أي امتداد له محتمل، وهو ما يبدو أنها تنصرف إلى القيام به بجد منذ أن نشب النزاع المذكور، إما بالتجاهل، وهو الموقف الغالب، وإما ببذل بعض المساعي، قصد التهدئة والدعوة "إلى ضبط النفس"، على ما فعلت الولاياتالمتحدة عندما ارسلت مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الافريقية سوزان رايس إلى كل من أديس ابابا وأسمرا، عاصمتي البلدين، في محاولة لإطلاق الحوار بينهما، وهي محاولة لم تكلل حتى الآن بأي قدر من نجاح، ربما لأن واشنطن لم تول الأمر إلا قسطاً محدوداً من الاهتمام، فلا أعدت في هذا الشأن مبادرة ولا مارست ما قد يتطلبه الموقف من ضغوطات جدية. الحرب الاريترية - الاثيوبية تتوافر فيها إذن كل مواصفات الحرب الافريقية المنسية، والمرشحة إلى الاستمرار كذلك إلى أجل غير معلوم. فهي لم تحظ حتى الآن باهتمام من وسائل الاعلام الغربية بالغ، ولم تحتل منها موقع الصدارة، وهي حتى الآن، وذلك ما قد يكون أكثر دلالة، لم ترتق إلى مرتبة النزاع المتلفز، ذاك التي تتابعه كاميرات وسيلة الاعلام الطاغية، تلك في زمننا هذا. فالتلفزيون هو الذي يتولى تحديد تراتبية الأحداث وأهميتها، فيصطفي بعضها، ليطرحها على رأس جدول اهتمامات الرأي العام العالمي، أو لا يفعل مع بعضها، فيهملها، فتبقى بذلك شأناً يعني الخبراء والمتابعين وأهل الاختصاص. ويبدو ان التلفزيون قد مال إلى اعتماد هذا السلوك في ما يخص الأزمة الاريترية - الاثيوبية الأخيرة، فإذا هي نزاع بلا صور، لا نعلم الكثير عن مجرياته. نحن نعلم أن النزاع ذاك يجري حول شريط حدودي متنازع عليه، وصدرت أنباء عن هجومات قامت بها القوات الاريترية، فتغلغلت في شمال غربي اثيوبيا، وعن هجومات مضادة قادتها قوات هذا البلد الأخير، فتمكنت من اجلاء القوات الغازية أو هي تغلغلت بدورها داخل الأراضي الاريترية. الصورة، على جبهة القتال، تبدو إذن غائمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ضحايا تلك المواجهات، أولئك الذين لم تصدر بشأنهم أرقام، حتى وإن تقريبية، وهو ما قد يعد أمراً نادراً. غير أنه قد يكون من الخطأ قياس ما يجري بين اريتريا واثيوبيا على بقية النزاعات الجارية في القارة الافريقية، على ما يبدو أنه المنحى الشائع. فاثيوبيا، على العكس من انطباع سائد، ليست بلداً افريقياً كبقية بلدان القارة في جنوب الصحراء، ولا هي على سويتها، أي كياناً ارتقى إلى الوجود في أعقاب الفترة الاستعمارية، ولا يدين بوجوده ك "أمة - دولة"، إلا إلى ذلك الطور التاريخي، بل هي كانت واحدة من أقدم الامبراطوريات ومن أقدم الكيانات في العالم، ما يجعل ماضيها ماضياً تاريخياً، لا مجرد ماضٍ "انثروبولوجي"، إن صحت العبارة، على ما هي حال سائر مناطق افريقيا السوداء. فاثيوبيا، كانت، حتى سقوط هيلاسيلاسي، مجالاً امبراطورياً، قام وانتظم حول الديانة المسيحية منذ زمن سحيق مبكر، ما يجعلها أقرب إلى العالم القديم منها إلى السوية الافريقية المعتادة، تلك التي خرجت إلى الوجود "التاريخي" مع المرحلة الاستعمارية وفي أعقابها. وربما كانت فترة منغستو هيلي مريام الشيوعية آخر محاولات الابقاء على ذلك البناء الامبراطوري الاثيوبي، أو الحبشي، من خلال تحديثه، وعن طريق إعادة سبكه وفق منظور ايديولوجي جديد، وهي المحاولة التي فشلت بسقوط منغستو. وبهذا المعنى، قد لا ينضوي النزاع الاريتري - الاثيوبي داخل منطق النزاعات الافريقية التقليدية، تلك الجارية عادة بين كيانات وطنية حديثة العهد، هشة البنيان، أو بين اثنيات قلقة لا تزال هوياتها دون الوجود السياسي وتعبر عنها بمفردات ما دون سياسية، بل أن الأمر ربما كان أقرب إلى ظواهر تفكك الامبراطوريات، وهو ما قد يكون استقلال اريتريا قبل سنوات قليلة قد مثل الفصل الأول فيه، وهو ما قد يفسر ما نتج عن ذلك من مشاكل عالقة عديدة، حدودية غالباً، على ما هو الأمر غالباً في مثل هذه الحالات. وبالفعل، ورثت اريتريا المستقلة، من ماضي انتمائها القسري إلى مبراطورية النجاشي، كما من الحقبة الاستعمارية، مضافاً إليها ما يبدو من طموح على قادتها في لعب دور اقليمي، ملفات حدودية عدة، سبق لها ان جعلتها تدخل في نزاع لم يحل بعد على جزر حنيش مع اليمن وفي اشتباكات حدودية أيضاً مع جيبوتي. الأمر لا يتعلق إذن بذلك الصنف من النزاعات الافريقية المعتادة، والتي غالباً ما توصف بأنها "عقيمة"، لأنها تبقى بمعنى ما دون السياسة، بل بإعادة تشكيل النصاب الاستراتيجي القائم في القرن الافريقي، اثر الانحسار الذي جد على امبراطورية الحبشة، بعد سقوط النجاشي هيلاسيلاسي، ثم بعد سقوط "النجاشي الأحمر" منغستو، ثم استقلال اريتريا. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحرب الأهلية السودانية الجارية على حدود البلدين، وموقفهما الداعم للمعارضة السودانية، فإن في ذلك ما يوحي بمدى التعقيد الذي من شأنه أن يطرأ على الوضع في القرن الافريقي من جراء ذلك النزاع الاريتري - الاثيوبي، وفي حالة الاخفاق في وضع حد له. وهو ما يجب أن يستوقف في شأن منطقة تطل على العالم العربي بأكثر من وجه وعلى أكثر من نحو، سياسي وأمني وجغرافي وتاريخي وبشري.