كان من الطبيعي والمتوقع أن يغتنم القادة الأكراد فرصة الحوار العربي - الكردي في القاهرة الأسبوع الماضي لكي يبثوا بمرارة شجونهم وشكواهم مما رأوه من نسيان وتجاهل وتذكر العرب لهمومهم وقضاياهم عبر عقود طويلة من الزمن، على رغم الوشائج التاريخية والروابط الدينية والثقافية وغير ذلك من علاقات ومصالح سياسية فرضتها عوامل الجوار والحياة المشتركة في اقليم واحد بكل ما يحمله ذلك من تحديات وتطلعات. والذين أنصتوا للقادة السياسيين وللمفكرين الذين شدوا رحالهم من معاقلهم المعزولة وسط جبال كردستان إلى عاصمة العرب الكبرى أحسوا بالألم وهو ينساب بصدق وعفوية وكبرياء شاكين ما يرونه من ظلم ذوي القربى الذي هو أشد مرارة. وعبر يومين من الحديث والنقاش الهادئ دائماً والقليل السخونة أحياناً حاول الزعماء الأكراد أن يركزوا على إبطال وتفنيد كل ما يرونه من أراجيف وإشاعات وسوء فهم يحيط بالقضية الكردية عند اخوانهم وجيرانهم العرب، أو بعضهم على أقل تقدير، وتبديد مخاوف الآخرين من نوايا الأكراد ومشاريعهم مركزين دوماً على ما يربط الشعبين من علاقات ومصالح تاريخية وتطلعات حالية ومستقبلية. وبغض النظر عن المشاركة العربية التي جاءت فاترة ومخيبة للآمال كماً ونوعاً، فمن المؤكد ان المشاركة الكردية التي جاءت على مستوى الصف الأول من القيادات، دلت إلى حرص كبير منهم لاسماع صوتهم عبر الندوة إلى جميع العرب وإلى استعداد عالٍ من جانبهم للحوار وايصال رؤاهم وبالتالي تبادل الآراء والتصورات عن أي الحلول الأفضل لإزالة المخاوف وسوء الظن. ولكن، ماذا أفرزت ندوة الحوار العربي - الكردي من ايجابيات وحتى سلبيات لكي تكون جديرة بالانتباه كجهد مخلص على طريق حوار أشمل بين الشعبين سيبقى مطلوباً من الطرفين؟ الوضع الكردي الحالي، بقدر ما يتعلق بكردستان العراق الذي انصبت عليه مناقشات الندوة، هو وضع مقلق لجميع الأطراف المهتمة به عراقياً واقليمياً ودولياً. وبالتالي، هناك احتمالات لتفجره في أي وقت مع انعكاسات خطيرة لهذا الانفجار، الأمر الذي يستدعي ليس اليقظة فقط، وإنما الاستعداد لمواجهة الاحتمالات، ومثل هذا الاستنتاج يكشف كم أن الجانب العربي كان، ولربما ما يزال، متردداً ولربما لا مبالياً بهذه المشكلة الخطيرة على أبوابه. وبغض النظر عن التغني بأمجاد الماضي الذي جمع العرب والكرد عبر التاريخ من خلال استدعاء رموزه الكثيرة، وهي الحجج التي حاول المتحاورون البناء عليها لاثبات صلابة علاقاتهم التاريخية، فإن الحقيقة التي كشفت عنها الندوة ان الشكوك لا تزال تشكل أرضية الفهم المشترك لحاضرهم ولقضاياهم وتستدعي النظر إليها من دون تبسيط ووفق قواعد المصالح المشتركة، ولكن أيضاً استناداً إلى مبادئ الحق والعدالة والحقيقة. ولعل أبرز الاتهامات التي طالما سمعها الأكراد من العرب وكان على قادتهم تفنيدها هو انهم انفصاليون يحاولون شق وحدة بلد عربي وتقسيم ترابه الوطني من خلال التعاون مع أعداء العرب التقليديين أو "تجار الشر" كما اطلق عليهم أحد المساهمين العرب في الندوة، وبالتالي الاضرار بالأمن القومي العربي عموماً، بما يؤدي من تنفيذ للسيناريو السيئ الذكر عن اغراق المنطقة بالحروب والمشاكل ومن ثم تقسيمها لمصلحة إسرائيل! ويدرك الأكراد، كما فعل ممثلوهم في الندوة، ان وراء مثل هذا التهم الشنيعة، خصوصاً تلك التي تتعلق بالعامل الإسرائيلي والتي طالما سمعوها جملة عوامل ومسببات تبدأ من سوء الفهم التقليدي، مروراً بالأخطاء التي يرتكبها الطرفان وتنتهي بسوء النوايا وذهنية التعصب التي تسود لدى البعض، إلا أنهم يصرون أيضاً، كما اتضح من نقاشات الندوة، ان من التجني على شرعية نضالهم وصفهم بالخيانة لمجرد أنهم استجابوا في تكتيكات الكفاح الشاق من أجل حقوقهم القومية المشروعة مع الاستراتيجيات الدولية وتعقيدات المنطقة وفق قوانينها وشروطها المراوغة. ولعل ردهم على هذه الاتهامات العربية لم يكن يخلو من وجاهة ومنطقية عندما تساءلوا عن معنى تعالي الأطراف العربية عن التعامل معهم مثلما اتضح من مقاطعة بعض الجهات للندوة ذاتها أو تركهم نهبة لأطماع خصوم العرب واعدائهم إذا كانوا فعلاً يحسون ان القضية الكردية أو، ليسموها ما يشاؤون، عامل مؤثر في الأمن القومي العربي. ومن المؤكد ان منطق وحجة هذا الطرح تتجلى في حقيقة ادراكنا ان عصرنا عصر الحوار والاتصال الإنساني، إضافة إلى أن العرب الذين يتحاورون ويقيمون العلاقات مع تلك الأطراف لا يمكنهم أن يطلبوا من الأكراد أن ينبذوها. ومن الاتهامات الأخرى التي ووجه بها القادة الأكراد في الحوار قضية الاقتتال الداخلي العبثي الذي رآه البعض ليس فقط غير مفهوم أو مبرر، بل تشويه لنضالهم ولتضحياتهم وايضاً عامل آخر لازدياد التدخل الخارجي في شؤونهم وبالتالي في شؤون بلد عربي الامر الذي يزيد المشكلة تعقيداً ويعرقل فرص حلها السلمي. قادة الطرفين الرئيسيين في كردستان العراق جاؤوا الى الحوار وهم يتكلمون بلغة ديبلوماسية واحدة وحاولوا قدر جهدهم ان يعطوا الانطباع انهم خلفوا وراءهم الصراع الدامي، الا ان مجرد جلوسهم على طاولتين متقابلتين مع محازبيهم ذكر الجميع بأنهم في حاجة اولاً لان يتحاوروا ويتصالحوا ويتفقوا. ولعل الفرصة التي وفرها الحوار ستكون فعلاً دافعاً للقيادات الكردية ان تعي بشجاعة وبإيمان درس اكتشاف ما هو مشترك في ما بينهما وقدرتهما على العيش معاً قبل ان تطلب من الآخرين ان يتفهموا قضاياها ويساندوها. وبعيداً من الاتهامات والاتهامات المضادة فان اهم محاور النقاش التي تناولتها الندوة هو موضوع الفيديرالية الذي اكدت القيادات الكردية على طرحه باعتباره كما اصرّت هو الخيار الذي اصطفاه الشعب الكردي في العراق على أساس طوعي وكحلّ دائم للمشكلة الكردية في العراق، لكن الموضوع لم يزل اشكالاً ومثيراً ليس للنقاش فقط وانما للعواطف والانفعالات. والواقع ان موضوع الفيديرالية الذي بدا الهاجس المسيطر على الخطاب الكردي في الندوة لاسباب مفهومة لم يحظ بقدر وافر من النقاش الجدي والمعمّق لا من جانب منظمي الندوة وضيوفها الذين بدوا غير جاهزين لذلك ولا من قبل المشاركين العرب الذين غابت مساهماتهم الرصينة لاسباب تتعلق اما بعدم دعوتهم اساساً او مقاطعتهم غير المفهومة او غير المبررة او تدني مستوى المشاركة العربية او عدم الاستعداد الكافي ممن شارك للقول المفيد بدلاً من الجدال المشحون بالعواطف والانفعالات. مثل هذا الوضع جعل الصوت الكردي هو المدوي ما حرم المشاركين عرباً وكرداً من التفاعل الايجابي. ومن المؤكد ان القيادات الكردية التي حرصت على حضور الندوة والمشاركة فيها وهي قيادات تاريخية مجربة وذات خبرة طويلة كان سيسعدها الانصات الى اصوات اخرى غير اصوات الرصاص والقنابل والتهديد او الاصوات التي اعتادت ان تسمع منها دائما في ظروف تتصف بالسيولة وعدم الاستقرار. فالأكراد اليوم لهم اصدقاء خلص ومساندون من العراقيين والعرب الذين يشاركوهم التطلع الى بناء المستقبل الذي هو جوهر ولب العملية الجارية. وهنا على وجه التحديد، اي المستقبل المشترك وكيفية صنعه، ينبغي ان يتركز جهد الجميع من خلال عملية صياغة معادلة جديدة والتي قال عنها مسعود البارزاني في رسالته للندوة "بأنها كان من الواجب ايجادها منذ امد بعيد، معادلة لو تمت صياغتها في حينه لوفرت علينا وعلى شعوب المنطقة الكثير من المآسي والويلات والخسائر البشرية والمادية". وعلى اساس هذا الادراج ينبغي فهم الفدرالية التي قد تكون حلا فريدا ليس للمسألة الكردية فحسب ولكن لاشكالية الديموقراطية وحقوق الانسان في العراق ككل، وقد تكون فعلاً حلاً طوعياً اختاره الشعب الكردي، لكن الأهم ان يكون ممكنا وقابلا للتحقيق وفق تعقيدات الوضع الكردي اقليمياً ودولياً وان لا يكون مجرد سقف تفاوضي مع القيادة العراقية سيصيب عدم تحقيقه الاكراد بالمزيد من خيبات الأمل. وعموماً وفرت الندوة فرصة مهمة للحوار حول واحدة من أهم قضايانا المعاصرة وأخطرها، ولا بد ان نقر الآن ان القيادات الكردية سلكت المسلك الصحيح حين انخرطت بفاعلية في اعمال الندوة ليست مدفوعة فقط الى تسليط الضوء على قضيتها والدفاع عن حقوق الاكراد وإزالة الكثير مما تراه من الشكوك وسوء الظن ولكن ايضا للتعبير عن استعدادها للحوار والايمان به كوسيلة حضارية لحل المشكلات القائمة.