تنشط في روما، العاصمة الإيطالية، من الخامس عشر من حزيران يونيو إلى السابع عشر من تموز يوليو الآتي، في أثناء مناقشة نحو مئة دولة معاهدة إنشاء محكمة جزاء دولية دائمة، برعاية هيئة الأممالمتحدة وأمينها العام، تنشط سيدة من نوع غريب. فالسيدة لويز آربور، الكندية الكيبيكية من ولاية كيبيك "الفرنسية" ذات الواحد والخمسين ربيعاً، هي نجم "مباراة" قانونية وحقوقية قاسية، ومن ضرب لا يوسع محلاً رحباً للغواية ولا لفتنة الارتجال أو الإلهام. وتنزل السيدة آربور روما، وندوتها، متباريةً ومتسابقةً متميزة، عَلَماً على تجديد حقوقي وقانوني عريض لا يبالغ رجال القانون وبعض رجال السياسة حين يقارنونه، على ما يصنع السيد كلاوس كينكل وزير خارجية ألمانيا، بإقرار هيئة الأممالمتحدة شرعة حقوق الإنسان قبل نيِّف ونصف قرن. فمحكمة الجزاء الدولية الدائمة، إذا أقرت، تعني إرساء المجتمع الدولي سلطةً قضائية وعدلية مستقلة. وتملك المحكمة، شأن النيابة العامة في دول الحق والقانون، تعقب المجرمين في حق الإنسانية، ومرتكبي جرائم الحرب، ومن يدانون بجرم الإبادة ويضيف السيد كينكل، أحد أشد أنصار المحكمة ووريث التشكك الألماني الديموقراطي في ذرائع سياسة القوة، جريمةَ حرب العدوان، ولو كانوا رؤساء دول، وأعيان أنظمة، وقادة حرب. فمنذ تشرين الأول أوكتوبر عام 1996 والسيدة آربور هي النيابة الإتهامية العامة، خلفاً للسيد ريتشارد غولدستون، الجنوبي الإفريقي، في محكمتي الجزاء الدوليتين اللتين انشئتا، الأولى للنظر في جرائم حرب يوغوسلافيا السابقة البوسنة من قبل، وكوسوفو اليوم في 1993، والثانية في جريمة الإبادة في رواندا، في 1994. لكن الفرق كبير بين محكمتي لاهاي، الأولى، وآروشا، الثانية. فمحكمتا الجزاء هاتان طارئتان، وأنشئتا جواباً عن ظرفين عارضين. إلى ذلك قيدت هيئة الأمم تحقيق المحكمتين بوقت لا تتعديانه: طوال الحوادث اليوغوسلافية منذ ابتدائها إلى اليوم، وإلى آخر يوم من عام 1994 في رواندا وهذا يُخرج حوادث زائير، أو الكونغو اليوم، في عام 1996، من اختصاص التحقيق، على رغم انتهاكات كيغالي في أثناء حرب كابيلا على موبوتو في الأثناء. أما، اليوم بروما، حيث تتصدر السيدة آربور المناقشة بإزاء سفير الولاياتالمتحدة الأميركية المتحفظ، السيد بيل ريتشاردسون، ووزير الخارجية الفرنسي المرن، السيد هوبير فيدرين، فالأمر يختلف. فالندوة الديبلوماسية الكبيرة تستعيد في العاصمة الإيطالية مناقشة مشروع كانت الجمعية العامة الثالثة، في 1948، عهدت به إلى لجنة القانون الدولي لتصوغه على مثال محكمتي نورنبرغ وطوكيو، القريبتين زمناً، وفي ضوء تجربتهما التي لم تسلم من المطاعن القانونية. لكن الحرب الباردة المتطاولة، ثم "الحرب الأهلية العالمية" بين الجنوب والشمال، علقتا المسألة والمناقشة إلى عام 1993. وغداة إنشاء محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، في آخر 1993، جددت الهيئة العامة الثامنة والأربعون عهدها إلى لجنة الحق الدولي. فعكف حقوقيو اللجنة خمسة أشهر على صوغ مشروع أرادته الهيئة العامة، تعظيماً له، "معاهدة" مستقلة وقائمة برأسها. وبعد سنة ونصف السنة، في كانون الأول ديسمبر 1995، أنشأت الجمعية العامة لجنة إعدادية، أو تحضيرية، أوكلت إليها المفاوضة السياسية، وليس القانونية وحدها، على مسودة المعاهدة. ودامت هذه المفاوضة سنتان ونصف السنة. وكان افتتاح مؤتمر روما، أو ندوتها الكبيرة، قبل أسبوعين، الإيذان بانتهاء المفاوضة السياسية. وعلى المؤتمر المنعقد اليوم بت بنود المعاهدة، وتوقيع المندوبين القادمين من نحو مئة دولة نصها الأخير قبل عرضها على موافقة هيئات الدول ذات الصلاحية وإبرامها. فإذا أبرمت الهيئات المختصة المعاهدة ألزمها إبرامُها هذا وقيدها. وهذا ما تسعى فيه السيدة آربور من غير كلل. وتساندها في سعيها ثمانمائة منظمة إنسانية وأهلية غير حكومية، لا تنقص منظمة واحدة. ومنذ إنشاء اللجنة الحقوقية الدولية، في 1993، والمنظمات هذه "تحاصر" اللجنة، وتؤلب سفراء الدول ووزراءها، وتوالي الإتصال بهم، ومناقشتهم، والرد على حججهم. وكان قبول مندوبين عن هذه المنظمات، بصفة مراقبين، في اللجنة الأساسية، وفي اللجان الفرعية، واليوم في المؤتمر العتيد، واستشارتهم، وإشراكهم في الصياغة، نصراً لما يسميه بعضهم، محقاً ربما، "مجتمعاً مدنياً دولياً". ولويز آربور هي صوت هذا المجتمع، ولسان مطاليبه، في المحفل الحقوقي الدولي. وتستظهر القاضية السابقة في محكمة أونتاريو العليا، ثم في محكمة استئنافها، ورئيسة لجنة التحقيق في أحوال السجون الكندية في 1995، بالعشرين شهراً التي قضتها على رأس النيابة العامة في المحكمتين الدوليتين بلاهاي وآروشا. فهي أفلحت في حمل جان كامباندا، رئيس الحكومة الرواندي إبان حرب الإبادة التي شنّها قوم الهوتو على قوم التوتسي وقتلوا في أثنائها خمسمئة ألف من التوتسي، حملته على الإقرار بالمسؤولية عن حرب الإبادة هذه، في الأول من أيار مايو 1998. وتأمل المدعية العامة، وهي عملت تسعة أشهر تامة على جمع القرائن والشهادات والأدلة قبل إحراج كامباندا واضطراره إلى شهادته هذه، تأمل في إدانة رائد الإبادة الرواندية ومنظمها الحقيقي، تيونيست باغوسورا. وهو بين السجناء، وفي يد المحكمة. والنجاح في إدانة مجرم كبير، ومحرض على عمل يدخل تحت الأبواب الثلاثة أو الأربعة التي يوكل مشروع المعاهدة النظر فيها إلى محكمة الجزاء، سابقة وبشير خير، على ما ترجو الهيئات غير الحكومية والعاملون في سبيل عدالة دولية مستقلة ورادعة، ومعهم المدعية العامة الكندية. ذلك أن تهمة كامباندا المحرضَ والمجرم باغوسورا قد تكون المثال المنتظر الذي يحتذي عليه آخرون. ففي عام 1998 كذلك وصف المتهم والشاهد الصربي دراتجين إيرديموفيتش استيلاء الصرب على سريبرينيتشا، أمام السيدة آربور وهيئة المحكمة الدولية. وينبغي أن يمهد كامباندا وإيرديموفيتش، كل على طريقته ومن وجهه، السبيل لشهادة كاراجيتش، قائد صرب البوسنة "السياسي" السابق، وملاديتش، "محاربهم"، على زعيمهم القومي، الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، الحاكم سعيداً ببلغراد. وعلى هذا ينبغي كذلك ألا ينجو الرئيس الكرواتي، تودجمان، من التهمة ومن تحمل التبعة. فالغاية المرجوة والمبتغاة من وراء المسعى المدني والحقوقي الدولي هي ألا يأمن مجرم سياسي، بذرائع السياسة و"الشأن" القومي واستقلال الدولة الوطنية، الملاحقة والمساءلة عن أعماله الجرمية. والجمع بين الجريمة وبين السياسة والدولة الوطنية، هو عقدة المسألة. فالسياسة، منصباً أو باعثاً، تحصن صاحبها من مساواته بالمجرم القاتل، المحرض أو الباعث على القتل. فإذا أضيفت ذريعة استقلال الدولة الوطنية تمتع المجرم بحصانة بدت، إلى يوم قريب، منيعة. وتدور الخلافات كلها، أو معظمها، على هذه العقدة. ففي ضوء اختبارات العقدين الأخيرين، غداة حرب فيتنام على العموم وهذه الحرب اختبار يكاد يجمع المتناقشون والمتحاورون على السكوت عنه، من ذيول الإبادة الخمير الحمراء بكمبوديا إلى ذيول انفجار يوغوسلافيا المستمرة مروراً بالعراق الصدامي والحرب الروسية في الشيشان وبالصومال ورواندا وزائيرالكونغو، في ضوء هذه الاختبارات برزت مسائل تتناول قضايا متفرقة كلها مثار خلاف في مؤتمر روما. ففي هذه الحوادث تذرعت الأجهزة الحاكمة بضرورات الدفاع عن وحدة "الدولة" إلى تسويغ انتهاك قوانين الحرب وحقوق الإنسان. فساوت بين سياسة الدولة وبين إعمال منطق الحروب الأهلية و"أعرافها" الخارجة على كل عرف وقانون. وحزب هذه الدول، وهي الكثرة في الأممالمتحدة وفي روما، لا يرضى بأقل من موافقة الدولة التي جرى الانتهاك على أرضها، والدولة التي تؤوي المجرم المطلوب، والدولة التي يحمل المجرم تابعيتها أو جنسيتها، شرطاً لانعقاد المحكمة الدائمة. ويبطل هذا الشرط المثلث الانعقاد. وثمة حزب آخر هو حزب بعض الدول الكبيرة، وتتصدرها الولاياتالمتحدة الأميركية ثم فرنسا. وتخشى هذه الدول حريةَ محكمة الجزاء، وصلاحيتَها في الملاحقة، من غير رقابة مجلس الأمن وحق النقض المعطل والكابح، على العمليات السياسية التي تواكب معالجة الأزمات. فلولا إضمار اتفاق دايتون في شأن البوسنة السكوت عن مسؤوليات القيادة السياسية الصربية وعن مسؤوليات القيادة الكرواتية، لما عقد الإتفاق. وتخشى هذه الدول محاكمة قواتها المشاركة في حفظ السلام. ففي الصومال ضلعت القوة الكندية في أعمال تعذيب وانتهاك حقوق الإنسان على نحو فاضح لكن كندا من حزب "الدول الرائدة" أو "ربابنة" دعاة استقلال المحكمة المزمعة. وفي يوغوسلافيا السابقة شهدت بعض الوحدات الفرنسية على فظاعات وانتهاكات، ولم تأتِ حركة" ونجمت عن هذا الضلوع، وعن رفض وزير الدفاع الفرنسي، آلان ريشار، شهادة جنوده أمام لويز آربور، مشادة حادة، اختبر فيها السيد ريشار سلاطة لسان السيدة في دفاعها عن الحق. أما مجلسا الممثلين والشيوخ الأميركيان فحكمهما في استقلال القضاء الدولي، بمعزل من المصالح الأميركية، هو الازدراء، والخشية، والترجح بينهما. على هؤلاء جميعاً ترد السيدة آربور بلسان الشاهد: "ما زال إعمال الحق الدولي الإنساني في مرحلة لم تخطُ فيها الأوساط والبيئات التي ينبغي أن يصدر عنها شهود مقبولو الشهادة وموثوقوها ... الخطوة الأخلاقية الضرورية". فبعض الشهود، على قولها، يؤثر ألا يرى وألا يعلم، فكيف حاله وهو مدعو إلى القول على الملأ