لنأخذ مثلاً على التعمية في الخطاب من خلال تناول بعض الحداثيين لموضوعة "الآخر". لو استعرضنا أغلب الذين يثيرون موضوع العلاقة بالآخر من الداعين للحداثة، بمعناها العولمي راهناً، فسنجدهم ينظرون ويفلسفون لضرورة "فهم الآخر"، و"استيعاب الآخر" أو "الاندماج بالآخر" أو "التسامح والآخر" ويتهمون القائلين بالمرجعية الإسلامية، وكل أصحاب الايديولوجيات، بمن فيهم معظم القوميين والعروبيين، بأنهم "ينفون الآخر"، ويؤكدون هويتهم بنفي هوية الآخر، أو بالتضاد وإياها، ويعتبرون ذلك بديهية، بالضرورة، بالنسبة إلى كل من يتبنى ايديولوجية، والمقصود طبعاً الإسلامية والقومية وسابقاً الاشتراكية، وإلى كل من يقول بهوية إسلامية عربية للعرب، وهؤلاء متهمون ب "رفض الآخر"، والرمي به "خارج" الذات، ولهذا فهم لا يحتاجون إلى إقامة البرهان من أمثلة حية على هذه الأحكام، فبمقدورك ما دمت تتحدث عن "الآخر" ان تصدر أية أحكام بهذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه، من دون أن تطرف لك عين حين تعمم احكامك باطلاق، بما في ذلك تبرئة نفسك من الايديولوجية حين تكون ليبرالياً، وأحياناً بتطرف، كما لو كنت لا تنطق إلا بقوانين الفيزياء والرياضيات، أو كأن ما تقوله يدخل في باب المعرفة فقط ولا يمس عالم الايديولوجية ولو من أطرافه. لكن، لماذا لا يوضح أغلب هؤلاء ما المقصود بالآخر، فهل كل آخر بالنسبة إلى الفرد أو الأمة، أو إلى اتجاه فكري معين هو بمنزلة كل آخر سواء بسواء، أم هنالك تفاوت لا حدود له من جهة علاقتي كفرد، أو كشعب، أو كأمة، أو كاتجاه فكري، أو سياسي، أو ايديولوجي بالآخر، بمعنى بكل طرف محدد؟ فهل كل ما هو خارجي، أو ليس أنا، أي كل "آخر" يعامل بالطريقة نفسها أو بالمبدأ نفسه أي لا فرق بالنسبة إلى الفلسطيني والعربي أو المسلم بين الآخر الصهيوني مثلاً، الذي يغتصب فلسطين وشرد أكثر من نصف شعبها ويحتل كل أرضها ويتسم بعنصرية عدوانية صارخة من جهة وبين آخر صيني أو هندي أو غيني أو أرجنتيني، وهل لا فرق بين آخر يتسم بهوية استعمارية أو عنصرية تعامل العرب والمسلمين بتحقير وتمييز فا ضحين ضدهم، ولا يتوانى عن العدوان إذا لزم الأمر من جهة، وبين آخر يشاطرنا المظلومية وإن كان مختلفاً ديناً أو لوناً أو ايديولوجية أو مكاناً ولا يعتدي علينا أو يقاتلنا أو يخرجنا من ديارنا أو ينهب ثرواتنا ولا يعمل على افقارنا وردنا إلى ارذل الوضع. بكلمة، هل تصلح عبارة الآخر حين تستخدم بهذه الاطلاقية، ان تشكل "نظرية" أو حتى جملة مفيدة، أم لا يستقيم أمرها إلا حين نحدد من هذا الآخر الذي نعنيه، وعندئذ يصبح الكلام محدداً قابلاً للحوار والتفاهم أو الاختلاف، ونحن نعرف على ماذا نختلف. ثم ماذا يفعل هؤلاء لو استخدم منهجهم، فأعلن من يتهمونهم برفض الآخر وعدم احترامه وعدم التسامح معه، وعدم التفاعل والاندماج وإياه، قائلين: نحترم الآخر ونتسامح والآخر ونتفاعل والآخر، لكن الآخر الذي يعنونه ليس الآخر الذي يريده هؤلاء لأن ما من ايديولوجية حتى لو كانت منغلقة فعلاً إلا وهنالك آخر بالنسبة إليها تتعاطف وإياه، بصورة أو بأخرى، أو تحترمه وتتبادل معه الرأي، أو تناقضه في المبادئ وتخالفه، أو تتعايش وإياه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما أن هنالك آخرين تعاملهم بالعداوة أو الصراع أو بالرفض أو بالنقد وفقاً لكل حالة، فالمعتدي يردع والظالم يقاوم والعنصري يرفض... وهكذا، ويمكن لهؤلاء ان يفتشوا انفسهم جيداً وهم يتحدثون عن الآخر بكل تلك الاريحية، ليجدوا أنهم لا يدخلون الإسلاميين وكثيراً من القوميين واليساريين الذين احتفظوا بموقف معارض للرأسمالية العالمية، ضمن مسلسل الآخر الذي في تصورهم المبطن وغير المعلن، أما الدليل على ذلك فيكمن بمستوى النفي الذي يحمله خطابهم إن لم يكن بمستوى الروحية القهرية عند التعاطي والخطاب الإسلامي أو القومي والتحرري الوطني لا سيما في التعاطي مع الاخذين بالمرجعية الاسلامية ، وعنوان ذلك وصفهم بالاصولية بالمعنى الغربي للكلمة، أو بالظلامية ليبدأ الهجوم والاقصاء والنبذ والاخراج من عالم الآخر - عالمهم. أما التعمية الأخرى المصاحبة للأولى فتقوم على فرضية مبطنة في غالب الأحيان، وشبه ظاهرة بعض الأحيان، توحي بأن كل ما يصبغونه على "نظرية الآخر" من ايجابيات انسانية يعتبرونها أرقى ما وصلته الإنسانية، ويكسّر عليها المتهمون برفض الآخر، تحتويها الحداثة، ومن ثم يكمن الجواب أو الحل في "الانخراط في الحداثة" أو في "الانفتاح عليها" أو "الاندماج فيها" وترك التقليدي أو ما نحن عليه، لأن هناك المثال حيث يتجلى الاعتراف بالآخر فكراً ونظرية وفلسفة وتطبيقاً. حسناً، لماذا لا يأخذنا هؤلاء إلى ديار الحداثة وعلى التحديد إلى الولاياتالمتحدة الأميركية التي تقف على رأس العولمة وتقود الحداثة العالمية الراهنة، ليثبتوا لنا كيف يتجلى الموقف من الآخر ولا نقول في السياسة الخارجية أو الاقتصاد بزعامة الشركات متعدية الحدود أو في المجالات العنفية التي تتعلق بالجيش والاساطيل والاسلحة النووية، وما فوق النووية حتى لا نفسد على الحداثيين مزاجهم من خلال فتح هذه المواضيع المحرجة، والتي تبعد عن الثقافي، وإنما نحب أن نرى تجليات الموقف من الآخر في الاعلام "الحر الليبرالي" وفي هوليوود، وفي العلاقة وعلى مختلف المستويات مع السود والمكسيكان والعرب والمسلمين والآسيويين، بل نود على الأقل أن نرى ذلك في الجامعات وما يصدر من كتب عموماً تتناول الشرق أو التاريخ أو الإنسانيات عموماً. أما اعتبار بعض الكتابات أو المواقف المهمشة والتي تتسم بالنزاهة ممثلاً للمشهد هناك فهي مثل اصطياد الضائع أو الشارد من القطيع. ان الوان العنصرية والعجرفة ضد الشعوب الاخرى، وبعضها يصور "الآخر" حتى في البرامج المخصصة للاطفال "مثلاً والت ديزني" بدرجة عالية من التشويه والازدراء والتندر، وهذه تغطي القسم الاعظم من المشهد الحداثي، في الغرب بالنسبة الى العرب والمسلمين على الخصوص، فمن اين جاءت تلك الصورة، والمفاهيم حول الآخر كما يصورها اصحابنا ويجعلونها سمة أساسية من سمات الحداثة هناك بل هي الحداثة ويدعون شعوبنا للانفتاح عليها. لو انهم تحدثوا عن ضرورة اللحاق بالمنجزات العلمية والتكنولوجية والسعي الى الابداع فيها لأمكن اعتبار موضوعة الانفتاح على الحداثة ذات وجاهة، لكن حتى هذه ممنوعة علينا وتقع ضمن الاحتكار الصارم الذي تمارسه قيادات دول الحداثة وشركاتها الاحتكارية متعدية الجنسية والحدود، الامر الذي يجعل الوصول الى ذيولها وليس اليها دونه خرط القتاد، ولا يتحقق بمجرد الانفتاح بكل هذه البساطة، والتبسيطية، وهو ما كان ممكنا ان يحتج به قبل انهيار اقتصاديات النمور الآسيوية، واقتراب اقتصاد اليابان من الهاوية، الامر الذي يفترض من المهتمين بأمر الحداثة ان يعيدوا النظر في فهمها ومعرفتها لا من خلال رؤيتها كيف تبدو من بعيد، ولا من خلال الحديث التبسيطي عن الثورات التكنولوجية والعلمية، وانما من خلال فهمها من الداخل، اي من خلال معرفة الآليات والماكنيزمات التي تقوم عليها الحداثة، ومن هي القوى المسيطرة عليها، وما هي سياساتها وأيديولوجيتها، وما هو الموقع الذي ينتظر دول العام الثالث في عالم تلك الحداثة اذا سلمت بشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وفتحت اسواقاً كما تريد "العولمة" اي كما تريد الولاياتالمتحدة الاميركية والشركات متعدية الحدود التابعة لها. على ان المثير للانتباه ان كلام بعض المثقفين على الحداثة والدعوة للاندماج بها حتى دون سؤال او شرط، ترافق مع هجمة "العولمة"، اي مع الهجمة التي تدعو دول العالم الثالث الى فتح حدودها امام الشركات متعدية الجنسية وفتح اسواقها لحرية التجارة والاستثمار وتنقل الاستثمارات ورؤوس الاموال، بل ان اغلب هؤلاء من دعاة فتح هذه الاسواق، وضمن الشروط التي تطرحها العولمة، ويضمنونه من خلال الدعوة للانفتاح الثقافي وغيره، الامر الذي يعني ان ميزان القوى الاقتصادي - العسكري - السياسي فرض نفسه عند اولئك البعض على الثقافي، وإذا بنا ازاء تيار ثقافي اسقط كل نقد للحداثة من حسابه، وراح يرسم لها صورة زائفة زاهية "حول موقفها من الآخر" هي لا تريدها، ومن ثم لا تريد من الآخر ان يصدق انها تقبله نداً، او تحترم خياراته، وتتبادل الرأي وإياه، ولا ترمي به "خارج" ذاتها، لأنها تدخله فيها تابعاً وتسعى الى نزع كل مقومات المقاومة فيه وتلونه بألوان معدة له، هي غير الوانها الأساسية. اما المثير للانتباه اكثر ان هؤلاء يقفون على "يمين" مجموعة الدول الپ15 كما بدا في مؤتمرها الأخير في القاهرة، وهي عينة ممثلة لدول العالم الثالث بما فيها "النمور الآسيوية" بل يقفون حتى على يمين أغلب دول المجموعة الأوروبية والصين وروسيا في ما يتعلق بالموقف من العولمة ومن العولمة الثقافية، فبينما تواجه سياسة فرض العولمة الأميركية على العالم قلقاً متزايداً من غالبية دول العالم ليس على اقتصادها وسيادة دولها فحسب، وإنما أيضاً على هويتها وثقافتها حين يراد اللثقافة ان تتحول إلى سلعة في الأسواق المفتوحة لا يهز هؤلاء أي قلق بل ثمة قلق في بعض الأوساط الأميركية من المهتمين بقضايا الصحة والضمان الاجتماعي والبطالة والجريمة من تلك العولمة التي حملها كلينتون وبلير ليفرضاها على الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة الدولية الذي عقد في جنيف بين 18 و20 أيار مايو 1998 بينما ليس من "قلق" مثل هذا عند هؤلاء. وهكذا بدلاً من التسليم السعيد للعولمة بطبعتها الأميركية المعروضة الآن، واعتبارها قدر العالم الذي لا يقاوم وما ينبغي له أن يقاوم كان على هؤلاء أن يسبقوا مجموعة دول ال 15 وبعض دول الثمانية في مطالبة العولمة التي تريد الولاياتالمتحدة فرضها على العالم، وليس التكنولوجيا وليس التقدم العلمي وثورة الاتصالات ان يقوم النظام العالمي على توازن يراعي مصالح كل الدول وفي مقدمها الدول الفقيرة والنامية، ويراعي هوياتها وثقافاتها وخياراتها، إنها "آخر" كذلك، ولها بعض حقوق الآخر في الاقل. بكلمة، ان حداثة الغرب، وعلى الخصوص حداثة أميركا، لا يمكنها اعطاء الدروس في العلاقة بالآخر أو النظر إليه جو معاملته، ولا يمكنهما أن يكونا مثالاً، أما الانفتاح على منجزات العصر أو الاشتراك في صياغة قيم انسانية عالية فطريقه غير "الهرولة الثقافية" والاستسلام السياسي والاقتصادي. * كاتب فلسطيني