ثمة تعقيدات في تحول كتل متنوعة من المعارضة السورية إلى مزيج متجانس، بمعنى صعوبة دمج ثلاثة أطراف رئيسة منها تختلف من حيث المنبت والبنية وشروط التكوين وتالياً المهمات المنوطة بها وآليات العمل والنشاط. وما يكرس هذه الاختلافات ويعمقها، استمرار الشروط الأمنية القاسية وحضور آلة قمعيه تتصرف من دون رادع قانوني أو أخلاقي لسحق مناهضيها وتكريس سيطرتها وفق منطق القوة والعنف والغلبة. ثمة ما اصطلح على تسميته معارضة الداخل، وهي بقايا الأحزاب والشخصيات السياسية التي عانت الأمرّين من ظلم السلطة، ونجحت في الحفاظ على كياناتها وحضورها على رغم حملات القمع والإقصاء والسجون، لكن سنوات الاستبداد الطويلة أورثتها حزمة من الأمراض أربكت دورها وحدّت من فاعليتها. وإذا استثنينا ما تصدره هذه المعارضة من بيانات ورسائل سياسية كمساهمة في رصد الحراك الشعبي ودعم مطالبه، فلا تزال في غالبيتها عاجزة عن المبادرة وغير قادرة على مواكبة انتفاضة الشباب وتمكينها، ربما لأن ما حصل فاجأها ولا تعرف إلى الآن سبيلاً لملاقاته والتفاعل معه، وربما لأن بعضها تحكمه المصالح الحزبية الضيقة ويصرف قواه في مناقشات ومنازعات لا طائل منها، وربما بسبب طابع قيادتها الهرمة وغالبيتها أدمنت خطاباً سياسياً عتيقاً وعسيراً، عليها التحول الى قيادة جماهيرية أو ميدانية... من دون أن نغفل أن أهم أسباب استمرار إخفاقها في توحيد صفوفها وتواصلها مع الانتفاضة الناهضة، يرجع إلى تركيز الجهود الأمنية لخنق دورها وتوظيف مختلف وسائل القمع لمنع هذا التواصل، تعززها أزمة ثقة مزمنة بين الطيف المعارض والناس خلقتها عوامل موضوعية وذاتية متنوعة لم يُصر الى معالجتها أو على الأقل التخفيف منها، الأمر الذي يفتح الباب موضعياً أمام أولوية تجاوز أوضاعها المبعثرة والمشتتة، أو على الأقل توحيد خطابها السياسي وإيقاع نشاطها لدعم الحراك الشعبي ومدّه بالخبرة والمعرفة، بخاصة أن من بينها قوى وشخصيات اكتسبت خبرة كبيرة خلال كفاحها المرير ضد الاستبداد، وفي الإمكان وضع رصيدها السياسي والمعنوي في خدمة الانتفاضة، لتعزيز استمرارها وحمايتها من التطرف والانحراف والحفاظ على تطلعاتها الديموقراطية من الضياع. وفي المقابل، هناك معارضة الخارج وتتألف من المنفيين السياسيين وهم كثر، ومن أولئك السوريين ذوي الكفاءات العلمية والمهنية الذين بدأوا يهتمون بشؤون بلادهم بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية وتحت وطأة الضغط الأخلاقي تجاه ما يتعرض له المحتجون من قمع وتنكيل. وبالفعل ظهرت أسماء ومجموعات ليست لديها انتماءات حزبية أعلنت انحيازها للانتفاضة، وبدأت في إعادة صوغ علاقتها مع مجتمعها، وربما تتطلع للعودة والمشاركة في بناء الدولة الديموقراطية. ولهذه الكتلة خصوصيتها وشروط عملها المختلفة، فهي في منأى عن القمع وتمتلك هامشاً واسعاً من الحرية والنشاط، ما يجعلها الأقدر على مد الحراك الشعبي بأسباب الدعم وبخاصة التعبير السياسي والإعلامي عن همومه ومطالبه وكسب الرأي العام في الخارج... لكن ما يضعف دورها هو تفككها، وتعويلها على ارتباطاتها المنفردة مع معارضة الداخل، وفي حال اتجهت لتأمين وحدتها كمعارضة خارجية يمكنها أن تكون أحد المفاتيح المهمة ليس لتقوية دورها فقط، وإنما أيضاً لتسهيل وحدة المعارضة ككل. أما الكتلة الثالثة، فهي قوى الانتفاضة الشعبية وهي الجسم الحيوي الفاعل والواعد، والذي نهض بصورة عفوية دفاعاً عن كرامته وحريته من غير قوى سياسية أو شخصيات ورموز تقوده ومن دون شعارات أو برامج مسبقة، بل تنطحت لقيادته مجموعات شبابية نالت ثقة الناس من خلال صدقيتها واستعدادها العالي للتضحية، وعلى رغم عفوية الانتفاضة وغياب أي تحضير أو تخطيط لها، نجح شبابها في بناء هياكل وأطر تنظيمية حملت اسم التنسيقيات قابلة للتطور بما ينسجم مع حاجات تقدم الاحتجاجات وتجذيرها، وتمكنوا تدريجاً من توحيد قطاعات مهمة من هذه التنسيقيات على مستوى المناطق الأكثر سخونة ونشاطاً، ويبدو أنهم الآن في طريقهم عبر إعلان الهيئة العامة للثورة السورية لاستكمال هذه العملية وتشكيل قوة واحدة قادرة على العمل الميداني والسياسي المتسق. صحيح أن هذه التكوينات القيادية الميدانية اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة ليس فقط في تنظيم صفوفها وإنما أيضاً في حمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، ونجحت كأشكال تنظيمية مرنة في تأمين استمرار الانتفاضة وتغذيتها من خلال تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهمات وتوحيد النشاطات، وصحيح أنها تنتشر في كل موقع ومكان ما يجعلها عصية على الاعتقال، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جهوداً أمنية هائلة مخصصة لملاحقة ناشطيها، ويبدو بعضهم كأنهم يحملون أرواحهم على أكفهم، ما يعني أن أية محاولة لجرّهم إلى أجواء المؤتمرات والمجالس السياسية المكشوفة هو أشبه بمن يعرّضهم لأخطار مباشرة، وأقله نقل أمراض العمل المعارض ومشكلاته إلى صفوفهم. نعم، إن مطلب وحدة المعارضة في هيئة تنظيمه واحدة على تنوع كتلها وأطرافها هو ضرورة لا خلاف عليها، لكن يصعب تحقيقه في الظروف الأمنية والمتحركة الراهنة، وذلك لا يؤثر في وزن المعارضة وفاعليتها إذا اقتنعت قواها بهذه الحقيقة واتجهت كل كتلة للنهوض بالدور المنوط بها وبالتنسيق والتكامل مع الأدوار الأخرى. بعبارة ثانية، ان الطريق الأجدى ربما للتقدم نحو توحيد المعارضة، وبلورة حضور فاعل للحقل السياسي والخروج من حالة التشتت لا يصنعه تعدد المؤتمرات والمجالس الوطنية، والتي بدا أنها تزيد الانقسام انقساماً، بل بأن يقوم كل طرف بعمله في سياق الشروط الخاصة التي تحكم نشاطاته ربطاً ببلورة خطاب مشترك أمام الرأي العام يظهر صحة تنوع العمل المعارض وتباين أدواره وقدرته على تكوين قنوات للتنسيق والتكامل بما يرسخ أقدام الحراك الشبابي ويطمئن الجميع، بخاصة القطاعات المترددة، إلى أهداف الانتفاضة وغايتها، وبلا شك لن يتأخر الوقت كثيراً إلا ونحن نقف أمام محصلة لقوى أثبتت بالملموس قدرتها على نيل ثقة الناس، وأظهرت نفسها كطرف متميز، ينقض الماضي ويحمل مستقبلاً واعداً، واستعداداً عالياً للتضحية من اجل الكرامة والحرية. * كاتب سوري