عندما تطالع أسماء الدول الاثنتين والثلاثين التي تتنافس الآن على كأس العالم في كرة القدم، ليس من الغريب ان تقول لنفسك: "ولمَ لا؟ ها هي ذي الدول المتقدمة في كل شيء متقدمة ايضا في كرة القدم". بل وقد تذهب الى حد ان تقترح على الاممالمتحدة ان تضيف مؤشراً جديداً الى مختلف مؤشراتها المألوفة للتقدم الاقتصادي او للتنمية البشرية، ترتب بمقتضاه الامم بحسب ادائها في كرة القدم. ففي قياس التنمية البشرية مثلاً يمكن أن يضاف هذا المؤشر الى المؤشرات الثلاثة المستخدمة حالياً: متوسط الدخل، ومتوسط العمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى التعليم. ذلك ان مستوى الاداء في كرة القدم ذو علاقة وثيقة بكل هذا. ألا يتحسن لعب الكرة بتحسن مستوى التغذية، والصحة عموماً، ومستوى التعليم؟ اولا يتحسن الاداء في لعب كرة القدم بزيادة درجة الاستعداد للانضباط، وللتعاون مع بقية اعضاء الفريق، وبتوفر الاموال اللازمة للتدريب، والوقت اللازم له، والملاعب الملائمة في كل مدرسة، وبارتفاع الروح المعنوية، والطموح والحميّة الوطنية... الخ. أو ليست كل هذه الاشياء من سمات الدول المتقدمة اقتصادياً؟. نعم هناك استثناءات. ولكن، فلننظر هل هي استثناءات حقاً؟. فدول العالم الثالث التي صعدت الى المباريات الحالية صعدت اليها بانتصارها على دول اخرى من قاراتها نفسها وليس على دول اوروبا او اميركا الشمالية. ومن بين الدول السبع التي صعدت من اميركا اللاتينية هناك اربع على الأقل مما يمكن اعتبارها من "ارستقراطية" العالم الثالث، وهي البرازيل والمكسيك والارجنتين وشيلي، وبعضها يُصنّف من بين الدول "المصنّعة حديثاً" وبعضها ارتبط اسمه باسم "المعجزة" الاقتصادية في فترة او اخرى خلال الثلاثين عاماً الماضية. نعم هناك ثلاث دول عربية، ولكن من بينها دولة هي السعودية، يزيد متوسط دخل الفرد فيها على 7 آلاف دولار في السنة. هناك ايضاً ثلاث دول افريقية من جنوبي الصحراء، ولكن واحدة منها جنوب افريقيا هي ايضا من بين "ارستقراطية" الدول الافريقية. ستبقى مع كل هذا استثناءات ليس من السهل تفسيرها اقتصادياً. ايران مثلا، والكاميرون، ونيجيريا. كما ان الثراء وحده لا يفسر كل شيء، فهناك من الدول الثرية من خرج من حلبة المنافسة كالسويد، لهزيمتها على يد دول أقل ثراء. ولكن، تبقى الظاهرة في إجمالها صحيحة، ولا يمكن الشك فيها، وهي ان هناك شيئاً مشتركاً بين التقدم الاقتصادي والتقدم في كرة القدم. بهذا نفهم جزءاً على الأقل من هذا التنافس الحاد، الى حد الاستماتة، بين الامم للصعود الى مباريات كأس العالم، وما يصيبها من أسى عميق وخيبة الأمل الشديدة اذا خرجت منها، والفرح العارم الذي يعتري أمة افريقية او أسيوية اذا هزمت امة اوروبية في هذه المباريات، إذا قورن بشعورها إذا انتصرت على دولة افريقية او اسيوية مثلها. في مباريات كأس العالم إذن، "طبقية" لا يستهان بها، يحاول القائمون على هذه المباريات إخفاءها او التخفيف من حدتها بأن يتكلموا وكأن الألوان كلها سواء، الابيض والاسود والاصفر والبنّي. وهي محاولات مشكورة على أي حال، لولا أن ما في داخل النفس يبقى في داخل النفس * كاتب وجامعي مصري