كلما سقط دكتاتور وانهار نظام شمولي في اي بقعة من بقاع العالم عمت الغبطة والبهجة ليس لدى شعوبهم التي اختزلوها على حد تعبير الشاعر النيجيري وضحية احد هذه الانظمة كين سارو ويوا الى مجرد ذرات من تراب، بل أيضاً لدى عموم الناس في أنحاء العالم، خصوصاً عند اولئك الذين لا يزالون يعانون انفسهم من تسلط الديكتاتورية والشمولية في بلدانهم ويتطلعون الى زوالها. هذه الحالة من الابتهاج العفوي الصادق تكررت اخيراً بانقشاع مرحلة سوهارتو الاندونيسية ولا بد انها تثير الكثير من الاسئلة عن المعنى الحقيقي الذي تختزنه إطلالة اللحظة التاريخية الواعدة بعد سنوات ولربما عقود من العيش في دياجير الزنازين المظلمة التي سيجت بها الانظمة الديكتاتورية الاوطان وظنت انها حولتها سجوناً الى الأبد. أول هذه الاسئلة التي اثارها سقوط سوهارتو كما اثارها من قبل سقوط محمد رضا بهلوي وشاوشيسكو وفرديناند ماركوس ودوفاليه وبول بوت وبينو شيه وموبوتو وامثالهم من الطغاة الصغار والكبار الذين زخر بهم هذا القرن، هو كيف أمكن لسفاحين ومهرجين وعصابيين ومهووسين ان يجوسوا طريقهم الى السلطة خلسة وان يتبوأوا مناصبهم بالخديعة والغدر طيلة هذه السنين المشؤومة فيهينوا شعوبهم ويحولوا حياتهم الى مسلسل لا نهاية له من القهر والمآسي الإنسانية تجري بين الحوائط والاسوار. هناك حيرة وانبهار وذهول ازاء ظاهرة الاستبداد هذه التي تخطت الازمنة والاديان والثقافات والشعوب والملل حتى أضحت وكأنها نبتة شيطانية تمتد جذورها في كل ارض وفي كل حين، واذا كان التفرد بالسلطة المطلقة والطغيان صفة ملازمة للحكم المفوض في العصور السحيقة وعهود ما قبل قيام المجتمعات المنظمة مدنياً وسياسياً وظهور شرائع حقوق الانسان ومبادئ الديموقراطية والحرية فأي مبرر ذلك الذي يتيح في حياتنا المعاصرة استمرار مثل هذا النكوص الحضاري؟ ثاني هذه الاسئلة المحيرة ولربما البسيطة ايضاً هو كيف استطاعت هذه الأنظمة ان تتربع على سدة السلطة وتستمر كل هذه السنين مشيعة الخراب المادي والروحي في مجتمعاتها، وأية طاقة هي التي ظلت تحملها على ريح معاكسة لاتجاه التاريخ وارادة شعوبها كل هذا الوقت؟ ثلاثون سنة ربما هو معدل حكم الديكتاتور من هؤلاء، يتحول خلالها الناس والأوطان بالتقادم ووضع اليد الى مجرد ضيعة لا يمكن ان يفكر احدهم بالتنازل عنها طوعاً إلا حين تحين ساعة الحقيقة والحساب. لمن ينبغي ان نتوجه بهذا السؤال؟ الى الضحية التي عانت من المهانة والذل والألم طويلاً حتى ظن انها استطيبته، ام الى العالم الخارجي الذي أجل إحساسه بالمسؤولية وارتكن الى الحلول التي تحمي مصالحه واهدافه من دون مساءلة او وخز من ضمير؟ كلنا يعلم ان عنف الطاغية على مر الازمان والاوطان كان ضارياً وأشد شراسة مما يدركه الآخرون ممن لم يكتووا به. لكن، ألم يهيئ بعض الضحايا انفسهم الارضية الخصبة التي نمت بها تلك الآفات من بينهم من خلال كسلهم وعجزهم وغبائهم وحماقاتهم ثم ساروا نياماً في طريق الظلم والاضطهاد والاستبداد؟ ثم كم منهم ارتضى ان يكون للديكتاتور مطية ودجالاً وحامل بخور وقارع طبول؟ اما عن العالم او العامل الخارجي، فأية بلاغة بإمكانها اليوم ان تنفي انه في معادلة الديموقراطية إزاء السوق كانت الغلبة دوماً لدعاة تراث وثقافة الثانية وليس لمروجي الشعارات المثالية. وهكذا كانت اليد التي صنعت او شاركت في صنع الجريمة تطل في كل مرة يشارف مفعول الطاغية على الانتهاء، لكي تنضم رياءً الى صفوف الشعب والمتضامنين معه والمؤازرين الحقيقيين له بحثاً عن فرص اخرى لأسواقها ولمصالحها واستثماراتها بين ركام الخراب والدمار الذي يخلفه النظام البائد. ومع ان للدكتاتور او النظام الشمولي، كما اتضح من التجارب التي مرت، عمراً افتراضياً ينتهي بانتفاء الحاجة اليه، فإن السؤال الثالث هو: هل ان سقوطه حتمي، اي امر مفروغ منه ويأتي في أوانه؟ الجواب واضح. لا شيء حتمياً كما تقول التجربة التاريخية أي بمعنى تلقائي وأكيد من دون خوض الصراع معه مهما كانت اشكاله يصل احياناً الى حد المعجزات كما حدث في جنوب افريقيا او ملحمي كما حدث في ايران الشاه او صلب وعنيد كما حدث مع موبوتو. من النادر جداً كما عودتنا التجربة ان يتخلى الديكتاتور المتحصن بأوهام العظمة وسلطة القمع طوعاً عن سلطته من دون ان يجبر على ذلك ومن دون ان يتوج مسيرة شروره بالمزيد من الدم والدموع والألم حتى ولو كان ذلك مجرد خمسمئة قتيل من شعبه كما حدث مع سوهارتو ليضمهم الى نصف المليون او ربما المليون حسب منظمة العفو الدولية من الجماجم التي صعد على أكوامها الى سدة الحكم منذ عام 1966. ثم هناك السؤال الرابع: هل تعني نهاية ديكتاتور ان بلده اصبح آمناً وذا مناعة ضد الديكتاتورية والشمولية ومحصناً من هجمات عوارض التسلط المنطلق وأنظمة العسف؟ وفي إمكاننا ان نضع السؤال بصيغة اخرى: هل تورث الديكتاتورية وهل تعيد انتاج نفسها بأشكال جديدة؟ وهل ترسخ جذورها في الارض لكي يعاد إنباتها كلما تهيأ لها مناخ مناسب من الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع ذات مريضة وأنا متضخمة؟ الواقع والأحداث يقولان انه لم يثبت الى الآن أن سقوط الديكتاتور يوفر المناعة اللازمة ضده ولا يمكن ان يعني نهاية الظاهرة اذا لم تصاحب ذلك عملية هدم لقواعد وهياكل الشر والظلم والفساد التي اقامها وإعادة بناء المجتمع على اسس الخير والعدالة والحرية والمساواة وفي مناخ يدفع بنضج عملية ديموقراطية تمنع من تكرار المغامرة والتجربة المريرة. غياب هذه الشروط بالذات هو الذي يمنع الملايين من الاندونيسيين من التصديق ان بإمكان بشار الدين يوسف حبيبي ان يكون المنقذ والبديل المنتظر لسوهارتو مثلما يمكن ان يكون لوران كابيلا بديلاً منتظراً لموبوتو في الكونغو. وعموماً يشكّل سقوط سوهارتو في مقدماته وأسبابه وهو حدث غير عابر ومبهج حقاً علامة بارزة في تاريخ النضال ضد الانظمة الديكتاتورية التي اقيمت في بلدان ما كان يدعى الى حد قريب بالعالم الثالث خلال النصف الثاني من هذا القرن. وتجربة صعود هذا الديكتاتور وسقوطه جديرة بالدراسة والتمعن لهذه الظاهرة التي كلفت هذه البلدان لحد الآن تضحيات ومحناً يصعب حصرها بدقة. إلا ان المؤكد ان افظع نتائجها هو أنها عطّلت دورتها الحضارية حين جعلت لعبة السلطة فيها راسخة في حلقة من العنف والدم يصعب كسرها. وفي يقيني ان مرحلة سوهارتو الاندونيسية بتأريخها وابعادها الاقليمية والدولية تصلح كمقاربة سياسية تلخص بامتياز تجربة الحكم الديكتاتوري والشمولي في العديد من بقاع العالم التي مرت بظروف مشابهة وواجهت تحديات ومصاعب مماثلة. حاولت الدعاية دائماً ان تطمس الحقائق البشعة التي نتجت عن الانقلاب الذي قاده سوهارتو على الرئيس السابق سوكارنو وان تصبغ له صورة الزعيم الذي جعل من اندونيسيا نمراً اسيوياً آخر مغفلة او متجاهلة هوية النظام الديكتاتوري الذي اقامه وسجله غير المشرف من الفساد والقمع والطغيان. فمنذ الايام الاولى لصعوده الدموي الى السلطة هلّلت اجهزة الاعلام لسوهارتو باعتباره منقذ اندونيسيا ولربما جنوب شرقي اسيا من براثن الشيوعية. واستناداً الى الوثائق التي نشرها المفكر الاميركي نعوم تشومسكي في كتابه "سنة 501 الغزو مستمر" فإن الضابط سوهارتو الذي انقلب على زعيمه حظي بإعجاب كبار الكتاب والمعلقين في اشهر الصحف الاميركية والبريطانية واليابانية التي ظلت تشيد به وبإنقلابه الدموي، حتى ان كاتباً رصيناً مثل جيمس ريستون وصف الحدث في "النيويورك تايمز" بأنه "شعاع من النور يطل على آسيا، بينما حفلت صحف مثل "الواشنطن بوست" ومجلة "التايم" و"لوس انجلس تايمز" و"الايكونمست" بعبارات إشادة مماثلة. وكان على العالم ان ينتظر اثنتين وثلاثين سنة، وبعد ان انهارت تجربة النمور التي كانت قائمة على اساس من الفساد والغش والسرقة، لكي يسمع من كاتب رصين آخر في "النيويورك تايمز" هو توماس فريدمان بأن نظام سوهارتو لم يكن سوى "حكم اللصوص الذي شكّل قلعة المواجهة مع الاصلاح". التجربة الاندونيسية وضعت مرة اخرى تحت الاضواء مأساة الديكتاتورية في عالمنا المعاصر كتحدٍ يواجه المجتمعات التي لا تزال الديموقراطية تستعصي فيها على الولادة. وعلى رغم كل ما يقال عن ظواهر العولمة وحتمية نقلها عدوى الديموقراطية كأسلوب مستقبلي للحكم في المجتمعات التي لم تزل تحصّن نفسها ضدها، فإن من الصعب التكهن الآن بأن هذه المجتمعات ولأسباب تتعلق بالإرث الديكتاتوري القمعي، سوف تتمكن قريباً من تخطي هذا الشكل المدمر من انظمة الحكم والعبور الى بر النهوض الحضاري. وببساطة لا توجد الى الآن أدلة كافية على ذلك. هذا لا يعني بطبيعة الحال ان اختفاء دكتاتور من عالمنا ليس جديراً بالاحتفال وان يكون تحريضاً نبيلاً للناس ضد التقاعس واللامبالاة ومن أجل التغير الايجابي، بل انه مجرد وصفة ضد الإفراط في التفاؤل. عندما سئل سوهارتو لماذا لا يستقيل استجابة لمطالب الجماهير التي كانت تتظاهر يوميًا ضده منذ شهور، أجاب انه حتى لو اضطر لمغادرة كرسي الحكم فإنه سيظل يعمل ك "بانديتو" اي "حكيم" بلغة البلاد ليقدم النصح والمشورة الى الناس. مثل هذه الجرأة والصفاقة جديرة حقاً بديكتاتور أنجز بجدارة ذلك الكم الهائل من الأكاذيب التي حاول بها التغطية على جرائمه منذ حمّامات دم عام 1965، حتى انهيار اقتصاديات اندونيسيا بفعل نهب عائلته واصدقائه. لكنها ايضاً تعبر عن رغبة متجذرة لدى الديكتاتور وإصرار على الحفاظ على إرثه طالما أنه ينظر الى نفسه باعتباره منقذاً وليس جلاداً. مثل هذه التمنيات تعني ان المطلوب ليس سقوط الديكتاتور وشروره فقط بل الأهم هو سقوط إرثه.