تصديق البرلمان الاندونيسي في الاسبوع الماضي بالموافقة على الاصلاحات الدستورية التي سهر على اعدادها مجموعة من الاكاديميين والمتخصصين والاندونيسيين طوال اشهر الصيف، يُعد في الواقع خطوة متقدمة على الطريق الصحيح والمطلوب نحو نقل البلاد من المرحلة الانتقالية الراهنة التي اعقبت سقوط نظام الجنرال سوهارتو الديكتاتوري الفاسد الى مرحلة الديموقراطية والتعددية السياسية الحقيقية. كتب عبدالله المدني: رغم ان ما صُودق عليه في البرلمان الاندونيسي سوف يعيد للاندونيسيين ديموقراطيتهم الخمسينية التي اختطفها منهم الرئيس الاسبق احمد سوكارنو ليجيء من بعده خلفه سوهارتو ويقيم بمساعدة زملائه العسكر نظاماً ديكتاتوراً اكثر بشاعة استمر لمدة اثنين وثلاثين عاماً، فان هناك مخاوف كثيرة من احتمالات الانتكاس او الفشل وقت التطبيق. وهي مخاوف تدعمها اكثر من حقيقة وتجربة. ذلك ان دولة لم تعرف التعددية واحترام الحريات لعقود طويلة من الزمن لا يمكنها ان تدشّن تجربة ديموقراطية حقيقية بنجاح ما بين ليلة وضحاها، خاصة وان الكثيرين من رموز العهد البائد ومناصريه والمستفيدين من اساليبه لا يزالون يتمتعون بالنفوذ، ناهيك عن ان المؤسسة العسكرية صاحبة الامتيازات الكثيرة والدور الوظيفي المزدوج ليس من السهل عليها الانزواء بعيداً عن الحياة العامة لمجرد ان الشعب يريد ذلك، وان كان قائدها الجنرال ويرانتو يؤكد على موافقته على الاصلاح السياسي. واذا كان المنطق والتجربة يقولان بضرورة وجود فترة انتقالية تتراوح على الاقل ما بين سنتين وثلاث عند خوض التجربة الديموقراطية بعد عهد طويل من الديكتاتورية كي يتسنى لقوى المجتمع واحزابه السياسية اعداد نفسها والوقوف على على ارضية جماهيرية صلبة، فان الاندونيسيين التواقين الى الحريات، شأنهم في ذلك شأن الشعوب الاخرى التي كُبّلت طويلاً، لم ينتظروا حتى تُقر التشريعات المنظمة للعمل السياسي الحر، وبدأوا في تأليف الاحزاب والتنظيمات السياسية على الفور. ويرى بعض المراقبين ان التحول باتجاه الديموقراطية والاصلاح بنجاح يعتمد في المقام الاول على تصحيح الاوضاع الاقتصادية اولاً والتي بسبب من تخبطات النظام السابق وفساده ادت الى ان يعيش اكثر من تسعين مليون مواطن او نصف سكان البلاد تقريباً تحت مستويات الفقر المعروفة. ذلك ان عدم تحسن هذه الاوضاع بسرعة يعني انتشار الاحباط والتذمر المؤدي الى الفوضى التي قد تعيق تطبيق الاصلاحات السياسية وتعطي الفرصة للنظام للتراجع عما وعد به تحت ستار غياب الامن الداخلي. لكن ماذا عن الاصلاحات المقررة وما هو مدى اختلافها عما كان معمولاً به في نظام سوهارتو؟ مما لا شك فيه ان جوهر ما اقر الى اليوم يتعلق بصفة اساسية بالنظام الانتخابي. ففي ظل النظام القديم كان البرلمان يتكون من 500 مقعد وكان التنافس يجري على 425 مقعداً فيما تملأ المقاعد الاخرى بالتعيين من ضمن رجال المؤسسة العسكرية، وكانت الانتخابات تجرى وفق قاعدة التمثيل النسبي على ان يقوم المقترح بالتصويت لصالح مرشحي احد الاحزاب الثلاثة المشروعة اضافة الى حزب غولكار الحاكم، كان هناك حزبان آخران فقط هما الديموقراطي الاندونيسي والتنمية المتحدة وكلاهما خاضع لسطوة الاول. ولما كانت هذه الاحزاب هي التي تختار مرشحيها فان هؤلاء كانوا يستمدون شرعيتهم من احزابهم الصورية وكان ولاؤهم لقادتهم وليس للناخبين. اما البرلمان القادم المقرر انتخابه في 15 ايار مايو من العام المقبل فسوف يتكون من 550 نائباً يتم انتخاب 420 منهم انتخاباً مباشراً في 420 دائرة انتخابية، فيما تمنح المقاعد الباقية الى رجال المؤسسة العسكرية 55 مقعداً والى رموز الاحزاب الاقليمية الصغيرة 75 مقعداً وفق كوتا معينة. والعملية الاخيرة قصد بها اتاحة الفرصة لدخول البرلمان امام تلك الجماعات التي لها قواعد شعبية لكنها لا تملك آليات كافية لاحتلال المقاعد البرلمانية بالانتخاب. ومن الامور المثيرة للجدل في التعديلات الدستورية الاخيرة، الشرط القاضي بأن يحصل كل حزب متنافس في انتخابات 1999 على نسبة عشرة في المئة من مجموع المقاعد البرلمانية والا فانه سيفقد حق التنافس في الانتخابات التالية عام 2003. والتشريع الاندونيسي الجديد لا يحدد عدد الاحزاب في البلاد برقم معين لكنه يضع قيوداً وشروطاً تتمثل في ان امام الجماعات السياسية خيارين لنيل الاعتراف الرسمي بها كحزب هما إما ان يكون للحزب المقترح مكاتب وحضور في ما لا يقل عن 14 من اصل أقاليم البلاد السبعة والعشرين، واما تقديم ما يثبت حصولها على توقيع مليون مؤيد. وفي تطور اصلاحي آخر تقرر ان تكون الحكومة والاحزاب السياسية والتنظيمات المدنية الاخرى ممثلة بالتساوي في اللجان المشرفة على الانتخابات النيابية من بعد ان كانت هذه اللجان بقيادة وزير الداخلية ولا تتمثل فيها سوى الحكومة. كما تقرر ان يمنح رجال الجهاز المدني الحكومي حق التصويت في الانتخابات، لكن دون منحهم حق الانضمام الى الاحزاب او خوض الانتخابات كمرشحين سوهارتو كان يعطيهم الحقوق الثلاثة على ان يكون هو المستفيد الاوحد منها. وفي ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، فان التشريعات الجديدة حددت ولاية رئيس البلاد بفترتين مجموعهما عشر سنوات غير قابلة للتجديد او التمديد، بعد ان كانت تشريعات سوهارتو السابقة لا تتحدث عن الموضوع. ولم تكتف بذلك، بل امتدت اصلاحاتها الى جمعية الشعب الاستشارية المكلفة بالاجتماع كل خمسة اعوام لاختيار الرئيس حيث تم تخفيض عدد اعضائها المعينين من الف عضو الى سبعمائة، شريطة ان يكون 550 منهم من المشرعين و81 من ممثلي المجالس الاقليمية المنتخبة و69 من ممثلي المنظمات والنقابات المهنية والشعبية، وذلك على العكس مما كان قائماً في عهد سوهارتو، حيث كان الاخير يحرص على ان تكون غالبية اعضاء الجمعية من العسكر او من بطانته او من المحسوبين على اسرته كي يضمن الفوز بولايات رئاسية متتالية. وعلى خلاف تشريعات سوهارتو التي تجنبت منح صلاحيات حقيقية للسلطات الاقليمية خوفاً - كما كانت تزعم - من احتمالات انهيار وحدة الارخبيل الاندونيسي، فان واضعي التعديلات الجديدة حرصوا على اعطاء صلاحيات ذاتية اوسع للاقاليم تمكنها من ادارة شؤونها المحلية وفق تصورات ابنائها، وذلك ايماناً منهم بأن هذا هو الذي سيحفظ وحدة البلاد وليس العكس. ويمكن القول ان هناك ارتياحاً بصفة عامة من اقرار هذه التعديلات الدستورية، وان كان البعض يفضل لو ان العسكر منعوا من حق التمثيل في البرلمان القادم، رغم ان حصتهم البرلمانية قد خفضت من مئة مقعد قبل ستة اعوام الى 55 مقعداً فقط. وهذا ناجم بطبيعة الحال من حقيقة ان كلمة "العسكر" صارت تمس عصباً حساساً لدى المواطن الاندونيسي الذي لا يزال يتذكر ما قاموا به من جرائم قمع وتعذيب مع سوهارتو، فما بالك حينما يوفر له الدستور مكاناً وحقوقاً متساوية مع ممثليه تحت قبة البرلمان. ومن ناحية اخرى فان جميع التجارب البرلمانية الآسيوية لا تعطى اي دور اشتراعي للعسكر باستثناء تايلاند التي يوجد في مجلس شيوخها المكون من 262 عضواً 56 شخصية عسكرية. وترى المؤسسة العسكرية من جانبها انها يجب الا تمارس فقط دور من يقوم باطفاء الحرائق بعد اشتعالها، بل عليها ايضاً ان تتواجد في البرلمان وتشارك في التشريع والحيلولة دون طغيان اهواء بعض الساسة ومصالحهم الشخصية في دفع البلاد الى المجهول. وهذا القول بطبيعة الحال مردود عليه لأن العسكر اذا كانوا يرون انهم حماة البلاد ومنقذيها فانهم يستطيعون القيام بدورهم دون الحاجة للتواجد في البرلمان. اما المراقبون فيرون ان العسكر باتوا يعرفون حقيقة صورتهم المهتزة لدى الجماهير ويدركون ان دورهم قد تراجع ولم يعد ممكناً ان يستمروا في ممارسة "الوظيفة المزدوجة" التي اعتادوا عليها في العهد البائد. وجملة القول ان ما أقر من اصلاحات امر جيد ومشجع، لكن يبقى المحكّ الحقيقي هو التطبيق، وهذا ما لا يمكن الحديث عنه الا بعد منتصف العام المقبل، ومن ثم في السادس من كانون الاول ديسمبر 1999 حينما يتم انتخاب رئيس جديد.