تقدمت الحكومة المصرية بمشروع قانون الى مجلس الشعب لإعادة تنظيم الدراسة في الأزهر، يتم بمقتضاه اختصار سنوات الدراسة الثانوية من أربعة الى ثلاثة أعوام، علماً بأن هذه المرحلة الثانوية في المعاهد الأزهرية تنقسم الى ثلاثة أقسام: أدبي وعلمي وفني صناعي وتجاري وزراعي. وسوف يصدر مجلس الشعب قراره بالنسبة الى هذا المشروع بعد انتهاء اللجان المتخصصة فيه من دراسته وتقديم تقرير عنه. والجامع الأزهر هو أقدم مؤسسة تعليمية في العالم، بدأت الدراسة في أرجائه منذ أكثر من ألف عام، ومر خلال هذا العمر الطويل بمراحل متغيرة اصابته بالضعف أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى. ومما لا شك فيه أن مراحل قوة الأزهر وازدهاره كانت هي نفسها مراحل قوة الأمة العربية وازدهارها، وأن مراحل ضعف الأزهر انعكست سلباً كذلك على هذه الأمة. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن المؤسسة التعليمية الأزهرية تمر منذ فترة بمرحلة من عدم وضوح الرؤية أو تحديد الهدف، ازدادت سوءاً بعد آخر محاولة حكومية للاصلاح العام 1961، ما يتطلب منا هذه المرة عدم التسرع في إصدار القوانين الجديدة قبل عمل دراسة شاملة لما يحتاجه الأزهر من عناصر التغيير. والأزهر الذي سمي كذلك نسبة الى فاطمة الزهراء، تم انشاؤه في عهد الحكم الفاطمي لمصر خلال القرن الميلادي العاشر، ليكون مركزاً للدراسات الاسلامية وفق المذهب الشيعي، بناه القائد جعفر الصقلي في عهد الخليفة المعز لدين الله، واستغرق بناؤه عامين وتم افتتاحه في الثاني والعشرين من حزيران يونيو 972. كان الفاطميون أقاموا دولتهم أولاً في بلاد المغرب العربي منذ بداية القرن العاشر قبل نقل عاصمتهم الى القاهرة. وتمهيداً للانطلاق الى الشرق والحلول مكان الدولة العباسية، حاولوا استخدام الأزهر لنشر المذهب الاسماعيلي الشيعي، فكان الحاكم بأمر الله أول من أوقف بعضاً من أملاكه وأملاك الدولة على الجامع الأزهر وتبعه في ذلك آخرون، حتى صار الأزهر منذ البداية مركزاً يجتذب طلاب العلم من جميع أنحاء البلدان الاسلامية. إلا أن خطة الفاطميين هذه لم يكتب لها النجاح طويلاً، فعندما جاء الأيوبيون بعد سقوط دولة الفاطميين العام 1178 وأقاموا دولتهم السنّية في مصر، قرروا الغاء الدراسات الشيعية في الأزهر بل ومنعوا خطبة الجمعة فيه، ما أدى الى إضعاف مركز الأزهر خلال فترة الحكم الأيوبي. ولم يسترجع الأزهر أهميته إلا بعد مضي ثمانين عاماً عند نهاية دولة الأيوبيين. وأصبحت أيام المماليك هي فترة الازدهار الحقيقي لهذا الصرح الاسلامي، وكانت الدولة العباسية في بغداد سقطت في شباط فبراير 1258، على أيدي التتار فأصبح الأزهر هو المعقل الوحيد للدراسات الاسلامية واللغة العربية. إلا أنه في هذا العصر لم يعد الأزهر هو الهيئة التعليمية الوحيدة في البلاد، فقد انشأ المماليك عدداً من المدارس الأخرى كالناصرية والكاملية والبرقوقية والأشرفية. وكان التدريس في الأزهر في هذه المرحلة يتناول جميع العلوم علوم الدنيا وعلوم الدين، فتدرس فيه العلوم الدينية والفلسفية الى جانب علوم اللغة العربية، وكان الاستقلال المالي نتيجة للأوقاف التي وهبها الأثرياء للجامع من العوامل التي أدت الى ازدهار الأزهر في تلك الفترة، كما تمتع الجامع كذلك بالاستقلال العلمي وكان علماؤه أنفسهم هم الذين يحددون مواد الدراسة بل ويختارون شيخ الأزهر نفسه. وانتهى العصر الذهبي للأزهر - بل ولجميع المؤسسات التعليمية في البلدان العربية - مع مجيء الحكم العثماني العام 1517 بعد أن تمكن السلطان سليم من اسقاط دولة المماليك. وأدى فرض العثمانيين للغتهم التركية كلغة الدواوين الرسمية الى القضاء على الدراسة، فقل الاقبال على التعليم كما اختفت المدارس المملوكية ولم يبق سوى الأزهر يقوم بوظيفة التعليم في مصر، بل أصبح المركز الرئيسي الوحيد في العالم الاسلامي. وفي هذه الفترة اقتصر التعليم في الأزهر على القليل من العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية. ولم يعد الأزهر الى مكانته السابقة إلا في القرن التاسع عشر في أيام حكم محمد علي باشا وأسرته، فأصبح مركزاً للدراسات الاسلامية في مصر. تولى محمد علي باشا الحكم في مصر العام 1805 وحكم قرابة نصف قرن، فأدرك منذ البداية ضرورة التسلح بالعلم والمعرفة لبناء مجتمع حديث على أساس الثورة الصناعية التي ازدهرت في أوروبا، فقام بمحاولة جادة لتحديث نظام التعليم في مصر، وأدخل المناهج العلمية الحديثة واستعان بالأجانب في تدريس المواد الجديدة، فأنشأ المدارس على اختلاف أنواعها من ابتدائية وثانوية وعالية، ومن طبية الى هندسية الى غير هذا من مدارس العلوم. إلا أن محمد علي تحاشى التعرض للأزهر ورجاله تفادياً للمعارضة التي توقعها من المشايخ، فظل نظام التعليم الأزهري كما هو من دون تعديل، وأصبح هناك منهجان للتعليم في البلاد فعرفت مصر ازدواجية التعليم والتفكير منذ ذلك الوقت. إلا أن الحركة الثقافية الجديدة كان لها تأثيرها على رجال الأزهر أنفسهم، الذين بدأوا يطالبون باصلاح نظام التعليم في هذه المؤسسة العريقة حتى تواكب العصر الحديث. وأدرك المصلحون قصور نظام التعليم الأزهري عن تلبية متطلبات العصر الحديث، إذ اعتمد نظام التعليم فيه على مجرد حفظ كميات كبيرة من المعلومات عن ظهر قلب، كما لم يحتو برنامج الدراسة على بعض المواد المهمة التي يجب أن يتعلمها الطالب العصري، وانحصرت المعلومات الحسابية على دراسة تمهيدية تساعد في معرفة قوانين المواريث والمواقيت. ولم يحدث تطور جدي في نظام التعليم الأزهري إلا عندما أدرك رجال الأزهر أنفسهم مدى النقص الموجود في هذا النظام، فظهرت الحاجة الى ادخال العلوم الحديثة الى الأزهر، وضرورة إلمام الطالب الأزهري بباقي العلوم المدنية. وفي العام 1825 قام محمد علي بإرسال بعثة تعليمية الى باريس وبصحبتها رفاعة الطهطاوي، وكانت مهمته فيها تنحصر في الصلاة بأفرادها وتعليمهم أحكام دينهم. إلا أن الطهطاوي انتهز هذه الفرصة فتعلم اللغة الفرنسية ودرس بعض العلوم الحديثة. وتبعت هذه البعثة بعثات أخرى تضمنت أزهريين آخرين. وكان الطهطاوي بدأ حياته بطلب العلم في الأزهر ثم اشتغل بالتدريس به، وبعد عودته من باريس دعا لتطوير التعليم بالأزهر في كتابه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية". وأعاب في كتابه هذا قصور حركة الاصلاح التعليمي الجديدة من الوصول الى الجامع الأزهر. وعندما وقعت مصر تحت الاحتلال الانكليزي عند نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الحكومة هي المسؤولة عن نظام التعليم بشكل عام تمضي فيه بحسب توصيات سلطة الاحتلال. إلا أن الانكليز تركوا الأزهر من دون تدخل من جانبهم لما له من الطبيعة الدينية. وكانت أولى محاولات الاصلاح بعد ذلك هي التي تمت في عهد عباس حلمي باشا العام 1872، عندما صدر قرار بانشاء دبلوم بعد اختبار يدخله الطالب في ست مواد ويحصل المتخرج على لقب عالم. كما تم في ذلك العام انشاء "دار العلوم" لتدريب الأزهريين على تدريس اللغة العربية والدين في المدارس المدنية. وكان الخديوي استعان بالشيخ محمد عبده بعد عودته من المنفى في باريس فأقنعه الشيخ بتشكيل "مجلس إدارات الأزهر" العام 1895، وتم اختيار بعض أعضائه من خارج الأزهر من بينهم محمد عبده نفسه. وجاء تشكيل هذا المجلس بمثابة مقدمة لاصلاحات تدريجية تمت في العام التالي، كما ألحق بالأزهر معاهد الجامع الأحمدي بطنطا وجامع دمياط والجامع الدسوقي بدسوق، وجرى تحسين معاشات المدرسين وتحديد سن القبول بما لا يقل عن 15 سنة، بشرط التمكن من القراءة والكتابة وحفظ نصف القرآن. ويحصل من يجتاز الاختبار بنجاح بعد ثمانية أعوام من الدراسة على الشهادة "الأهلية" ويحصل من يكمل أربع سنوات أخرى على شهادة "العالمية"، كما أدخل بعض المواد الحديثة مثل الحساب والجبر والتاريخ الاسلامي والانشاء وبعض المعلومات الجغرافية. ثم صدر قانون آخر لاصلاح نظام التدريس والامتحان العام 1896، فصارت هناك إدارة نظامية للأزهر وقانون بضبط نظام التعليم فيه كما زادت مرتبات هيئة التدريس. وتوالت بعد ذلك القوانين واللوائح على الأزهر ولكنها لم تزد على تنظيم حضور الطلاب وصرف المرتبات والمنح، وتبع ذلك تكوين هيئة كبار العلماء من ثلاثين شخصاً العام 1911، يتم اختيار شيخ الأزهر من بينهم. ووضعت الحكومة في هذا القانون - الذي يعد من أهم قوانين الأزهر - تنظيماً للدراسة الأزهرية على ثلاث مراحل الأولية والثانوية والعالمية، كما حددت العلوم التي يتم تدريسها في كل مرحلة وجعل تدريس العلوم الحديثة والمسماة بالعلوم العقلية إجبارياً بعد أن كان اختيارياً. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1930 صدر قانون جعل نظام التعليم في الأزهر يتكون من ثلاث مراحل: الابتدائية ومدتها أربع سنوات، والثانوية ومدتها خمس سنوات، والعليا ومدتها أربع سنوات. وانشئت كليات الأزهر الثلاث اللغة العربية والشريعة وأصول الدين. ثم جاء قانون 1936 ليحدد سن القبول ما بين الثانية عشرة والسادسة عشرة، وأصبحت فترة التخصص سنتين، كما أدخل هذا التعديل دراسة إحدى اللغتين الانكليزية أو الفرنسية ومبادئ الفلسفة وتاريخها ومادتي القانون الدولي والقانون المقارن لطلاب الشريعة، الى جانب بعض المواد العلمية في المرحلة الثانوية. وكان آخر قانون لاصلاح التعليم الأزهري هو رقم 103 الصادر في حزيران يونيو 1961، وبمقتضاه أصبح هناك مجلس أعلى للأزهر يرأسه شيخ الأزهر ويشترك فيه كبار العلماء وخبراء في التعليم والإدارة، ومجمع البحوث الاسلامية - الذي حل مكان هيئة كبار العلماء السابقة - ووظيفته العمل على تجديد الثقافة الاسلامية ورسم نظام البعوث الأزهرية من العالم الاسلامي وإليه. إلا أن أهم تعديل هو الذي جعل الأزهر يقوم بتدريس مناهج العلوم المدنية الى جانب العلوم الدينية، فأصبحت هناك كليات للمعاملات والإدارة والهندسة والصناعات والطب والزراعة. والآن وبعد مرور سبعة وثلاثين عاماً على هذا التغيير يجب أن نسأل أنفسنا: هل أدى النظام الجديد الى تحقيق الاصلاح المنشود للأزهر؟ والجواب هو بالتأكيد النفي، والسبب في ذلك هو أن النظام الجديد لم يراع أن الأزهر مؤسسة تعليمية متخصصة، فأضاف مواد التعليم العام الى مواد التعليم الأزهري، فأصبح الطلاب عاجزين عن استيعاب كل هذا الكم من المعلومات. ويعلق الشيخ متولي الشعراوي بقوله إن قانون التطوير أضاف "الى مناهج الدراسة بالأزهر كاملة، مناهج الدراسة في التعليم العام... فكيف بطلاب الأزهر يدرسون المنهجين معاً؟" الأخبار القاهرية 22/5/1998. وانعكس هذا الفشل بشكل سلبي واضح على المجتمع الاسلامي كله فضعف تدريس اللغة العربية والدراسات الاسلامية معاً. فبدلاً من مساعدة الأزهر في رفع مستوى التعليم في تخصصاته الدراسية لعلوم الدين واللغة، إذ بالقانون الجديد يقحم تخصصات جديدة لمواد مدنية على نظام التعليم الأزهري. وبينما كانت الحاجة ملحة الى وضع نظام حديث للتخصص الأكاديمي في مجال الدراسات الدينية واللغوية حتى تواكب العصر الذي نعيش فيه، إذ بالتعديلات التي أدخلت على الجامعة الأزهرية تضيف إليها عبء تدريس الهندسة والطب والقانون، وهي مواد يقوم عدد من جامعات النظام العام بتدريسها. وهذا أيضاً ما يؤكده الشيخ الشعراوي في المصدر نفسه: "ما قيل من أنه تطوير للأزهر ليضم كليات حديثة خاصة بالعلوم التجريبية الى جانب الكليات المتخصصة في علوم العقيدة والشريعة واللغة العربية، لكن هذا التطوير اعتدى عدواناً غائلاً على المنابع الأولى لهذه الكليات جميعاً. وسيلة ما يسمى بالتطوير الى ذلك هي ازدواج المناهج الدراسية في مراحل التعليم ما قبل الجامعي". فالمشروع يهدف من هذا الاصلاح الى أن يتعرف طالب الأزهر - والذي سيصبح مسؤولاً عن الدعوة الاسلامية في المستقبل - على نواحي الحياة العصرية التي سيكون عليه تفسيرها دينياً للمواطنين، ولا يصح له أن يجهلها، لكن هذا لا يعني الغاء التخصص في التعليم الأزهري. لذلك أصبح من الضروري أن يتلقى طالب الأزهر حداً أدنى من المعلومات المدنية التي يتلقاها أي طالب آخر في المجتمع العربي، من الرياضيات والطبيعة والفيزياء والتاريخ والجغرافيا واللغات الأجنبية، قبل أن يبدأ مرحلة التخصص. ولهذا يكون من الأجدى الغاء المرحلة الدراسية الأولى من الدراسات الأزهرية بحيث يتلقى جميع الطلاب هذه الدراسة في المدارس العامة، ثم يدخل الطلاب الى الأزهر بعد مرحلة الإعدادية للتخصص في علوم اللغة العربية والدين. ويكون التطوير بعد ذلك عن طريق اضافة مواد جديدة في مرحلة التخصص هذه، مثل الفلسفة والتاريخ ومقارنة الأديان. والآن ونحن بصدد اجراء اصلاحات جديدة على نظام التعليم الأزهري علينا أن نضع أمام أعيننا الوظيفة التي يراد لهذه المؤسسة العريقة القيام بها، فليست وظيفة الأزهر هي تخريج أطباء ومهندسين وانما تدريب رجال متخصصين في العلوم الاسلامية واللغة العربية، وهي الوظيفة التي قام بها بنجاح خلال القرون العشرة الماضية