إذا اعتبرنا أن انتهاء جولة التفتيش الأولى للقصور الرئاسية العراقية التي قام بها فريق المراقبين الدوليين، المصحوب بالديبلوماسيين، مؤشراً الى نجاح اتفاق انان - عزيز الموقع في 23 شباط فبراير، فإن السؤال الذي سيبرز أمامنا حتماً هو ما إذا كانت السلاسة والهدوء اللذان رافقا عملية تفتيش المواقع الثمانية يصلحان كمؤشر لبدء مرحلة جديدة في العلاقات بين العراق واللجنة الخاصة المكلفة بتدمير اسلحة الدمار الشامل العراقية. والأهم من ذلك هو ما اذا كان الأمر يعتبر بداية العد العكسي لمرحلة إنهاء نظام العقوبات التي تفرضها الأممالمتحدة على العراق منذ ما يقارب الثماني سنوات؟ من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال الآن بالإيجاب خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار تاريخ العلاقة المتوترة بين اللجنة الخاصة والعراق خلال هذه الفترة الطويلة والأزمات العديدة التي مرت بها، وأيضاً استمرار التنافر في مواقف الطرفين حيث يصر العراق على قيامه بتنفيذ كامل التزاماته المطلوبة بموجب قرارات مجلس الأمن، بينما ترى اللجنة الخاصة أن الطريق لا يزال طويلاً قبل تمكنها من منحه الشهادة اللازمة لذلك، التي بموجبها يمكن رفع العقوبات. لذلك تبقى فرضيتان. الفرضية الأولى تقول إن العراق سيستمر بالتعاون الإيجابي مع مفتشي اللجنة الخاصة، مستثمراً الظروف المؤاتية دولياً واقليمياً التي نتجت عن الأزمة الأخيرة والأجواء الإيجابية التي وفرها اتفاق أنان/ عزيز، وكذلك بهدف البناء على بنود مذكرة التفاهم ذاتها خصوصاً الفقرتين 6 و7 اللتين تؤكدان على "تعجيل اللجنة الخاصة بتقديم تقرير إنجاز مهمتها الى مجلس الأمن وعلى أن يكون أمر رفع العقوبات موضع اهتمام الأمين العام للأمم المتحدة". إن نتيجة هذا التعاون كما يفترض هي سقوط مبررات التشدد مع العراق وخلق مناخات إيجابية بينه وبين الأممالمتحدة ومكافأته على تسهيله عمل اللجنة ومن ثم حث الخطى نحو رفع العقوبات. أما الفرضية الثانية فتقول إن الاتفاق كان مجرد بروتوكول تنفيذي خاص بتفتيش المواقع الرئاسية وأن التوصل إليه أنقذ العراق من ضربة كانت مؤكدة حينها لو أصر على موقفه في رفض التفتيش، وأن تنفيذه هو مجرد تأكيد لالتزامات العراق نحو اللجنة الخاصة لتسهيل مهماتها في العراق من دون أن يضع عليها اي قيود أو التزامات لإنجاز عملها قبل تحققها الكامل من تدمير كل الاسلحة الممنوعة وإنشاء نظام فاعل للرقابة والتحقق. أي بعبارة أخرى أن مذكرة التفاهم أنهت أزمة ولكن ينبغي الا يُنظر إليها أو الى تنفيذها من جانب العراق باعتبارها نهاية المطاف في العلاقات الشائكة بين الطرفين التي لن تجد مخرجاً لها قبل الانتهاء الفعلي من إغلاق كل ملفات اسلحة الدمار الشامل. وفيما يعني الإقرار بالفرضية الثانية إن ما حققته مذكرة التفاهم لن يزيد عن كونه هدنة، وأن الأمور سرعان ما ستعود الى وضعها السابق المتشنج والصدامي بين العراق واللجنة الخاصة، مما يستبعد الرفع القريب لنظام العقوبات، تفترض الفرضية الأولى أن هناك لبنة قد تم وضعها على هذا الطريق وأن العمل سيستمر على تمهيده حتى الوصول به الى الهدف. يبقى أنهما لغاية الآن مجرد فرضيتين لهما مريدوهما بانتظار أن تتبلور ظروف مؤاتية أكثر ليتضح أي منهما ستكون المرجحة. وما يعنينا هنا هو إن كان هناك فعلاً من مؤشرات تدل الى إمكان نجاح الافتراض الأول طالما أن الافتراض الثاني لا يعني تغييراً في الواقع القائم. تقوم التحليلات السياسية الأكثر واقعية للوضع العراقي الحالي على أساس أن الحل الجذري غير متوفر في هذه المرحلة طالما أنه يرتكز الى توافق ارادات وتوازن مصالح اقليمية ودولية لم يجر حسمها حتى الآن، ما يستدعي اللجوء الدائم الى اسلوب إدارة الأزمات مع العراق في انتظار إما تبلور مثل هذا التوافق مستقبلاً أو ظهور هذا الحل من داخل العراق من خلال عملية تغيير للنظام. ولما كان الاحتمالان الأخيران لا يشكلان ملمحاً بارزاً في أفق التوقعات الخاصة بمستقبل العراق، في الأقل حاضراً والى أن يثبت العكس، فإن منهج إدارة الأزمة سيكون هو الطاغي خصوصاً بالنسبة الى السياسة الأميركية التي ستبقى، رغم دور الأممالمتحدة، هي التي ستحدد اتجاه البوصلة الخاص بالوضع العراقي. من هنا سيطرح السؤال، وهو سيظل سؤالاً افتراضياً، عما إذا استمر تعاون العراق الإيجابي مع المفتشين الدوليين وانفتحت صفحة جديدة في العلاقات بينهما، فما هي الخطوة التالية التي سيقوم بها كل من العراقوالولاياتالمتحدة تجاه الآخر للتمهيد للحظة الحاسمة المرتقبة وهي رفع العقوبات. من جهة العراق تبدو أهداف القيادة العراقية أكثر وضوحاً من أهداف الإدارة الاميركية التي يكتنفها، في مستواها التكتيكي، الكثير من الغموض والارتباك. إذ لم تتأخر القيادة العراقية عن الإفصاح عن نيتها لاستثمار حل الازمة الأخيرة من خلال دعواتها لتطوير اتفاق أنان/عزيز الى مشروع حل شامل للمشكلة العراقية يقوم على أساس التحاور مباشرة مع الولاياتالمتحدة كأسلوب وحيد لإنهاء المشكلة من جذورها مرة واحدة والى الأبد. هذا المؤشر تزامن مع الدعوات الأردنية الى فتح حوار عراقي - أميركي - بدا فيها الأردن وكأنه أقرب الى ذهن القيادة العراقية وتفكيرها من الآخرين - والتي تلقفتها بغداد بالترحيب وباستعداد عبرت عنه تصريحات قيادات عراقية كبيرة وافتتاحيات في الصحف الرسمية. طبعاً لم يكن من المتوقع أبداً أن ترد الإدارة الاميركية بالإيجاب على مثل هذه الدعوات في وقت لا تزال لها قوات في الخليج وترتفع الاصوات داخل الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون المتربصون بإدارة كلنتون المتهمة أصلاً بالفشل والتخبط في إدارة الازمة مع العراق. ومع هذا فإن من المنتظر أن تقوم واشنطن ببلورة سياسة جديدة تجاه العراق إذا ما استمرت القيادة العراقية في منحاها الايجابي في التعاون مع المفتشين الدوليين ونجاحها في كسب المزيد من التأييد خصوصاً من الدول المؤثرة داخل مجلس الأمن، الأمر الذي ينعكس سلباً على قدرات واشنطن على تعبئة المجتمع الدولي ضد العراق كما ظهر ذلك بوضوح أثناء الأزمة الأخيرة. ماذا ستكون أهداف هذه السياسة الأميركية الجديدة تجاه العراق، استناداً الى احتمال نجاح الفرضية الأولى في اختباراتها خلال الفترة المقبلة؟ هذا السؤال لا بد أن يكون جزءاً من عمل المخيلة السياسية لكل المعنيين في الشأن العراقي على رغم أنه لم يبد يوماً ما بعيد الاحتمال في ظل النتائج التي أفرزتها حرب الخليج وأدت الى تدمير قدرات العراق وإخراج طاقاته من المعادلة الاقليمية، ولكنها لم تؤدِ الى سقوط النظام وانهياره. هذا اللغز في السياسة الاميركية الذي احتار الجميع في حلّه منذ اكثر من سبع سنوات لا بد أن تجيب عليه الخيارات الاميركية المقبلة وفي اللحظة المناسبة حين يحين موعد بلورة الأهداف الجديدة. هنا بعض ما أفرزته هذه المخيلة السياسية الاميركية، وهو جاء على شكل ورقة نشرتها جوديث كيبر الباحثة المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وواحدة من أبرز العاملين في مجلس الشؤون الخارجية الغني عن التعريف، وهو ما يرتقي الى نوع من التوصيات أو السيناريوات المحتملة لما سمته "حان الوقت لاميركا كي تعد خطة نهاية اللعبة مع العراق" وهي تسمية دالّة في حد ذاتها ولا تحتاج الى الكثير من الشرح والتعليق. تقول الورقة إن السؤال الملح الذي سيواجه واشنطن قريباً هو كيف ستطور استراتيجية نهاية اللعبة لمرحلة رفع العقوبات عن العراق المحتملة ولإعادة تأهيل القيادة العراقية؟ وهي تجيب بنفسها على ذلك بأن الهدف لا بد أن يكون من خلال إعادة تطبيع الأوضاع في العراق بالقدر الممكن في الوقت الذي يتم تحديد سلوكيات القيادة العراقية بشكل صارم ودائم. وتبرر الورقة السيناريو الذي ترسمه بمعطيات عديدة، منها ازدياد مستوى القبول الدولي لفكرة إعادة تأهيل العراق ورفض استخدام القوة ضده، كما اتضح أيام الأزمة الأخيرة، وغياب استراتيجية اميركية عن مستقبل التعامل مع العراق، وانهيار عملية السلام العربية - الاميركية التي تجري برعاية اميركية. وتخلص الى أن سياسة الضغط والتهديد باستخدام القوة حققت نجاحاً محدوداً خلال السنوات الماضية. ما العمل؟ تقترح الورقة صفقة كم خط ينبغي أن نضع تحت هذه الكلمة يتم بموجبها رفع العقوبات بمبادرة اميركية بعد أن تكون اللجنة الخاصة قد افتت بأن العراق وفّى بالتزاماته، ولكن بموجب ثمن ينبغي عليه دفعه. ما هو الثمن؟ تقول الورقة: * على العراق أن يوقع اتفاقية يلتزم بموجبها أن يحل أي نزاع مع الكويت أو أي دولة أخرى بالوسائل السلمية. * على العراق أن يوقع اتفاقية لعدم الاعتداء على الكويت وضمان سيادتها واراضيها الاقليمية وعدم التدخل في شؤون جيرانه. * على العراق أن يوقع اتفاقاً يضع بموجبه إعادة بناء قواته التقليدية الدفاعية تحت إشراف المجتمع الدولي. * على العراق أن يوقع اتفاقاً يوافق بموجبه على استمرار احتوائه ومراقبة برامج تسلحه. * على العراق أن يوافق على عقد معاهدة سلام شاملة ودائمة مع إسرائيل يتم بموجبها مد خط انابيب للنفط يصل الى ميناء إيلات - العقبة الإسرائيلي - الأردني المشترك. * على العراق أن يوقع اتفاقاً يتم بموجبه إنشاء صندوق دولي لإعادة إعماره تخصص له نسبة معينة من إيرادات نفطه بعد رفع الحظر. * على العراق أن يوقع اتفاقاً يقبل بموجبه إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كجزء من الأيدي العاملة اللازمة لإعادة البناء. هذه الأفكار أو الأهداف تقترحها كيبر، ومن المؤكد أن مجلس العلاقات الخارجية المتنفذ يقف وراءها، لكي تتبناها الإدارة الاميركية الآن كاستراتيجية بعيدة المدى تجاه العراق والتي يفترض أن تعرض الآن على القيادة العراقية كثمن لإعادة تأهيلها ضمن المجموعة الدولية وقبل رفع العقوبات. الكثير من هذه الأفكار يتم تداوله منذ سنين وهي قد تكون في نظر البعض مجرد نتاج خيال سياسي خصب، وقد يرى فيها آخرون نهاية واقعية ومعقولة لسيناريو أزمة وحرب الخليج بفصولها العديدة المستمرة منذ سنوات. إلا أنها في كل الأحوال تبدو أفكار منسجمة تماماً مع أهداف السياسة الأميركية في المنطقة ومع متطلبات ثمن إنجاح الفرضية الأولى إذا ما استمرت الظروف مهيأة لها. حقاً أنها فرضيات قد يراها البعض ماكرة وينظر إليها الآخرون باعتبارها مملة. ولكن ألا يجب في كل الأحوال ان ننتبه إليها مسترشدين دائماً بالتاريخ والوعي وقوة الخيال. ألم يكن الواقع الذي نعيشه الآن - يوماً - مجرد فرضية؟ * صحافي عراقي.