الى اجمل الاصدقاء، غالب هلسا - 1 - هذه ليست شهادة وفاء شخصية فقط قد يشم منها رائحة رثاء تهبط الى مرتبة الحنين الفاجع على جيل او اجيال حاولت باستماتة التحرر من احابيل الايديولوجيات لكي تنجز فنا كبيرا وباهراً حتى لو دفع بعضهم حياته ثمناً فادحاً له. انها مجرد ملامسة وليست مقاربة حتى لقلب غالب الذي لم يسعني حمله على الاكتاف مع من حمل من الاصدقاء والكتّاب الى مثواه الاخير، تاركاً لنا مجموعة من الدروع الصلبة والفاتنة: نتاجه الروائي بدءاً من "الضحك"، "الخماسين"، "السؤال"، "ثلاثة وجوه لبغداد"، "سلطنة" ثم "الروائيون"، اقوى وآخر اعماله. لكي نقتفي خط سير دمه وهو يجوب بين منافي هذا الوطن العربي اللاسع، مصنفاً نفسه احياناً بپ"الريفي المتهتك" او المثقف الذي عمل وبارادة لم تتراجع على اعادة صياغة الاسئلة الأولى، او العاشق الذي كان يرى في الغرام اعلى مراحل النضال والاخلاق، او المناضل المشوش بين شروط النضال التي كانت تتغير امامه وباستمرار على مراحل النضال والاخلاق، او المناضل المشوش بين شروط النضال التي كانت تتغير امامه وباستمرار وعلى مر السنين وبين قوانين الابداع التي بقيت عبر جميع حقب التاريخ والحضارات واحدة لم تتغير في مشروعها الوجودي والانساني. من هذه الافتراقات كان هلسا وفي جميع اعماله قد سجل تاريخ الم الكاتب وهو يحاول اللاتبرؤ من العصيان والتمرد وعلى اصعدة شتى في اللامألوف من اشكال السرد والتقنيات، او في معنى البطولة على رغم القمع الذي واجهه وربما بسببه وهو ينتقل من بلد عربي الى آخر في محاولات دامية لتجاوز هفوات السياسي وأحياناً ذنوبه، والاتحاد حتى حدود المرض والتدمير والعنف في العيش والايمان بدور الابداع والكتابة. وبذلك الاقتراب الحميم من مشكلتي العدالة والموت. "الروائيون" كعمل كبير في تجربة هلسا تزخر بقراءات متشابكة ومتعارضة وبتأويلات لا حد لها، وهذه واحدة من فتن الغامها. لكني سأتوقف امام ما اطلقت عليه اسم "جدلية العنف" كحالة مجهولة الى حد ما في بعض نتاجنا الروائي. وتتقاسم هذه الشراكة رواية "اهل الهوى" للبنانية هدى بركات، وروايتي "حبات النفتالين". العنف لا يحوم في ذاكرة شخصيات هذه الروايات، لكنه يطارد المنازل والطبيعة وصولاً الى الجهازين الهضمي والعصبي لأفراد تلك النصوص. ان ما يكتسح العالم بأسره، والعربي على الخصوص، في العشرين سنة الاخيرة هو العنف كمصير لا تحسد عليه الجماعات البشرية. فيتحول العنف الى وسيط قابل للمنافسة. يصير اغراء ومحركاً لأجناس متعددة ويدخل في نسيج حركات فنية تضعه تحت تصرفها، ويستولي على شروط ثقافات متنوعة لا تعرف ماذا تفعل امام عقوق وسفاهة ذلك التناول المتوحش والمهين من قبل الزعماء المحليين او قادة العالم لكل ما يخص الوجود والثروات والجذور والثقافة. الهزيمة والعنف لست باحثة معنية بالتنظير للعنف ومقوماته خارج الاطر الروائية، فذلك ليس اهتمامي او اختصاصي. فالعنف في بعض نصوصنا الابداعية ليس طعاماً نسكت به بعض الناجين من المذابح والكوارث والحروب، ولا هو سلاح اصحاب "الحلم القديم" بعد تحول الاحلام والذاكرات الى مجرد غبار. ان العنف في الكتابة ينتج طاقات كانت مستوردة وغدت ساحرة ومسحورة، تتجلى في عنف السرد والبناء وتكسير حالات الزمن وعموم عناصر الجدة في العمل الادبي. ولعل الشكل الأشد سطوة لمظاهر العنف في الكتابة الابداعية هو ما يستعاد ويتحقق في الايروسية، وهذه لا تغربل حمولة العنف لكنها تدعه يتفاقم بفعل اللاارتواء وعصاب الأذية حتى تصل حدود المرض والهلوسة. فعموم اشخاص رواية "الروائيون" من الرجال والنساء تتعرف على نفسها بحالة من التشفي للشريك تصل حدود الشماتة او استحقاق الوضاعة في بعض الاحيان كما بيّن "زينب" و"ايهاب"، ثم مجمل علاقات زينب وأشخاصها من السياح العرب ورجال المباحث. فتتحول العلاقات من افعال حرة لتصل اقصى حالات النبذ والعجز والنقصان. ليس بمقدوري اختزال او اختصار او ايراد مقاطع من هذه الرواية، ولا استطيع تجميع شررها المتطاير الذي كان يشوي الاصابع والروح في اثناء القراءة. فالرواية بأسرها لا تمتلك الا خيار العنف كخصوبة تنزل اشخاصها الى رواق جهنم فلا يكون بمقدورهم البحث عن مخرج على رغم فيضان الاثارة من احدهما للآخر، وما يلاحظ ويتشكل وبالتدريج هو واقع الحرمان على رغم تكرار الافعال. زينب مثلاً، المثقفة والمسيسة والمرأة المدمَرة والمدمِرة وبطريقة استثنائية، تبدو في الرواية كشخصية محرضة. فبقدر ما تزدري الواقع عن طريق العنف والتحريض فانها تحاول ان يكون العنف واسطتها للسيطرة على الواقع وعبر الجسد، جسدها وحده. ايهاب، وهو الراوي، يحاول انشاء علاقة مع زينب وهو خارج من السجن وانتشالها من نذالة الواقع ذاته فصل الجحيم وكأنه يحاول حماية نفسه من طاقة الرذيلة لدى زينب بالالتواء على افول طاقة الفنان والفن داخله. هكذا على مدى 400 صفحة من القطع الكبير، كان الواقع الخشن والسوقي يتشكل امامنا وهو يفرز طاقاته من التحولات والتغيرات بأفعال اقرب الى الافتراس، لتوحش الجنس مقابل توحش وفجور القيم النفعية والمعلنة عن نفسها. لماذا؟ الهزيمة في الخامس من حزيران كانت تواصل هولها النموذجي وعلى جميع اسس الوقائع والبشر، وكأنها تمسرح التاريخ وتؤسس علاقة مموهة خارج التاريخ، مروراً بحرب الاستنزاف وصلافة الحكم العبري، وبرامج الاحزاب القومية والماركسية، وانتهاء بخطاب الغرب في نهب وكبح الدول الناهضة حديثاً. القتل وجه آخر للغرام عندما تفتح الصفحة الأولى من رواية "اهل الهوى" لهدى بركات تبدأ الحركة غير المتوقعة: يبدأ القتل. هذا الفعل ليس ذروة العنف في النص الروائي. فالنزعة التدميرية لدى الرجل كانت تقودنا ابعد فأبعد الى الوراء، الى الحرب الأهلية. فالقتل ليس عملاً حاسماً للمعشوقة الاثيرة والوحيدة. القتل هو فعل الحدود الدنيا الذي كان متوافراً وحده ازاء المرأة. الرجل لا يقتل الا ليضاعف التبعية لها لكي ينتهي الى الغاء العقل والتوقف عند نقطة اللاأمل. الشريك يختار الفعل الاكثر شهوانية كقاعدة للتعارف المتبادل. هذا نوع من الاحتجاج على شكل ومعنى البطولة السائدة لدى حشد من الرجال/ الأبطال الذين يجدون صعوبة كبرى في الاعتراف بمشاعرهم علانية امام المحبوبات. ولما يفقد الرجل شجاعة ان يكون هو نفسه، وهذا الامر اشد رعباً على الرجال منه على النساء، يفقد الرجل تدريجاً عوامل بطولته وهو يزداد نبذاً. فكل ما يحصل بينهما كان يتم وسط حالة من الخرس الأبيض الذي يشبه العمى. وكلما ازدادت المرأة سكوتاً كان عنفها يتضاعف ويشع منها الى الشريك الرجل، فتتفوق عليه بما توفره من هذا الخزان الهائل منه: العنف، عنفها. وكأن احدى مهمات المحبوبة اعادة زرع جذور العنف وسقيه بالصمت فقط: "كانت كلما احبتني اكثر لوعة لا تهدأ، ليست شهوة او غراماً. اني أعمى"، "كان جنسها شيء ضدي وأكرهه. أريده ان يقف عندها ويقتصر عليها، كأني يشقيني ان تختلف كثيراً عني"، "بأن جسدها في مكان آخر وبأنها ستستعمله ضدي وأن كرامتي الرجولية تأبى بأن تتركني امرأة"... ان ما يتخلف في موقد العلاقة الغرامية هو مشاهدة مخلوق حرثه الشقاء التام لأن الشريكة لم تمكنه الا من هذه الطريقة الفريدة في الوصال والوداد. وكأن القتل هو آخر ما يملكه الشريك من نزاهة الغرام قبل ان يتلوث بالمراودة. في رواية هلسا كان صوت العنف اكثر ضجيجاً وصخباً. فالمرأة مثلاً، ونتيجة للضغوط الاجتماعية والنفسية، ان لم تكن قادرة على تدمير شريكها بالاخصاء او الحرمان او الهجر... الخ، فالعنف يرتد عليها، على الشيء الوحيد الباقي في حومتها: الروح والجسد سوية. الرجال في "الروائيون" وعلى اختلاف قدراتهم الفكرية والروحية والحسية، كانت طاقات بطولاتهم مهددة بكل ما تحمل من خيلاء وسطوة حتى لو كانت سلبية كإيهاب مثلاً، لأنه كان على يقين من ان النساء يفضلن او يشغفن بالأبطال حتى لو كانوا موتى، وعلى الخصوص موتى! ايهاب او غالب في الرواية كان يفر من الكتابة بالجنس، كما حاول في بعض الاحيان هو وغيره الفرار من النضال بالجنس. غالب الشيوعي، المسيس من الوريد الى الوريد، خريج السجون والمعتقلات العربية كغيره من الكتّاب والمفكرين العرب... هذا الغالب وطوال الثلاثين عاماً وهو يحيا بين المنافي كان يخزن ويفكك، يحلل ويركب كل ما "علمنا اياه الآباء والأساتذة الأوائل: ان الايديولوجيات وحدها هي التي تهم، وان هناك انظمة رائعة ستعطي الجواب على كل شيء، وما علينا الا اختيار معسكرنا، ننضم الى الطيبين الاخيار ونحارب الاشرار". ايهاب او غالب، وفي جميع نتاجه وتراجمه، كان العنف يستبطن النص الجواني حتى لو كان صوته زاعقاً وفائضاً عن الحد، لأنه الوسيلة الممكنة بالطبع وليست الاخيرة ضد جميع مظاهر القمع والاستبداد، العسف والفساد، وبخاصة بعد ان تبدى له ان المفاهيم والافكار "زائفة. وبعد ان عشنا زمن خيبات الأمل وفك السحر والانهيارات فتساوت جميع الايديولوجيات بعضها مع بعض". لعل هذا الخطاب هو الذي ظل الراوي أو المؤلف، اي غالب، بانتظار معجزة ما لتكذيبه او على اقل احتمال لتخفيف حمولة وطأته المروعة هول الهزيمة، وما استتبع ذلك في ما بعده، فكان ختام الرواية، اي انتحار ايهاب اولاً، والكشف عن الفتيات الثلاث، المثقفات والمسيسات باختيارهن الدعارة كبديل لاسطورة البناء والتعمير، هي الرسالة الاشد ازعاجاً وسلبية وهلاكاً. وربما هي ذاتها الرسالة التي اختبرها ولو بصياغات اشد تطرفاً ثوريو الثلاثين سنة الاخيرة من ما وبين او تروتسكيين، من الشيوعيين والبعثيين ومن جميع الفصائل. فكلما كانت فصول الرواية تخيط نسيجها وهي تتوالى، وغالب بين المنافي، كانت الهوة تتعاظم بين جميع الفرقاء. فيشهر العنف سلاحه على جميع اشخاص الرواية بعدما "غصت الدواليب بالجثث" خارج النص الروائي. في الختام سوف اتجاهل الحديث عن عنف لغة روايتي "حبات النفتالين" لأن "برج بابل" ينهار وبعنف امامنا، وهذا ما يثير قلقا معماريا وجماليا لدى الغير المتحضر، لكن ما لا يثير الرعب ان المعاول ما زالت تلاحق عظام الموتى. انهم ينقبون عن الجماجم لوضعها تحت تصرف الديبلوماسيين والجنرالات، فهم يغرسون ابر الفولاذ في ابدان الصغار لكي يتوقف النمو، وداخل ارحام النساء لتعقيم السلاسة. هذه عاداتهم وبرامجهم القديمة والحديثة. فماذا يتوجب علينا ان نفعل بأولئك الذين ما زالوا يعيشون في مختلف أروقة ذلك البرج، بين السراديب والأقواس؟ يعيشون في المنطقة الحرة بين فنتازيا الموت الموضوعي، الروتيني والمحايد، وتراجيديا منظمات العفو الدولية؟ فهل نفعل كما فعل "الفراعنة تماماً، نتمدد كالجثث الكبيرة ونرتدي اسمال الزمن الاغبر، ونضع الى جانبنا كل ثرواتنا": الدم الذي تصحر ومعادلات ماء الوجه والعينين؟ لقد حضرت لأنني ممتحنة بغرامي بمصر ولن أحاول اخفاء ذلك. فالقاهرة هي التي تكشفنا وليس العكس. والبحث عنها لم ينته ولن ينتهي قط. وقد اعود من حيث اتيت وأنا ازداد تشوشاً ولعثمة وولعاً بها. فالوصايا العشر اختزلت تماماً وما عادت تكفي الا وصية واحدة: الكتابة بأشد الحالات عنفاً وتطرفاً وانتهاكاً. فلو قدر لنا نحن الكتّاب، بعضنا بالطبع، لترك جميع المحاضر والبحوث وانشغل بأمر واحد: البحث عن اختفاء الجثث لا عن أصل وجودها. * قدمت في مؤتمر الرواية العربية الذي انعقد في القاهرة اخيراً.