حازم الببلاوي دور الدولة في الاقتصاد دار الشروق، القاهرة 1998 245 صفحة انطباع مزعج ندخل به الى كتاب "دور الدولة في الاقتصاد"، إذ نلاحظ على الغلاف الخارجي للكتاب، كما في داخله، سلسلة "تعليقات عن المؤلف"، كما يسمّيها الناشر، من شأنها الاستخفاف بعقل القارىء وبقدرته على الحكم بنفسه على الكتاب. فمن ناحية الناشر، الخطوة سلبيّة بل مهينة للقارىء، ومن ناحية المؤلف، فإنها تنمّ عن نرجسيّة لم يعد مسموحا بها لأي كان، لسعة العلوم والمعارف ولتواضع قدرات الإنسان على الإحاطة بها وابداعها. يضاف الى ذلك ان هذا الكتاب ليس مكتوباً كمؤلَّف منهجي متناسق، يقوم على طرح اشكالية وعلى متابعة سيرورتها بحيث ان الموضوع يصبح متماسكاً وصلباً ومترابط الأواصر. بل ان الكتاب كناية عن مجموعة مقالات اقتصادية، متقاربة نسبياً في محورها العام، نُشِرَتْ خلال السنوات الماضية في صحف متعددة في مصر والكويت، في "الأهرام" و"الوطن" و"عالم اليوم" و"الوفد". وهذا ما يجعلنا نفتقد للخيط المنهجي المتين الذي نفترض توافره في كتاب يرغب بالدخول في هذا الموضوع الخطير الذي هو ثنائية الدولة والاقتصاد. فالكتاب ليس طموحاً في هذا السياق، فهو يكتفي بالدخول في الموضوع مباشرة من حيث حالنا الذي نحن فيه، نظرياً، الآن، دون تأسيس مقولاته على تبصّر تاريخي في خلفيّات الدولة عبر العصور، عندنا وعند سوانا. فالكلام يدور حول الدولة، بشكل عام، دون ان يشار إبستمولوجياً للقارىء بأن النموذج المدروس هو ذاك الذي رأى النور في الغرب، مع العلم ان ما نعيشه من حولنا، في الواقع المعيش، هو غير هذا النموذج الغربي المستورد، والذي يتمثّل بما أطلق عليه في السابق ابن خلدون تسمية "دولة العصبيّة". فثنائي القبيلة والدولة هو النموذج العام الذي يحكم خطواتنا في هذا السياق، وليس نموذج المجتمع المدني والدولة الذي قامت عليه الدولة في الغرب، واختلفت على أساسه، بنيوياً، مع دولة العصبيّة القائمة عندنا والتي هي، في نهاية المطاف، دولة المُلك، وليس دولة المجتمع. كان ينبغي الانطلاق من هنا والصعود تدريجياً من الماضي، من ماضينا نحن وليس من ماضي نظريات كينز الصالحة للمجتمع الانكليزي، قبل الدخول في هذا الموضوع الشائك. حيث اننا نقرأ عن اسم لا مسمّى له متبلوراً في حياتنا اليومية والعملية. فالدولة الموجودة في مصر، كما في البلدان العربية الأخرى، ليست دولة هيغلية، مبنية على الطراز المؤسساتي الغربي. وان حصل ان تمّ بناؤها على الطراز المؤسساتي الغربي، فإن الدولة العربية تبقى مسيَّرة، في منطقها الداخلي، بحسب مصالح - وبالتالي قرار - العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الأسرة الحاكمة. لذلك لا يحقّ للببلاوي الاستخفاف بهذا الجانب العملاني من الموضوع والدخول الى دور الدولة في الاقتصاد دون الدخول اليه من باب دور البنية الاجتماعية في الدولة. فالظاهرة الثانية - أي دور الدولة في الاقتصاد - ظاهرة فرعية منبثقة عن ظاهرة أولى وتأسيسيّة كما يقول المؤرخون، هي طبيعة هذه الدولة الاجتماعية. فالموضوع يبدأ هنا تحديداً، في البنيان الاجتماعي العائدة إليه مسؤولية القرار العام. ولكانت المقاربة أعمق - وأكثر اقناعاً في تحليلها - لو أنها عمدت الى تحديد هوية الدولة التي يدور حولها الكلام. إذ ان تفسير مسارات وخيارات هذه الدولة مقروءة في جيناتها التاريخية. فالدولة المبنية على أساس طائفي أو قبلي أو عشائري، كما هو الحال في الغالبية العظمى من البلدان العربية، سوف تنهج، بشكل طبيعي، منهجاً اقتصادياً خاصاً، لا منهجاً اقتصادياً عاماً كما هو الحال في الدولة الغربية، المبنية على أساس ديموقراطي. فعندما تنطلق نظرة الحاكم الى الحكم من قاعدة عصبيّة مفادها انه هو الحكم فنستخدم عندها مصطلح "دولة الرئيس" بشكل طبيعي وانسجاماً مع طبيعة فهمنا المعرفي لهذا الواقع الاجتماعي سوف يغدو دور الدولة في الاقتصاد، بشكل طبيعي، توجيه المال العام نحو المصالح الخاصة. فالدولة هنا جسم من الموظفين يخدمون الحاكم وجماعته أي الخاصة لا مجموع المواطنين أي العامة. وأقصى ما توصلنا اليه في دول الجنوب قاطبة هو صيغ ملتبسة للدولة، المنقولة نظرياً عن دساتير عدد من البلدان الغربية - وبخاصة فرنسا وبريطانيا - ولكن المسيَّرة بحسب قاعدة البنيان الاجتماعي والسياسي، التقليدي، السائد في هذه البلدان الغارقة في تناقضاتها. كان بإمكان صاحب الكتاب ان يستهدي بما كتبه المغربي عبدالله العروي حول الدولة، في مسائل نظرية الدولة كما في مسألة تاريخ "الدولة" في المغرب. كما كان بإمكانه أن يستفيد أيضاً مما كتبه، في موضوع دولة العصبيّة التي انكب على وصفها ابن خلدون قبل ستة قرون، الباحث المغربي محمد عابد الجابري. ومن كتابات عديدة أخرى عملت على موضعة تجربة الدولة في العالم العربي بالنسبة الى ما هي عليه في الغرب. حيث ان من شأن عدم تيقّن الطبيعة الجيولوجية للأرض التي يقوم عليها بناء الدولة أن يضيّع الموضوع وأن يشعر القارىء بأنه يقرأ في مسائل نظرية، بعيدة عن واقعه، وجميلة جداً في المبدأ. يضاف الى ذلك ان الكاتب، في معرض كلامه هذا، يستخدم باستمرار مصطلح الليبرالية وكأنه مفهوم متوقّف في الزمان، يغرس جذوره في القرن التاسع عشر الأوروبي وفي نظريات كينز وآدم سميث. فما من كلام مفصّل حول ما يُعرف بالنيو-ليبرالية ولا عن هذا الغول المتنامي الحضور في العالم أجمع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعروف بالالترا-ليبرالية، أي الليبرالية القصوى. وميزة هذا النظام الجديد، الذي أطلقه عالمياً الأميركيون في زائير وبلدان جنوب شرق آسيا ولبنان والبريطانيون أوروبياً في عهد السيدة مارغريت ثاتشر، انه يرغب في التأسيس لنظام اقتصادي عالمي جديد قوامه الاحتكار الرأسمالي العالمي، مع ادخال دول الجنوب المختلفة في مسارات تؤدي بها تدريجياً الى تجيير الانتاج العام في البلاد، كما خدمات الدولة المختلفة، للقطاع الخاص. تحت شعار مفاده ان الدول التقليدية تنوء تحت ثقل موظفيها وهذا صحيح نسبياً ولكن للتوصل الى نتيجة أخرى، في حقل آخر، وهي ان على القطاع الخاص أن يحلّ تدريجياً مكانها وان يسير مسار المجتمعات بحسب منطق السوق. فالفلسفة القصوى لهذا النموذج في التنظيم الاقتصادي لحياة الشعوب تكمن في اعلان الطلاق الكلّي بين دولة الرعاية والمجتمعات التي تقوم على أساسها، تعزيزاً لحكم مطلق للرأسمالية ولقوانينها الربحية الصرفة. ومما لا شك فيه ان هذه النظرية الفاسدة التي أدت في لبنان الى الذوبان التدريجي للطبقات الوسطى، وكذلك في مصر، والتي أدت الى الانهيار الكامل في زائير وفي تصدّعات عميقة تهزّ حالياً "دول" جنوب - شرق آسيا، بخاصة إندونيسيا وتايلاندا بعد كوريا الجنوبية، قد أعطت نتائج مشابهة في فرنسا نفسها، في قلب أوروبا، حيث قامت النقابات العمّالية والطلابية بالتصدّي له وبإسقاط حكومة الان جوبي الذي قاد حملة الدفاع عن "المشروع الإصلاحي"، الالترا-ليبرالي، فعادت رئاسة الحكومة في البلاد الى اشتراكي من جديد. فالمجتمع، هناك، هو الذي لعب دور الدولة، مكيفاً الاقتصاد بحسب حاجاته هو، عام 1995 في فرنسا. أما عندنا فأخطر ما في الأمر ان لا جماهير واعية تطالب بشؤون اقتصادية استراتيجية تهمّ البلاد والعباد. بمعنى آخر هناك غياب للمجتمع المدني في ادارة شؤون الدولة، وبالتالي في تحديد المسار الاقتصادي العام للدولة. الأمر الذي يجعل من الجماهير المسكينة لقمة سائغة للأقوى في اللعبة الاقتصادية الكبرى. وربما أفيَدُ وأعمق ما في كتاب حازم الببلاوي ما يكتبه، في القسم الثاني من مقاربته، حول تجربة التخصيصية في مصر. فهنا نشعر اننا أمام تحليل رصين وعميق لظاهرة متفرعة في الواقع عن النظرية الألترا-ليبرالية الجديدة بدأت تجتاح اقتصاد بلاد النيل. إذ يعمد المؤلف الى التعاطي مع هذا الشأن الجديد بحذر كبير. فالتخصيصية إنما تهدف، في مصر كما في غيرها من البلدان، الى اخضاع القطاعات الانتاجية الرسمية لقواعد السوق ومنطقه. فقطاع النسيج، العام، يستوقف المؤلف قبل تحوّله الى القطاع الخاص. صحيح ان انتقال هذا القطاع من هذا المجال الى ذاك قد يجعله اكثر فعالية وأكثر حضوراً في أسواق المنافسة الدولة الا ان الوجه المخفي من القمر يقع في الفائدة الاجتماعية العامة من هذه العملية. فيؤكد هنا المؤلف - وهو مصيب - على ضرورة توفير المشروعية لهذه العملية، قبل الإقدام عليها، بحيث تأتي في سياق عادل وسليم. يشرط الكاتب دفاعه عن التخصيصية بالعدالة الاجتماعية للمشروع ككل ولتطابقه مع المشروعيّة الاجتماعية العامة. اذ ما الفائدة من تخصيص قطاع عام في الانتاج إن أدّى ذلك الى تعميق الشرخ بين الطبقات الاجتماعية عن طريق زيادة عدد المحتكرين وأصحاب الثروات الطائلة، المستفيدين من تسهيلات مصرفية كبرى، والى زيادة عدد المحرومين في البلاد بشكل مواز؟ فالمسألة دقيقة للغاية حيث ان التخصيصيّة، في نظر الكاتب ليست مطلوبة للكفاية الاقتصادية، بل أيضاً لزيادة الدخل العام والرفاهية العامة في البلاد. والا خرجت التخصيصية عن هدفها المشروع. وقد ذهب حازم الببلاوي في تحفظه هذا الى حدّ الاشارة الى مخاطر هذه الخطوة ان أتت خارج شروط المشروعية والمصلحة العامة، حيث يقول ان "العمل بغير ذلك هو نوع من وضع قنبلة موقوتة قد تنفجر في المستقبل البعيد أو القريب". والواقع ان هذه القنبلة قد بدأت بالانفجار، في فرنسا على أرض اوروبا، وفي زائير على أرض أفريقيا، وفي أندونيسيا على أرض آسيا. والحبل ما زال على الجرار، على حدّ تعبير المثل الشعبي. فالتخصيصية أمر جميل، ولكن الذين ينادون بها ويقودون خطواتها على الأرض، أناس بشعون وجشعون. حيث انهم على نحو عام رجال مال وأعمال يُحشرون حشراً، برعاية دولية، في مراكز سياسية عليا، يلعبون بعدها بالشأن العام طبقاً لمصالحهم ومصالح شركائهم، لا طبقاً لمصالح الناس. يقول الكاتب هنا ان "نجاح برنامج التخصيصية قد يعتمد في الدرجة الأولى على أسلوب التنفيذ وليس مجرد الأخذ بالمبدأ ذاته. فالمبدأ قد يختلف في التنفيذ". وكلامه صحيح للغاية. الا انه ينقصه اننا شهدنا، بأم العين، هذه الشريحة الجشعة واللا اجتماعية تعمل، بمنطق السوق والربح لا غير، في أكثر من بلد عبر العالم في عدد من البلدان الأفريقية حيث تستبيح المبادرات الاقتصادية الخاصة الخيرات العامة وحق الأجيال القادمة بها، كثروة المعادن الاستراتيجية والألماس. ومن هنا فلا مجال لغض النظر عن التطبيقات العملانية للتخصيصية الجشعة والمفترسة لمداخيل "صغار الكسبة"، بحيث انه يتراءى للقارىء ان الكاتب إنما يكتفي بوصف ما يطوف من جبل الجليد على سطح الماء، دون التجرّؤ على كشف الحجم الحقيقي والخفي لجبل الجليد الذي بدأت اقتصادات عديدة بالاصطدام به، على نحو ما حدث للتيتانيك التي سوِّقت اعلامياً على انها غير قابلة لا للحرق ولا للغرق حينذاك. ربما اقتضى بنا الأمر اليوم البحث عن صيغة غير صيغة التأميم الاشتراكي السابقة، المفلسة والمتخشّبة، وعن صيغة بعيدة أيضاً عن صيغة التخصيصية الالتر-ليبرالية، المبنية على أساس مالي بحت" صيغة تأخذ بعين الاعتبار ان مهمة الاقتصاد الأولى والأخيرة هي إسعاد الناس، حيث اننا كلما ابتعدنا عن هذه الفكرة البديهية والبسيطة، اقتربنا اكثر من براكين الثورات الاجتماعية المتعددة الأشكال والألوان